الخميس، 21 يوليو 2016

قصة : تفكّكٌ ووحدة ! ( M-F )



قصة : تفكّكٌ ووحدة ! ( م - ف )

- بضعة تنويهات :

تنويه 1 : هذه القصة تعمد في كثير من أجزائها إلى استخدام لغة قد تعد مرتفعة قليلاً عن عربية الجرائد والصحف , فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك , فقد  نوهنا به .

تنويه 2 : تصوِّرُ القصة في معظمها علاقةً ذات طابع جنسي بين ذكر وأنثى , علاقتهما علاقة أستاذ جامعي بطالبتِه , فإن كانت هذه أو تلك تسوؤك / تسوءك, فقد نوهنا بهما . 

تنويه 3 : مما تشمله تلك العلاقة ذات الطابع الجنسي ما يعرف بالإنجليزية / بالإنكليزية بـ


فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .

تنويه 4 : هذا العمل ضرب من الخيال لم يقع ولا أجزاؤه ,  ولا قَصَدَ إلى تصوير ما وقع بكليته أو بجزء منه , وشخصياته ليست محاكاة لشخصيات واقعية وأي تشابه بينها وبين أي شخصية واقعية حية أو ميتة علمنا بها أو لم نعلم محض صدفة , وأي حثٍّ على فعل أو على الامتناع عن فعل بناءً على ما في القصة مما تُوُهِّم أنه مغزى فهو غيرُ مقصود من المؤلف , وليس حثاً على الحقيقة , ومتى وقع الفعل الذي تُوُهِّم أنه حُثَّ عليه فالفعل مسؤولية / مسئولية فاعله ولا يسأل المؤلف عن ذلك .

فإن كان أيٌّ من هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .

تنويه 5 _ وهو فرعٌ على تنويه 4 _ : قد يبدو أن هذه القصة تحاول الاقتراب من المفاهيم التي تتناولها إحدى مدارس علم النفس , وهذا لا يعدو أن يكون استغلالاً لفكرةٍ ما _ بشكلٍ شديد السطحية _ من أجل دفع الأحداث بهذا الاتجاه أو ذاك ؛ ويرى المؤلف ضرورة التأكيد على خيالية العمل وبعدِه تماماً عن شبهة الواقعية أو شبهة تأسيس ما تحويه تلك القصة على أساس علمي أو أخلاقي أو اجتماعي أو غيره ..

فإن كان أيٌّ من هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به . 


- القصة :

(1)
تفكّك !

الطبقة الأولى : دهشة

أفتح البابَ وأنتظر ...
الثواني تمر متثاقلة ..
كلامُه لا يزال يدوِّي في أرجاء القاعة ...
أنا مشغولة عن كلامه بحرج الموقف ...
عيون الطلاب والطالبات تفارق وجهه لثوانٍ لتنظر إليّ ..
حرجي يزداد ...
بدأ الحرج يصل إلى درجةٍ لا يمكنُ معها أن أستمر في هذا الموقف...
أحاول موازَنَةَ الخيارات ... ولكن عقلي قد وصل درجة من التأفف والذعر لا تسمح بموازنة ...
أحاول الخروج من الباب المفتوح بخطواتٍ أخطوها للخلفِ , لعله إن نظر تجاهي لا تقع عيناه على ظهري ...
لم ينظرْ تجاهي حتى خرجْتُ من الباب المفتوح , وأغلقْتُه ورائي ..
أنظر في حسرة إلى الباب المغلق والصوت لا يزال يتسرب منه ...
وأفكِّر في نفسي وأنا ألومها : ألم يكنْ في وسعي أن أتنحنح أو أن أطلب الإذن بالدخول ...
وأحاول أن أجد عذراً لعدم صنعي ذلك فأقول : ولكنني كنْتُ لأقاطعَه حينَها ...
ولكن ماذا عن التوجه لأحد الكراسي والجلوس بدون إذن ؟ ...
أرجع مرةً أخرى للتبرير : ولكن ماذا إذا كان لم يشعرْ بفتحِي البابَ ؟  وحينها كان سيرى توجهي لأجلس _ وأنا لم أستأذنْه لأدخل _ فلعلَّه يغضب .
استغرقتْ أفكاري بضع ثوانٍ ...
فوجئتُ بتوقف الصوتِ عن الكلام ..
صوت خطواتٍ تتجه صوبي , أو صوب الباب المغلق للدقة ..
أحاول التفكير في ذعرٍ : هل أنصرف أم أبقى ؟
هل علم بوجودي من أحد الطلاب , وظن أنه لا تزال هناك فرصة لبقائي في الخارج , فهو يَهِمُّ بفتح الباب ودعوتي للدخول ؟
أم هل أنهى محاضرتَه ويَهِمُّ بالانصراف ؟
وأرد على نفسي : إنه شديد الدقة والاحترام لمواعيده ؛ لن ينهي المحاضرة قبل ميعادها , وأنا حضرْتُ في منتصفها تقريباً , ولم يمرّ وقتٌ كافٍ لتنتهي ... أم هل تراني وقفْتُ مكاني لنصف ساعة كاملة وأنا أخوض في هذه الأفكار ؟
رددْتُ على نفسي في ثقة : من المحال أن أكون قد وقفْتُ لنصف ساعة كاملة دون أن أستشعر ذلك تعباً في رجليّ أو إحساسًا بالوقت بأي طريقة أخرى !
ولكن ماذا يضرّ أن أنظر في الساعة لأتأكد ؟
أرفع ساعة يدي إلى عينيّ , فيقاطعني صوتُ مزلاج الباب وهو ينفتح ..
كيف غفلْتُ عن ذلك ؟!
أتوجّه ببصري في ذعرٍ إلى الباب المفتوح لتقع عيناي على عينَيْ المحاضر ..
ليس عيني المحاضر بالضبط ؛ عيناه وقد صَغُر عمره نحواً من خمس عشرة سنة ...
لم يعد في أوائل الأربعينات , بل في أواخر العشرينات ...
أعود لأتأمل وجْهَهُ فأفطن إلى خطئي ...
هذا ليس المحاضر وإنما قريبٌ له ؛  أصغر من ابن وأكبر من أخ , ولكنه شديد الشبه به ...
وأرى في عينه ضحكة تطل برأسها من أعماق روحه ثم يزجرها فترجع إلى مكانها في داخله ..
ويقول لي بصوتٍ لا يزال يدافع أثر الضحكة :
- " هل هذا التيهان يلازمكِ طيلة الوقت ؟ "
ويضيف :
" على أية حال لقد أوقفْتُ محاضرة أخي _ وبالنظر إلى أنك من طلابه فأنتِ على علم بمدى كرهه لذلك _  حتى أدعوكِ للدخول , فقد ظننْتُ _ نظراً لتيهانكِ _ أنكِ ستقفين فترةً أخرى خارج الباب تائهةً كما وقفتِ داخل المدرج "
أحاول أن أرد بشيءٍ ولكن صوت المحاضر _أخيه _ ينبعث من الداخل :
- " هلّا دخلْتما أو بقيتما في الخارج ؟ إن لدينا محاضرة لنُتِمّها ! "
يشير إليّ أخوه _ الوغد _ لأسبقه في الدخول , فأفعل , وأحاول أن أتمتم بكلمات اعتذارٍ أتوجه بها إلى أخيه , ولكنها تفشل في القضاء على أمارت الضيق البادية على وجهه !
أتوجه إلى كرسيّ فارغ في أبعد مكان ممكن عن المحاضر وأجلس فيه , فيأتي الوغد إلى الكرسيّ المجاور لي ويجلس ...
وأتساءل في نفسي عما يريده !
_______________________________

الطبقة الثانية : إعجاب

أفتح البابَ وأنتظر ...
لا شك أن صوتَ البابِ مسموعٌ للمحاضر , لقد حاضر سنواتٍ طوالاً حتى يدركَ _ بلا وعيه _ عندما يفتح أحد الطلاب الباب وينتظرُ الإذن ..
الثواني تمر متثاقلة ..
لماذا لا يوجِّه بصري تلقائي , كلما زاد الوقت الذي أقضيه واقفةً بانتظار أن ينظر تلقائي لأستأذنه , كلما صَعُب عليّ فيما بعد أن أتكلم وأقاطعه لأستأذن , لأنه حينها سيقول _ وله الحق _ لقد شعرْتُ بوقوفكِ فترة طويلةً فلماذا لم تستأذني من البداية إن كنتِ تنوين أن تستأذني ؟
كلامُه لا يزال يدوِّي في أرجاء القاعة ...
هذا ليس صوتَ شخص ينوي أن يقطع كلامه قريباً , النغمة مندفعة , والأفكار التي وراء صوته تبدو متسلسلة تسلسلاً مطرداً , هذا الموقف ذاهبٌ للأسوأ ..
أنا مشغولة عن كلامه بحرج الموقف ...
ولكني لا أغفل عن التقاط بعض الكلمات والجمل : "النقطة الثالثة ... " هل اقتصر على ذكر نقطتين طيلة النصف ساعة ؟ أم أن هذه هي النقطة الثالثة من الموضوع الرابع مثلاً الذي نوقش في هذه المحاضرة ...
عيون الطلاب والطالبات تفارق وجهه لثوانٍ لتنظر إليّ ..
الآن لا شكّ في أنه رآني , لو كان مشغولاً عن المحاضرة لنظر إلى الباب عندما سَمِعَ صوتَه ينفتح , ولو كان مشغولاً بالمحاضرة لانتبه إلى مفارقة عيونِ كثيرٍ من طلابه له لتَنْظُرَ _ في وقتٍ واحد أو أوقات شديدة القرب من بعضها البعض _ إلى الباب . أمَا وقد تجاهلني الآن فلا شكَّ أنه يتجاهلني عمداً .
حرجي يزداد ...
لا شك أنه رأى العيون وهي تتجه نحوي , وعَلِم _من قلة الخيارات _ سببَ اتجاه عيون طلابه إلى الباب 
لماذا يتجاهلني ؟
لطالما شعرْتُ أن عينيه تنظران نحوي عمداً في المحاضرات السابقة , فسّرْتُ هذا على أنه نرجسية مني وقراءة اعتباطية ترى في الواقع ما تريده هي لا ما وَقَع فعلاً ...
ولكن _في تلك المحاضرات السابقة _ عندما يفتحُ أحد الطلابِ البابَ , كان ينظر نحوَه ويشير له بيده ليدخل , وتعوّدَ بقيةُ الطلاب إذا تأخروا أن يفتحوا الباب ولا يقولوا شيئاً لئلا يقاطعوه , ما دام هو من سينظر نحوهم ويشير بيده ليدخلوا , وكذلك فعلْتُ اليومَ فلماذا لم يكرر عادته في إدخال الطلاب المتأخرين بإشارة من يده ؟
ألا تزال نرجسيةً إذا فكرْتُ أنه خصّني بهذه المعاملة دون سائر الطلاب ؟
ولكن لماذا فعل ذلك ؟
أم لعله قد طرأ له طارئٌ اليوم فمنعه من التعامل مع هذه الواقعة الاعتيادية تعاملاً عادياً ؟
أشعر أكثر بالخجل ؛ ها أنا ذي أفسر كلَّ شاردة وواردة من أفعاله تجاهي ؟
لماذا أفعل ذلك ؟
هل هذا الإفراط في التفسير يعبر عن إعجاب أحاول كتْمَه وإخفاءه حتى عن نفسي ؟
هل أنا معجبة بأستاذي ؟!
بدأ الحرج يصل إلى درجةٍ لا يمكنُ معها أن أستمر في هذا الموقف...
أحاول موازَنَةَ الخيارات ... ولكن عقلي قد وصل درجة من التأفف والذعر لا تسمح بموازنة ...
ماذا أفعل الآن ؟!
هل أهرب ؟
ولكن لماذا أهرب ؟
ألأنني فتحْتُ الباب فلم يؤذن لي ؟ أم لأنني بدأت أشك في سر نفسي وأخشى إن بقيْتُ في مكانٍ واحد مع من تهواه النفسُ أن يفتضح أمر نفسي ولا يخفى عليّ منه شيءٌ ؟
ربَّما عليّ أن أهربَ , ماذا إن كنْتُ من الفطنة بحيث وقعْتُ على ما يريد ( لا وعيي ) أن يظل خفيًّا مدفوناً فيّ ...
أنا لا أريد أن أعالَج من عقدي النفسية , إن كان ذلك العلاج سيتضمن أن أصارح نفسي بإعجابي بهذا المحاضر بالذات ..
لطالما قارنْتُ بينه وبين القصص التي كانت أمي تخبرني بها عن أبي الذي تُوُفّيَ قبل أن أستطيع الكلامَ بعد !
كلما ذكرَتْ أمي هدوءَ أبي وصبرَه على ما يُفْقِد غيرَه صوابَه , أو رقّتَه وعطفه التي _ مع ذلك _ لم تغرِ أحداً _ولا أقربَ المقربين إليه_ أن يتجاوز معه في كلام أو في فعل , أو مثابرَتَه حتى يصل إلى هدفِه غير عابئٍ بما يعترض طريقه في سبيل ذلك ... كلما ذكرتْ أمي ذلك من صفاتِ أبي _ ولعلها تبالغ _  لم أجدْ مثالاً واقعياً أتمثل فيه كل هذه الصفات على أرض الواقع بدون مبالغة إلا في هذا المحاضر بالذات  _ أو لعلي أنا التي أبالغ هذه المرة _ !
فإذا انتهيْتُ إلى أنني _ رغماً عني _ معجبةٌ به , فلعل في هذا اعترافًا بعقدة الأب المفقود من حياتي التي قرأتُ عن معاناة مَنْ نشأْن يتيماتِ الأب منها ..
أنا لا أريد أن أعترف بذلك ..
فلأهرب إذن ..
أحاول الخروج من الباب المفتوح بخطواتٍ أخطوها للخلفِ , لعله إن نظر تجاهي لا تقع عيناه على ظهري ...
فهل خوفي من أن ينظر في الوقتِ غير المناسب فيراني أنصرف من محاضرتِه _ التي لم أدخلْها رسميًا حتى _ , هل خوفي هذا راجعٌ إلى رغبتي في الظهور أمامه بمظهر الطالبة المثالية , التي تحصل في مادتِه على أعلى الدرجات ولا تغيب عن شيءٍ من محاضراته _ وهذا سلوكٌ نادرُ الحدوثِ مني مع أي مادة أخرى _ ؟
أم هل خوفي هذا راجع إلى أنني أخشى أن يكره شيئاً أفعله حتى لو كان هذا الفعل من أفعال طالبة مثالية ؟
ماذا إذا قال عرضاً في محاضرة ما : إن اجتهاد طالبة ما يجعلها تتحول إلى موضوع منتهٍ في عين أستاذها , ولكن إخفاقها هو ما يجعلها مثار اهتمامه ليحاول أن يعيدها إلى الطريق القويم ؟
لو قال هذه العبارات _ فرضاً _ فهل أنا سأتفاجأ فعلاً إذا هبط مستواي في مادته " بشكل غير مقصود " ؟
أم إنني أعلم في داخلي أن كل ما أريده من وراء الاجتهاد في مادته هو نيل رضاه واهتمامه , فإذا لم يكنْ هذا هو الطريق لنيل اهتمامه , فلْأسلكْ غيره ؟
أعتقد أنه خيرٌ من إجابة هذه الأسئلة أن أهرب !
لم ينظرْ تجاهي حتى خرجْتُ من الباب المفتوح , وأغلقْتُه ورائي ..
أنظر في حسرة إلى الباب المغلق والصوت لا يزال يتسرب منه ...
لقد هربْتُ !
ثم ماذا ؟
حسناً إن بإمكاني أن أغادر في هذه اللحظة ..
 لعله لم يرني , لعله لم يشعر حتى أن بابًا فُتِح ثم أغلق !
ستمر الأمور بسلام , منذ بداية الفصل الدراسي لم أتغيب عن محاضرة واحدة له , فهو على الأغلب لن يلحظ عدم حضوري هذه المرة  .
ولكن مهلاً .. لماذا لا يلحظ عدم حضوري ؟!
هل كانتْ فرحتُه زائفة عندما أعلن نتيجة امتحان منتصف الفصل الدراسي ووجد لأول مرة أن طالباً أو طالبة قد حقق الدرجة النهائية فيه ؟
هل كان ذلك فخراً زائفاً عندما قبض على راحتي في كلتا يديه , وقال إنه لن يقبل أن تكون أفضل طالبة لديه قانعةً بأي وظيفة أخرى غير الاستمرار في دراستها الأكاديمية بعد التخرج ؟
لقد غيَّرْتُ كل خططي لمّا قال ذلك , لقد حرصْت حتى على الاجتهاد في بقية المواد حتى أستطيع الاستمرار في ( الدراسة الأكاديمية تلك ) , فهل كان ذلك كله تمثيلاً ؟
أم أنه كان صدقاً ... ثم بعد ذلك فكّر في نفسه : هذه الطالبة مستواها في بقية المواد ليس بهذه الجودة , لعل مستواها المتميز في هذه المادة راجع لسبب آخر ( غير أكاديميّ ) وسرعان ما سيزول , ربما لن ينتهي الفصل حتى تبدأ درجاتها في هذه المادة تقترب من درجاتها في المواد الأخرى , بل ربما تبدأ في التغيب عن محاضرات هذه المادة أيضاً , وتكفّ عن المجيء قبل الجميع والانصراف بعد الجميع كما تفعل الآن .
أشعر بوخزٍ كالإبر في جلدي , لو كان فكّر في مثل هذه الأفكار فقد أجبْتُه إلى ما سأل , ها أنا ذي لا أحضر متأخرةَ فحسْبُ بل أتغيب بالكلية عن إحدى محاضراته .
وأفكِّر في نفسي وأنا ألومها : ألم يكنْ في وسعي أن أتنحنح أو أن أطلب الإذن بالدخول ...
وأحاول أن أجد عذراً لعدم صنعي ذلك فأقول : ولكنني كنْتُ لأقاطعَه حينَها ...
ولكن ماذا عن التوجه لأحد الكراسي والجلوس بدون إذن ؟ ...
أرجع مرةً أخرى للتبرير : ولكن ماذا إذا كان لم يشعرْ بفتحِي البابَ ؟  وحينها كان سيرى توجهي لأجلس _ وأنا لم أستأذنْه لأدخل _ فلعلَّه يغضب .
أو لعلني في داخلي أردْتُ أن أجرِّب ما سيحدث عندما أخيِّب ظنه للمرة الأولى ...
لعلي لم أخيِّبْ ظنَّه ؛ لعله لا يهتم بي , ولم يشعر بشيء ..
ولكن حينَها فما الضرر من تخييب ظنِّه إن لم يكن هناك شيءٌ ليُخيَّب .
ولكن إن كان هناك اهتمام بي , ثم خيبْتُ ظنه عامدة أو شبه عامدة , فما السبب الذي يدفعني لذلك ؟
لعلني أريد أن أتأكد من وجود شيءٍ ما , وليكن هذا الشيء : إعجاب أستاذ بطالبته , أو فخره بمستواه التدريسي الراقي الذي أثمر إيجاباً في هذه الكائنات التي لا يثمر في صحراء عقولها الجرداء شيءٌ ..
ليكنْ أياً من هاتين فيبدو أنني قانعة به .. وأنني مستعدة لتخييب ظنه لأتأكد منه .
وأفاجأ بهذه الفكرة : مِنْ هَرَبي من الاعتراف بإعجابي به , إلى تسليمي برغبتي في التأكد من وجود اهتمام ولو راجعاً إلى ما لا عاطفة فيه ..
هذا ليس حباً حتى , إن هذه مرحلة أخطر من الحب , شيءٌ شبيهٌ بما كان ذلك الشاعر الأحمق يتحدث عنه .. ما الذي قاله : يلذّ لي أن أعلم أنكِ تسبينني لأن في هذا اعترافاً بأنني أخطر على بالكِ.. أو شيءٌ من هذا القبيل .. هل وصلْتُ إلى هذه المرحلة ؟
استغرقتْ أفكاري بضع ثوانٍ ...
فوجئتُ بتوقف الصوتِ عن الكلام ..
ما الذي يحدثُ ؟
كانتْ أول خاطرةٍ خطرتْ لي : ربما تذكَّر غياب طالبة معينة , فأنزل المايكرفون وسأل بصوته العادي عن فلانة أين هي ؟
ثم رجعَ إليّ عقلي مؤنباً , فتنبهْتُ إلى سذاجة الخاطرة ..
ثم رجعْتُ إلى الواقع ..
صوت خطواتٍ تتجه صوبي , أو صوب الباب المغلق للدقة ..
أحاول التفكير في ذعرٍ : هل أنصرف أم أبقى ؟
هل علم بوجودي من أحد الطلاب , وظن أنه لا تزال هناك فرصة لبقائي في الخارج , فهو يهم بفتح الباب ودعوتي للدخول ؟
أم هل أنهى محاضرتَه ويهم بالانصراف ؟
وأرد على نفسي : إنه شديد الدقة والاحترام لمواعيده ؛ لن ينهي المحاضرة قبل ميعادها , وأنا حضرْتُ في منتصفها تقريباً , ولم يمرّ وقتٌ كافٍ لتنتهي ... أم هل تراني وقفْتُ مكاني لنصف ساعة كاملة وأنا أخوض في هذه الأفكار ؟
رددْتُ على نفسي في ثقة : من المحال أن أكون قد وقفْتُ لنصف ساعة كاملة دون أن أستشعر ذلك تعباً في رجليّ أو إحساسًا بالوقت بأي طريقة أخرى !
ولكن ماذا يضرّ أن أنظر في الساعة لأتأكد ؟
أرفع ساعة يدي إلى عينيّ , فيقاطعني صوتُ مزلاج الباب وهو ينفتح ..
كيف غفلْتُ عن ذلك ؟!
استعدِّي للقاء الحبيب , ماذا إذا سألك عن علة تأخركِ وتأكد لديكِ اهتمامه بكِ _ حتى لو كان اهتماماً أكاديمياً _ ونلْتِ منيةَ نفسك ؟
ولكن ماذا إذا كانتْ الأخرى وفوجئ بوقوفِك أمام الباب ؟
لعل من المناسب أن أهرب مرة أخرى ولكن هذه المرة لا وقتَ للهرب !
أتوجّه ببصري في ذعرٍ إلى الباب المفتوح لتقع عيناي على عيني المحاضر ..
ليس عيني المحاضر بالضبط ؛ عيناه وقد صَغُر عمره نحواً من خمس عشرة سنة ...
لم يعد في أوائل الأربعينات , بل في أواخر العشرينات ...
أعود لأتأمل وجْهَهُ فأفطن إلى خطئي ...
هذا ليس المحاضر وإنما قريبٌ له ؛  أصغر من ابن وأكبر من أخ , ولكنه شديد الشبه به ...
هل كان هذا المحاضر متزوجًا طيلة الوقت ؟
إنه لا يرتدي خاتم زواج في إصبعه , فلعله مطلق إذن ؟
ثم لا بد أنه أنجب في الخامسة عشرة أو قريباً من ذلك ليكون ابنُه في هذا السن !
وأرى في عينه ضحكة تطل برأسها من أعماق روحه ثم يزجرها فترجع إلى مكانها في داخله ..
ويقول لي بصوتٍ لا يزال يدافع أثر الضحكة :
- " هل هذا التيهان يلازمكِ طيلة الوقت ؟ "
أفكِّر فيما قاله , ثم أفطن أنه لا بد قد رآني وأنا أقف على باب المدرج فترة لا أتكلم فيها أو أدخل , ففسّر هذا على أنه تيهان ...
أندفع لأرد عليه حتى لا يعتقد أن تفكيري في سؤاله إجابةٌ بالإيجاب ..ولكنه يبادرني..
ويضيف  :
- " على أية حال لقد أوقفْتُ محاضرة أخي _ وبالنظر إلى أنك من طلابه فأنتِ على علم بمدى كرهه لذلك _  حتى أدعوكِ للدخول , فقد ظننْتُ _ نظراً لتيهانكِ _ أنكِ ستقفين فترةً أخرى خارج الباب تائهةً كما وقفتِ داخل المدرج "
أجد الدماء تندفع إلى وجهي .. تائهة ؟ ... هذا الوغد !
وأحاول أن أرد بشيءٍ ولكن صوت المحاضر _أخيه _ ينبعث من الداخل :
- " هلّا دخلْتما أو بقيتما في الخارج ؟ إن لدينا محاضرة لنُتِمّها ! "
دخلتما ؟
لقد قرنني بأخيه في كلمة واحدة , هل هذا مقصود ؟
هل هي زلة فرويدية كما تسمّى ؟
هل يفكر فيّ باعتباري مشروع فرد من الأسرة بصورة أو بأخرى ؟
هل هذه القشعريرة التي تعروني ناشئة عن البرد ؟
لا يبدو أن هذا المدرج بهذه البرودة !
يشير إليّ أخوه _ الوغد _ لأسبقه في الدخول , فأفعل , وأحاول أن أتمتم بكلمات اعتذارٍ أتوجه بها إلى أخيه , ولكنها تفشل في القضاء على أمارت الضيق البادية على وجهه !
ما علة غضبه ؟
إيقاف المحاضرة ؟
إيقاف المحاضرة بسبب طالبة ما _ ويُفْتَرَضُ بالطلاب أن يحضروا من بداية المحاضرة_  ؟
إيقاف المحاضرة بسبب طالبة معيّنة يفترض بها بالذات أن تحضر من بداية المحاضرة , وإن لم تفعل فإن الانشغال بغيابها يؤدي إلى قلق المحاضر ؟
يعود عقلي مرة أخرى للتأفف من هذا التفكير الطفولي الطموح , فأضطر لأن أسكت .
أتوجه إلى كرسيّ فارغ في أبعد مكان ممكن عن المحاضر وأجلس فيه , فيأتي الوغد إلى الكرسيّ المجاور لي ويجلس ...
وأتساءل في نفسي عما يريده !
____________________________

الطبقة الثالثة : قاعدة الجبل الجليدي

أفتح البابَ وأنتظر ...
الثواني تمر متثاقلة ..
لقد جئتِ متأخرةً , والتأخر ذنبٌ يستوجب عقوبة , والعقوبة مرغوبة والذنب حاضر , ففيمَ التلكؤ ؟!
لقد تأخر ميعادُ استيقاظكِ على الرغمِ من إعدادكِ المنبهَ ليوقظكِ , وعندما استيقظتِ متأخرةً نصف ساعة تساءلْتِ في ذعرٍ عمن أوقف المنبه ؟!
لقد كان ذلك أنا , أو كان ذلك أنْتِ للدقة , إذ لا أُعْتَبَرُ _قانونياً ولا أخلاقياً_ شيئاً منفصلًا عنكِ .
ولكني تعلمْتُ أن أنتظر أثناء يقظتكِ ليُسْمَعَ صوتي وغالباً ما تخرسينني بعد أن يصلكِ صوتي مباشرةً ..
أما وأنتِ نائمة فالسلطان سلطاني , ولا صوت يعلو على صوتي , وإذا كنْتِ ستحرمينني من نيل مرادي وتكبتين رغباتي _ أو رغباتكِ للدقة _ فلنمهد إذاً لتحقيق تلك الرغباتِ رغم أنفكِ ...
هذا الرجل الوسيم ...
 إنكِ لا تسمينه رجلاً , لأنه لا يليق بطالبة في العشرين من عمرها أن تتخلى عن اللياقة وآداب الخطاب وتصف أستاذها بأنه رجل , ولكن آداب الخطاب واللياقة لا تعنيني ؛ هو رجل وأنتِ أنثى , وهذا ما يهم ...
هذا الرجل الوسيم الذي ظللْتُ أبثُّ في منامكِ أحلاماً متوقدةً عنه  , فإذا استيقظْتِ نفيتِها من ذهنكِ بالكلية , فقصرْتِ تأثير ما أفعله على دنيا المناماتِ ولم تطلْ تلك الأحلام دنيا اليقظة ولو حتى كذكرى حلم ...
هذا الرجل الوسيم الذي تريدين أن يبقى مقدساً محميّ الجناب حتى عن أن يُفَكَّر فيه بـ " ما لا يليق " , سأجعلكِ تعيشين معه ما لا يليق .
كيف ؟
 إنني لا أملك التحكم فيه بالطبع , ولكني أعلم من أمره ما لا تعلمين ...
عندما ينظر إليكِ تتشككين في حقيقة نظراتِه , ولكن عندما ينظر إليكَ لا يخفى عليّ من أمره شيءٌ ...
لذا يقولون صدقي حدسكِ فهو يرى ما لا ترين ... لقد صدقوا .. وأنا حدسكِ !
تلك النظرات ليست نظراتِ إعجاب أستاذ بطالبة , ولا نظراتِ حرصٍ أبوي ولا شبه أبويّ ؛ هذه نظرات تريد أن تلتهم الجسد فتصدها عنه الملابس فتلتهم الملابس , فإذا ما فَطِنَ صاحبُها إلى ما تصنعه حاول أن يشدّ لجامها فجرّته بلجامه خطواتٍ فلأياً بلأيٍ ما أوقَفَهَا ..
ولا شكّ أن من يقابلني في عقله قد فطن كذلك إلى آثار إعجابكِ به التي تحاولين جاهدةً أن تخفيها وتشدي لجامها أنتِ الأخرى , فإذا كنتُ أنا هنا وهو هناك على وعيٍ بما يجري , ثم لم نستطعْ أن نُنْفِذَ الأمر إلى غايتِه برضاكما فإنّا نُنْفِذُهُ قهراً ...
فقط يحتاج الأمر إلى شعلة لتضطرم النار ... لقد توفرَتْ كل الظروف المهيئة لاشتعال الحريق ولم يبقَ إلا لمسة البداية ...
وأنا سأتكفل بها ...

كلامُه لا يزال يدوِّي في أرجاء القاعة ...
أنا مشغولة عن كلامه بحرج الموقف ...
ها نحن أولاءِ !
انظري إلى ملامح وجهه ...
لا شكّ أنه رآكِ في مجال بصره .. تلك الرؤية التي لا تذهب مباشرةً إلى وعيه بل إلى لا وعيه ليحللها ويرسل ما يستحق إليه .. لا شكّ أن لا وعيه _ هو الآخر _ يلحّ بهذه المعلومة عليه لينصرف إليكِ , والمسكينُ يحاول أن يخادع نفسَه . وملامحُ وجهِه تفضحه ...
انظري إلي ملامح وجهه...
الرجل يجاهد ليكمل كلامَه ... وينهى نفسَه _ هو الآخرُ _ عن الانصراف إليكِ وترك المحاضرة ومن فيها يذهبون للجحيم ...
لقد كنْتُ أحسبكِ أشد ولعاً به , فإذا هو أشدّ ولعاً بكِ !
المستقبل يبدو مشرقاً  ...

عيون الطلاب والطالبات تفارق وجهه لثوانٍ لتنظر إليّ ..
حرجي يزداد ...
بدأ الحرج يصل إلى درجةٍ لا يمكنُ معها أن أستمر في هذا الموقف...
حسناً هذه هي اللحظة التي يكفّ فيها عن التظاهر بأنه لا يراكِ..
 ولكن ليصنعَ ماذا ؟
إنه لا يملِكُ أن يشير إليك بالدخول وكأن شيئاً لم يكن .. ليس بعد كل هذه المدافعة ...
ولكن ما البديل ؟ أن يستمر في التظاهر بعدم وجودكِ حتى تنصرفي ؟
أنا لن أستطيع أن أنهاكِ عن الانصراف ولا أن أحثّكِ على الدخول بدون إذن , فما الذي سأصنعه حينها ؟
أحاول موازَنَةَ الخيارات ... ولكن عقلي قد وصل درجة من التأفف والذعر لا تسمح بموازنة ...
إنكِ تهمين بالمغادرة !
 عليّ أن أتدخلَ ...
ماذا إذا رآكِ تحاولين الخروج ووقعتْ عيناه عليكِ حينَها وأنت لا ترينه , كيف سيكون رأيُه فيكِ آنذاك ؟

أحاول الخروج من الباب المفتوح بخطواتٍ أخطوها للخلفِ , لعله إن نظر تجاهي لا تقع عيناه على ظهري ...
لم ينظرْ تجاهي حتى خرجْتُ من الباب المفتوح , وأغلقْتُه ورائي ..
الآن تنصرفين إلى البيتِ وتفشل العملية كلها ..
لا يمكنُ أن أسمح بهذا !
ليس بعد أن ظللْتُ لنصفِ ساعة كاملة أعاني الأمرَّينِ لأبقيكِ نائمة ؛ لئلا تستيقظي على عادتكِ في نفس الوقت التي تستيقظين فيه حتى في أيام الإجازات .
لقد بذلْنا الكثيرَ من الجهد لنسمح بضياع كل هذا الآن .
ما الذي تفكّرين فيه على أية حال ؟
... آه , لقد وصلتِ _ أخيراً _ إلى أنكِ معجبةٌ به ..
ولكنكِ لم تعي بعدُ أنه معجبٌ بكِ ..
فلنستغلَّ هذه الأفكار لنعيقكِ عن الهرب ..
فكّري في البدائل التي كانتْ متاحةً أمامكِ للتعامل مع هذا الموقف...
الشعور بالندم سينهاكِ عن الاهتمام برغبتكِ في الهرب وإفشال خطتي ..

أنظر في حسرة إلى الباب المغلق والصوت لا يزال يتسرب منه ...
وأفكِّر في نفسي وأنا ألومها : ألم يكنْ في وسعي أن أتنحنح أو أن أطلب الإذن بالدخول ...
وأحاول أن أجد عذراً لعدم صنعي ذلك فأقول : ولكنني كنْتُ لأقاطعَه حينَها ...
ولكن ماذا عن التوجه لأحد الكراسي والجلوس بدون إذن ؟ ...
أرجع مرةً أخرى للتبرير : ولكن ماذا إذا كان لم يشعرْ بفتحِي البابَ ؟  وحينها كان سيرى توجهي لأجلس _ وأنا لم أستأذنْه لأدخل _ فلعلَّه يغضب .
استغرقتْ أفكاري بضع ثوانٍ ...
فوجئتُ بتوقف الصوتِ عن الكلام ..
صوت خطواتٍ تتجه صوبي , أو صوب الباب المغلق للدقة ..
نجحتْ الخطة , لقد أوقف المحاضرةَ لأجلكِ , وسيخرج أمام الطلبة جميعاً ليطلب منكِ الدخول ..
ولكن هذا يبدو غريباً وأكثرَ مما أردتُه ....
كل ما طمحْتُ إليه كان أن أغريكِ بالانتظار إلى نهاية المحاضرة ثم تدخلين حتى تعتذري من عدم حضوركِ ..
ولكن أن يخرج بنفسه ليعرض عليكِ الدخول ...
هذا فعل مفاجئ غير مبرّر ..
أحاول التفكير في ذعرٍ : هل أنصرف أم أبقى ؟
هل علم بوجودي من أحد الطلاب , وظن أنه لا تزال هناك فرصة لبقائي في الخارج , فهو يهم بفتح الباب ودعوتي للدخول ؟
أم هل أنهى محاضرتَه ويهم بالانصراف ؟
وأرد على نفسي : إنه شديد الدقة والاحترام لمواعيده ؛ لن ينهي المحاضرة قبل ميعادها , وأنا حضرْتُ في منتصفها تقريباً , ولم يمرّ وقتٌ كافٍ لتنتهي ... أم هل تراني وقفْتُ مكاني لنصف ساعة كاملة وأنا أخوض في هذه الأفكار ؟
رددْتُ على نفسي في ثقة : من المحال أن أكون قد وقفْتُ لنصف ساعة كاملة دون أن أستشعر ذلك تعباً في رجليّ أو إحساسًا بالوقت بأي طريقة أخرى !
ولكن ماذا يضرّ أن أنظر في الساعة لأتأكد ؟
أرفع ساعة يدي إلى عينيّ , فيقاطعني صوتُ مزلاج الباب وهو ينفتح ..
كيف غفلْتُ عن ذلك ؟!
حسناً إنه على وشك الخروج بنفسه إليكِ...
 قولي شيئاً على غرار إنكِ استحييْتِ من مقاطعة المحاضرة , وسيقول شيئاً على غرار إنه أحس بذلك , فاستاء من أن يكون الحييُّ محروماً والجريء غانماً فخرج بنفسه ليعطي كل ذي حياءٍ حقَّه ..
هذا سيذهب بحرج الموقف ..
ويعيدنا للمربع الأول ؛ الاعتذار بعد المحاضرة _ وبعد انصرافِ الأغلبيةِ أو الجميعِ حتى _ ..
وحينها سأحاول أن أختزن في ذاكرتكِ من حوارِكما ما يكون وقوداً يستغل فيما بعدُ في إشعال رغباتكِ الدفينة ...
ستسير الأمور على ما يرام .
أتوجّه ببصري في ذعرٍ إلى الباب المفتوح لتقع عيناي على عيني المحاضر ..
ليس عيني المحاضر بالضبط ؛ عيناه وقد صَغُر عمره نحواً من خمس عشرة سنة ...
لم يعد في أوائل الأربعينات , بل في أواخر العشرينات ...
أعود لأتأمل وجْهَهُ فأفطن إلى خطئي ...
هذا ليس المحاضر وإنما قريبٌ له ؛  أصغر من ابن وأكبر من أخ , ولكنه شديد الشبه به ...
وأرى في عينه ضحكة تطل برأسها من أعماق روحه ثم يزجرها فترجع إلى مكانها في داخله ..
من هذا ؟!
ولماذا يبدو في عينيه شيءٌ من الاستمتاع بالموقف الممزوج بالعُجْبِ بالنفس الناشئ عن الاطلاع على سرٍّ لم يكن ينبغي أن يطلع عليه !
هل أَطْلَع ذلك المحاضِرُ غيرَه على سرِّ إعجابه بكِ ؟
هذا مستبعدٌ ..
كيف وهو لم يُصارحْ نفسَه بعدُ بهذا الإعجاب ؟
ولكن ماذا إذا فطِن هذا الشخصُ من تلقاء نفسِه إلى ذلك ...
إن ملامحَه تشي بقرابة لا شك فيها من المحاضر ..
هل تطرق حوارُه معه في يومٍ ما إلى طالبة متفوقة يتوقع لها النبوغ ففطن هذا الرجل إلى ما وراء كلام قريبِه من إعجاب ؟
هذا ليس مستبعداً , وربما أصر بعد ذلك على الحضور معه إلى المدرج لـ " يستمع إليه وهو يحاضر " ..
بينما همّه الأول أن يرى الفتاة محلَّ إعجابِ قريبِه ..
لعله فكّر في نفسه : إن هؤلاء الأكاديميين _ على ظنهم أنهم أذكى الناس _ أحمق الناس في أمور القلبِ , فلنستوثق أن إحداهنّ لا تقوم بالاحتيال على قريبي , وتوقعه في شباكها طلباً لنجاح أو درجاتٍ ..
ولو كان هذا الظن صحيحاً , فإننا الآن تحت المجهر , لتُخْتَبَر مصداقيتُنا ...
وأحاول أن أبثّ هذه المخاوف إليكِ , ولكن القريبَ يبادركِ ..

ويقول لي بصوتٍ لا يزال يدافع أثر الضحكة :
- " هل هذا التيهان يلازمكِ طيلة الوقت ؟ "
ويضيف :
" على أية حال لقد أوقفْتُ محاضرة أخي _ وبالنظر إلى أنك من طلابه فأنتِ على علم بمدى كرهه لذلك _  حتى أدعوكِ للدخول , فقد ظننْتُ _ نظراً لتيهانكِ _ أنكِ ستقفين فترةً أخرى خارج الباب تائهةً كما وقفتِ داخل المدرج "
_على الأقل _هو لا يعتقد أنكِ مخادعة , أو نصّابة ..
أنت فقط " تائهة " و"حمقاء" ..
وإعجاب أخيه بكِ راجعٌ إلى هذه " البلاهة " التي تغري ذوي العقول بالوقوع في غرام أصحابها , لأن المتضادَّيْن يتجاذبان , كما يقال في دروس العلوم الأولية .
علينا أن نثبتَ جدارتَكِ الذهنية الآن ...
ولكنكِ مشغولة بالاستياء مما قاله عن التفكير فيما قاله ...
فلنرجُ أن تسير الأمور بخير ..

أحاول أن أرد بشيءٍ ولكن صوت المحاضر _أخيه _ ينبعث من الداخل :
- " هلّا دخلْتما أو بقيتما في الخارج ؟ إن لدينا محاضرة لنُتِمّها ! "
هذه نغمة صوتٍ تحمل ضيقاً من أي شيءٍ إلا توقفَ المحاضرة !
ولو كان لي أن أعترف بمهارتي_ التي لا شك فيها _ في تمييز العواطف من أصوات أصحابها , لقلْت إنها تحمل من الغيرة أكثر مما تحمله من التأفف !
إن المحاضر يفكِّر في أن أخاه ربما رأى من فتاتِه مثلَ ما رآه هو , وهو أقربُ منها سنًّا فهناك خطورة تستدعي التدخلَ .
هذا يعني أن الأمور قطعاً تسير بشكل جيِّد ..

يشير إليّ أخوه _ الوغد _ لأسبقه في الدخول , فأفعل , وأحاول أن أتمتم بكلمات اعتذارٍ أتوجه بها إلى أخيه , ولكنها تفشل في القضاء على أمارت الضيق البادية على وجهه !
واو ... هذا رائع !
لو كان لي أن أفترض علةَ غضبه لقلْتُ إنه  يكاد يصارع أخاه على الملأ للفوز بكِ !
يخيّل إليّ أنه صار أكثر تواؤماً مع نفسه , واعترافاً بمكانكِ في قلبه ..
إن كنْتُ في شكٍّ من قبل , فلم يعد لديّ شكوكٌ الآن : أنكِ ستنالين قريباً ما أخفيتِه حتى عن نفسكِ طيلة هذه السنين ...

أتوجه إلى كرسيّ فارغ في أبعد مكان ممكن عن المحاضر وأجلس فيه , فيأتي الوغد إلى الكرسيّ المجاور لي ويجلس ...
وأتساءل في نفسي عما يريده !

*******************************

( 2 )
وِحْدَة !


عندما انتهَتِ المحاضرة , كنْتُ قد خلصْتُ إلى أنني ذاهبةٌ رأساً _ وليكُنْ ما يكون _ إلى المحاضر لأعتذر منه ...
لقد ظل يرمقني طيلة الوقتِ بنظراتٍ غاضبة لم أفهم سببَها ..
لقد تأخرْتُ ... حسناً ... أنا معترفة , ولكن هل يستحق ذلك كل هذا الغضب ؟
ما الذي يريده مني ؟
أكاد أقسم أنني أرى في عينيه إعجاباً ما وراء كل هذا الغضب !
هل هذا حبٌّ متبادل ؟
ويأتيني صوتٌ من أعماقي وكأنه صوتُ شخصٍ آخر : إذا كنْتِ لم تعترفي لنفسكِ بإعجابكِ به إلا اليوم وظللْتِ مقتنعة أنكِ لا ترين فيه إلا الأبَ والقدوةَ  , فلعله هو الآخر لم يعترفْ بإعجابه بكِ بعدُ , فهو لا يزال يخفيه خلفَ وهمه بأنه لا يرى فيكِ سوى الطالبة النابغة التي لا يصح أن تتغيب عن نصف محاضرة حتى .
وأفكِّر في ذلك للحظة ...
ثم تروعني الفكرة : لو كان هذا هكذا , فقد يَفْهم اعتذاري على أنه شيءٌ آخر , لعل من الأفضلِ ألّا أعتذر ..
ويفاجئني صوتُ أخيه :
- " لا زلْتِ تائهةً ؟ "
أجدني مندفعة بغضب لأجيبَه , ولكن للمرة الثانية يأتيني نفس الصوت من أعماقي : لا تنشغلي به .. انظري للمحاضر .. في هذه اللحظة .. الآن !
أنصرف عن الرد لأنظر إلى المحاضر , فأفاجأ به غاضباً كما لم أره من قبل !
أشعر بخوف في نفسي , ولكن فكرة تلح عليّ وكأنها كانتْ موجودةً فيّ منذ فترة : إنه يغار عليكِ من أخيه !
فكَّرْتُ للحظة في ذلك فارتسمتْ ابتسامة عابثة على شفتي ؛ يا للسذاجة , ليس إعجاباً فقط وإنما غيرة مرة واحدة !
وأرجعني للواقع ازديادُ الغضب على وجهِ المحاضر ...
مرة أخرى يأتيني صوت أعماقي : إنه يظنّ أنكِ تضحكين بسبب غيرتِه عليكِ !
لم تنتهِ هذه الفكرة حتى جاء صوتُ أخيه مرة أخرى :
- " هل بلغ بكِ التيهان إلى درجة ألا تجيبي سؤالاً عن التيهان ؟ "
هنا دوَّى صوتُ المحاضر بعنف بالغ :
- " (مالك)! هلّا حضرْتَ إلى هنا رجاءً ! "
رد الأخ _ (مالك) _ في سخرية :
- " هل ستطردني من القاعة ؟ وبعد انتهاء المحاضرة أيضاً ؟ "
نظرْتُ حولي فوجدْتُ القاعة فارغةً إلا من طالبين يفتحان الباب للخروج , فتوقفا قليلاً ليريا المشهد المضحك , ولكنَّ توجُّهَ المحاضرِ ببصره إليهما دَفَعَهُمَا للخروج .
القاعة الآن خالية إلا مني ومنه ومن أخيه ...
وصوت أعماقي يعود : المسرح مهيّأ الآن .. فلم يبقَ إلا التخلص من الأخ !
أجد رغبتي في زَجْرِ هذا الصوتِ تخفتُ شيئاً فشيئاً ؛ لِمَ لا أعترف لنفسي أنني أيضاً أرغب في تهيئة هذا المسرح ؟
 أنني عشْتُ سنين طوالاً وأنا أدفن هذه الرغبة في مكانٍ لا يراه إنسٌ ولا جانّ حتى استحالَتْ وحشاً أخاف أن يلتهم كلَّ ما فيّ إن تمكّن مني ..
ولكني الآن أقترب من هذا الوحشِ وأربِّتُ على عنقه , فيتمسّح بفروه في رجليّ ؛ وينفض عنه أماراتِ الوحشية ويتحول إلى هرّ أليف وادع ..
ويتكلم صوتُ أعماقي موضحاً : كل ما يريده أن تتيحي له الفرصة ليرى النور , إنه ليس عدوّك وأنت لستِ عدوّه ... ستجدين كثيرين في الخارج يعادونكما أنتما الاثنين ؛ هذا وقتُ توحيدِ الجهود لا وقتُ شقّ الصف والصراعات الداخلية .
أؤمّن على ما قاله الصوت , فيقاطع حبلَ أفكاري صوتُ المحاضر وقد فقد حدّته , وبدأ يميل إلى الهزل :
- " حسناً إن كان ما تريده هو طردُكَ من القاعة , فأنا على استعداد لتبليغكَ مرادكَ , تفضل بتركِ بطاقتكَ والانصراف من القاعة ! "
لا يزال صوت أخيه عابثاً وهو يرد :
- " بطاقة ؟ "
- " لتكنْ أيّ بطاقة شخصية _بما أنك تخرجْتَ من سنين ولم تعدْ لديكَ بطاقة جامعية _ ضعها وانصرف ! "
- " وماذا عنها " وأشار إليّ " هي من بدأتْ بالكلام معي "
نظرْتُ إليه في دهشة , وعلى الرغم من عبثية الموقف , فقد أجبْتُ في جدية :
- " هذا كذب ! أنا لم أردّ على سؤاله حتى ! "
جاء صوتُ المحاضر متظاهراً بالغضب :
- " لن نقضي المزيدَ من الوقتَ في تحديد مَنْ صنع ماذا , ضع بطاقتكَ على الطاولة واخرج ! "
رد ( مالك ) :
- " ولكن هذا ظلْمٌ _ كما هو واضح _ , أنا لسْتُ طالباً حتى , ومع ذلك فإنك تخصني بالطرد , وطالبتُكَ التي يتوجب عليها احترامكَ لا ينالها عقاب "
أهم بالرد والتعليق بأنني لم أصنع شيئاً ولكن صوتَ المحاضر يرد في جدية مصطنعة :
- " أنت تكلمْتَ بدون إذن... "
- " بعد انتهاء المحاضرة ! "
- " أنت تكلمْتَ بدون إذن أثناء المحاضرة وتسبَّبْتَ في إيقافها لدقائق حتى تتبادل حواراً طويلاً معها خارج القاعة  , وأرى أن هذا كافٍ لطردِك من القاعة , ولو بعد انتهاء المحاضرة . "
نظر إليه ( مالك ) في مكْرٍ وقال :
- " ما الذي تعتقد أنني كنْتُ أتكلم معها فيه , لقد كنْتُ أدعوها للدخول , فظلَّتْ هي تفتح أبواباً للكلام معي وكأنها تريد أن تطيل حوارَنا عمداً , فإيقاف المحاضرة لدقائق ليس ذنبي ! "
ذعرْتُ مما قاله _ وإن كان هزلاً _ ولكني ذعرْتُ أكثر لملامح المحاضر الذي عاوده الغضبُ _ ويبدو أنه صدّق رواية أخيه _ , فقلْتُ :
- " أقسم أن شيئاً من هذا لم يكنْ , لقد ظل يتهكّم عليّ لأنني منشغلة بكَ عن الرد على أسئلته ! "
فطِنْتُ بعد فوات الأوان لما قلْتُه , فحاولْتُ أن أصحح موقفي _ وابتسامة ( مالك ) تتسع , وابتسامة أخيه توشك أن تتحول إلى ضحك لولا مجاهدته نفسَه _ :
- " أعني منشغلة بالتأخر عن محاضرتِك , هذا ما عنيْتُه , لقد كنْتُ مستاءةً بسبب تأخري عن محاضرتِك ... وظل هو يهزأ بي "
رجع لصوتِه بعض الجدية وهو يقول :
- " حسناً أعتقد أن تاريخَكِ كطالبة مجتهدة , وتاريخه كأخ عابث , يرجّح قولكِ على قوله .. مرةً أخرى : رجاءً ضع بطاقتكَ وانصرف ! "
- " أتصدق غريبة وتكذب أخاك ؟ "
- " إنها طالبتي ؛ ليستْ غريبةً بالضبط , ثم : نعم , إنك تكثر العبثَ حتى أظنّ أنك لا تحسن الجدّ "
- " حسناً , أي بطاقاتي تريد ؟ "
- " أيُّها , لا يهم , إن المسألة كلها شكلية . "
أخرج ( مالك ) بطاقة , رمقْتُها على عجل فوجدْتُ فيها رقم هاتف , لا بد أنها بطاقة التعريف به إذن , ثم أخرج قلماً وكتبَ على ظهرِها شيئاً وتوجّه بها إلى أخيه , وقال في هزل :
- " ها هي ذي , متى يمكنني أن أستعيدها ؟ "
- " سأردّها لكَ غداً  "
- " حسناً لنذهبْ إذن ! "
- " إنني لم أنتهِ من عقابِ "زميلتكَ"  "
نظر إليّ ( مالك ) وهو لا يصدِّق نفسَه , ثم رجع ببصره إلى أخيه , وقال :
- " أعتقد أن عليّ الانصراف بعد تسليم بطاقتي , وحينها ستشرع في عقاب " زميلتي " , أليس كذلك ؟ "
- " تماماً ! "
- " حسناً ربما عليك أن تقرأ ما على البطاقة إذن "
ثم انصرف ( مالك ) وأخوه يقرأ ما على البطاقة , فلما رفع بصرَه إليّ قال :
- " لقد جئتِ متأخرة , ثم وقفْتِ لثوانٍ بعد أن دخلْتِ ثم خرجْتِ وكأنكِ في محلٍّ لم يعجبْكِ ما فيه فغادرتِهِ بلا استئذان , ثم تسبَّبْتِ _بصورة أو بأخرى_ في توقف المحاضرة , أعتقد أن كل هذا يستدعي عقاباً , أم كيف ترين ؟ "
وجدْتُني أتجاهل سؤاله وأقول _وقد ذهبَ عني كل خجل منه ومما قاله _ :
- " ما المكتوب في البطاقة ؟ "
- " المعذرة ؟"
- " ما الذي قاله أخوكَ عني ؟ "
لم أدرٍ من أين أتتْني هذه الجرأة , كنْتُ كأنني أتعرف على جانبٍ من نفسي لا عهْدَ لي به قبل اليوم .
وفاجأني أنه رمقني للحظاتٍ ثم قال في هدوء :
- " لماذا تعتقدين أن ما كُتِبَ فيها عنكِ ؟ "
رددْتُ في جرأة يتمناها قائدُ جيشٍ :
- " لأنكَ طلبْتَ من أخيكَ رأيَه فيّ , فكتبَه لكَ قبل أن يخرج , أم أنني أخطأتُ في حدسي ؟ "
كان وجهه قد استغرقتْه الدهشة حتى نسي فمه مفتوحاً للحظاتٍ , قبل أن يتمالك نفسه , ويرد في صوتٍ صارمٍ :
- " ما الذي تعتقدين أني أفعله بالضبط ؟! أنني متفرغٌ لمطاردة طالباتي وأخذ رأي الأصدقاء والأقرباء فيهن ؟! "
- " لا أعتقد أنك من النوع الذي يفعل ذلك . بل من النوع الذي يخاف أن يعترف بإعجابه بطالبة له , ولكنّ حالَه يفضحه , وأنَّ المقرّبين منك _ وعلى رأسهم أخوك _ قد فطنوا لذلك , وأرادوا أن يستوثقوا أن مَنْ أُعْجِبْتَ بها لا تخدعكَ , فهل هذا ما قاله ؟ أنها لا تخدعك ؟ "
نظر إليّ في ذهول ثم قال :
- " لقد قرأْتُ ما كتبه فلمْ أدْرِ عمن يتحدث ! ولكنْ بما إنك متخصصة في معرفة النوايا _على ما يبدو_ , فلنفرض أن مَنْ عناها بـ ( تائهة ولكن لا بأس بها ! ) هي أنتِ . هذا يعني أنكِ أنت وهو قد أخطأتما الظنّ في معرفة نواياي  "
كاد الخجل يفضحني , ولكني تماسكْتُ , ليس الآن وقتُ الخجل والحياء , إن زمام المبادرة بيدي ولو توقفْتُ لتوقفَ , فقلْتُ :
- " ولكنْ قبل أن تقرأ ما فيها , كنْتُ قد عزمْتَ على " طرد " أخيكَ والتفرغ لمعاقبتي , فإن كانتْ قراءتي لنواياك خاطئة فما الذي كنْتَ تنوي أن تفعله ؟ "
- " لا شيء ! كنْتُ سألومكِ وأتمنى ألا يتكرر ذلك في المستقبل "
- " ولماذا لم تفعلْ ذلكَ أمام أخيكَ ؟ "
- " احتراماً لحقكِ في الخصوصية عندما أؤنبكِ , لا أحد يستحق أن يُنْتَقَدَ علناً "
- " يُنْتَقَدَ بسبب ماذا ؟ "
- " بسبب أخطائه "
- " ما الذي أخطأتُ أنا فيه ؟ "
بدا متردّداً , لعل صوتَ أعماقي هذا كان محقّاً , لعله لم يعترفْ حتى لنفسه بحقيقة مشاعره , ثم قال :
- " التأخر , وإيقاف المحاضرة .. "
- " الكثيرات والكثيرون يتأخرون , فلم تؤنب أيًّا منهم من قبل , وتوقّفُ المحاضرة تسبَّبْتَ أنتَ به , كان بإمكانكَ أن تستمر فيها حتى أدخل "
- " ولكن كان ليفوتكِ المزيدُ منها لو فعلْتُ ذلك "
- " لقد فاتني نصفُها ما الذي سيضيرني لو فاتتني دقيقة أخرى؟! "
- " فلماذا أوقفْتُها إذاً من وجهة نظرك ؟ "
- " لأنكَ تريد أن تسمع ما يقوله أخوكَ لي !"
- " ولماذا أريد ذلك ؟ "
- " غيرةً على الأغلب  "
كان هذا وقْتُ اعترافِه إن كان ينوي أن يعترف , لو أنكر الآن  فسيستمر في الإنكار , فقال في تردد : 
- " لنفرضْ أنكِ محقة , ماذا إذن ؟ "
- " أولاً في هذا اعترافٌ بذكائي وقدرتي على إدراكِ خفايا الأشياء , ولعلكَ على علمٍ بذلك , ولكني أتمنى أن تنقل هذه الفكرة إلى أخيك , الذي يظن أنني أقضي يومي مندهشةً من كل ما حولي حتى يجرّني أحدٌ ليذهبَ بي إلى السرير لأنام "
علَتْ ابتسامة على شفتيه , فنظرت إليه كالمغضبة , ثم أضفْتُ :
- " ثانياً : ما دمْتُ محقة , فلنفرضْ أن ما قمْتُ به كان فعلاً يستحق العقوبة المغلظة , ولتُجْرِ هذه العقوبة كما تراه مناسباً "
بدا الاستغراب على ملامحه , ثم فطِن لما وراء كلامي , فقال :
- " إذن فقد نقضْتِ قولي في أنك فعلْتِ ما يستحق العقوبة لتثبتي أن وراء قولي ذلك إعجاباً بكِ حتى إذا ما تقرر ذلك عدْتِ للتسليم أو _للدقّة _ لتمنِّي أن يحلَّ بك عقابي , هل يبدو لكِ هذا منطقياً ؟ "
- " أعتقد أنه يخفي وراءه الكثيرَ من اللبس حول التعريف الجامع المانع للعقاب ! "
- " بالضبط , لأنه لو جعلْنا ما ترجين أن أفعلَه بكِ عقاباً , فسنضطر لتعريف العقاب بأنه : كل قول أو فعل قَصَدَ إلى نهي أو تحريض المعاقب على تكرار فِعْلِه , مما ينتج عنه رضا المعاقِب أو المعاقَب أو كليهما "
- " هذا تعريف جامع ولكنه ليس مانعاً , إنه يشمل الثواب والعقاب فمعظم ما يفعله البشر سيشْملُه هذا التعريف " 
- " فكيف تعرّفينه إذن "
- " كل قول أو فعل قَصَد _أصالةً أو ادّعاءً _ إلى نهي المعاقَب عن تكرار فعله , ونتج عنه رضا المعاقِب وسخط المعاقَب _ أصالةً أو ادّعاءً _ "
- " ففي السياق الذي نحن فيه أنت ترجين أن أعاقبكِ بمعنى أن أقول لك أو أفعلَ بك .."
قاطعْتُه :
- " تقول لي وتفعل بي , ليس فيما أتمناه اقتصارٌ على أحدهما , ولكن إذا كنْتَ ولا بد مقتصراً فبإمكانك أن تغلق فمكَ أثناء عقابي , ولكن لا يمكنكَ أن تكفّ يدك ! العقابُ المقتصرُ على فتح الفم وكف اليد قد شبعْتُ منه في البيتِ وهو لا يعنيني "
ابتسم ثم قال :
- " ...أن أقول لكِ وأفعلَ بك ما ينهاك _ادعاءً_ عن تكرار فعلكِ , وينتج عنه _ ادعاءً _ سخطُكِ "
- " بالضبط ! "
- " ولكن ما الذي أعاقبكِ عليه ؟ "
- " التهمة جاهزة : التأخر وإيقاف المحاضرة وهذا الكلام الفارغ ... "
- " ولكن هناكَ تهمةً أكثر واقعية بكثير ؛ طالبة تقول لأستاذها : "بإمكانكَ أن تغلق فمكَ" , و: "ما الذي قاله أخوكَ عني؟" , و"غيرةً على الأغلب " , وتصف كلامه بأنه كلام فارغ , أعتقد أن بأيدينا ما يكفي لإحالتَكِ إلى لجنة تأديب _ لو لم أكنْ مستعداً لمعاقبتكِ بنفسي _ أم كيف ترين ؟ "
بدأ الخوف يعتريني , ولكن شبح الابتسامة الذي لا يزال مرتسماً على شفتيه قد ذهب به , أو ذهب بأكثره للدقة , فإن البقية الباقية منه كان لها مفعول السحر في توقّد مشاعر أخرى لم أعرفْ عنها شيئاً قبل اليوم , وقلْتُ له في خجل غير مصطنع , أو أن أغلبَه غير مصطنع :
- " أرى أن مرتكبة هذه الأفعال تستحق كل ما يقرر أستاذها أن يفعله بها , ولكن إن كان لي أن أضيف : فإنني ألتمس تخفيف العقوبة بالنظر إلى أنني لم يسبقْ لي أن استحققْتُ العقاب قبل ذلك "
- " وهذا أدعى إلى تغليظ العقوبة لا تخفيفها ؛ لم يسبقْ لكِ السير في الطريق المعوجّ , ثم فجأة تركضين فيه بسرعة مئة ميل في الساعة , بهذا المعدل قد ينتهي بكِ الحال نهاية مأساوية , قد لا ينتهي الفصل الدراسي إلا وقد تجرأتِ على سبّ أساتذتكِ في حضرتِهم ... مهلاً : لقد فعلْتِ ذلك للتوّ عندما قلْتِ أن بإمكاني أن أخرس ! "
- " أنا لم أقل ذلك بالضبط ! ثم إن هدفي كان توضيح فكرة , وليس السبّ لذاتِه "
- " وها أنتِ ذي تخطين خطوة أخرى باتجاه الشقاوة المثالية ؛ فتحترفين التبريرات والاعتذارات "
نظرْتُ إليه في توسّلٍ , ولما بدأتْ ابتسامته في الاتساع , قلْتُ في صوتٍ طفوليّ  :
- " أنا معترفة بكل ما بدر مني , ولن أعود مرة أخرى ! "
كان هذا دورُه لينظر إليّ في توسل :
- " لا داعي للاستعمال المفرط للقوة ؛ أنا لا أعتقد أن بإمكاني عقابَكِ لو استمررْتِ في هذا الدلال "
تظاهرْتُ بأنني أمسح دمعةً _ لا وجودَ لها _ بقبضتي , وأني أجهش بالبكاء , فقال :
- " أوووه .. أكل هذا جزعاً من عقابكِ ؟ لا حاجة بنا إلى ما يسوءك .. تعالي هنا "
فاقتربْتُ منه وأنا لا زلْتُ أتظاهر بالبكاء _ بينما أبتسم داخليًّا , وأهزّ رأسي _الداخليّة_ في جذل _  فلما صرْتُ قريبةً منه قام من مقعده وجلس على حافة الطاولة وأدنى جسدي منه , وهو لا يزال يكلمني كأنني طفلة :
- " هل استقر أننا لن نعاقبَ؟ .. حسناً ! ... ما الداعي إلى البكاء إذن ؟ .. هل نخاف من شيءٍ ما أو شخصٍ ما  ؟ "
أشرْتُ بإصبعي في طفوليّة إليه , فقال :
- " أوووه .. لا داعي للخوف منّي .. أنا لن أبدأ في عقاب طفلةٍ صغيرة حتى تملَّ من لعب الدور وتضحكَ من سخافة الموقف .. "
حاولْتُ الاستمرار في التظاهر بالبكاء , ولكن الضحكة كانت واقفة على باب شفتيّ وهي تدفعه دفعاً لينفتح , فلما آيسْتُ من منعها رفعْتُ كلتا يدي إلى فمي ... ولم أفرغ من ضحكتي حتى كان قد مال بجسدي ليستقر بين رجليه وقد انحنيْتُ متكئة بيدي على الطاولة وراءه .... ونظرْتُ في قلقٍ إلى الباب , وكأنه فطِن إلى ما يقلقني فقال في هدوء :
- " لا أدري إن كان بلغَكِ الخبر أو _الإشاعات للدقة , إذ لم يُعْتَمَدْ كخبرٍ _ عن ذلك الأستاذ الذي فَتَحَ أحدُ العمال بابَ القاعة التي كان فيها فوجده في وضع مخلٍّ مع إحدى الطالباتِ "
- " نحن لسنا بالضبط في وضع مخلّ "
- " وأنا لا أتحدث مجازاً , لقد حدثتْ تلك القصةُ العام الماضي وحكاها لي العاملُ شخصياً ... "
- " وما الذي جرى ؟ "
- " لا شيء ! وهذه هي الفكرة ؛ إن كنْتَ تستطيع أن تنال ما ليس حقَّكَ , فلا أقل من أن تستمتع بحقِّك ؛ في أي لحظة ترغبين أن تغادري فيها فأنا لن أمنعكِ _ على الرغم من أني أستطيع منعكِ من التواجد في مكان أو مغادرة مكان بدون إذن وفقاً لقوانينهم _ , وإذا طلبْتِ مني درجة واحدةً زائدةً عن حقكِ فلن أعطيكِ إياها _ على الرغم من أني أستطيع أن أزيد درجاتكِ أو أنقصها كما أشاء وفقًا لقوانينهم _ , فإذا أراد أحدٌ أن يتَّهِمَنا _ وفقاً لقوانينهم _ بتجاوز ما يراه لائقاً , فهذه من الفرص النادرة التي يتوقف فيها قانونهم غريبُ الأطوار هذا عن العمل عندما يصطدم بقانون آخر من قوانينهم أكثر رسوخاً .. "
- " وما هو القانون الأكثر رسوخاً ؟ "
- " (لأستاذ الكلية أن يصنع بطلابه ما يشاء !) "
ومع قولِه هذا رَفَعَ تنورتي حتى استقرَّتْ بكاملها على ظهري , وازددْتُ غوصاً بوجهي في ساعديّ عملاً بالقاعدة الشهيرة : ما لا تراه فهو على الأغلب غير موجود . ولكن ماذا عمّا تحسه ؟ لم يكن تباعُدُ ملابسي الداخلية عن ردفيّ ثم إحساسي بنزولها حتى استقرَّتْ قرب نعليّ ناشئاً عن حركة يديّ أنا , فعن أيّ شيءٍ نشأ ؟ هذا هو وقتُ القول بالصدفة ؛ لا شكّ أن هناك انفجاراً عظيماً قد تسبّب في كل هذا .
ثم جاءني صوتُه قائلاً :
- " أهناك مشكلة يا ( فواز ) ؟ "
جاء صوتُ العامل ( فوّاز) ليقضي على أي أملٍ في أن تكون هذه خدعةً يخدعني بها , _ ولكنني لم أسمع صوتَ الباب _ :
- " لا مشكلة على الإطلاق يا سيدي , لقد سمعْتُ صوتًا بعد انتهاء المحاضرات فظنَنْتُ أن وراءَه طالبين يمارسان ما لا يليق , فأردْتُ أن أفتح الباب بهدوء لأفاجئهما متلبسَيْن , ولكن لم أتوقّع أن سيادتكم تواصلون العملية التعليمية بعد نهاية المحاضرات , فالمعذرة "
- " ستستمر العملية التعليمية لبعض الوقت , فلو أغلقْتَ الباب وانصرفْتَ , بإمكانكَ أن تتركَ المفتاح , إن لديّ محاضرة في السادسة من صباح الغد سأقابلكَ حينها وأعطيه لك , حسناً "
هذه المرة سمعْتُ الباب وهو يغلقُ , وما إن سمعْتُ ذلك حتى جاءني صوته :
- " هل نبدأ هذه العملية التعليمية ؟ "
التفتُّ بوجهي تلقاءَه وقلْتُ  لمؤخر رأسه _لأنه هو الذي يقابلني _ :
- " هل حدث للتو ما أظن أنه حدث ؟ "
- " هل رأيْتِ شيئاً ؟ "
- " لا , ولكني سمعْتُ ... "
قاطعني :
- " لا تصدقي حتى تَرَيْ "
ثم أهوى بيده إلى مؤخرتي فارتفع الصوت وانتشر الألم , ولم أشك أن ( فوّازاً ) قد سمع _في طريقه للخروج _ إما صوت الضربة وإما صوت صراخي بسببها , وخيّل إليّ أنني لن أستطيع الاستمرار في تلقي هذا العقاب لو استمر في صفعي بهذه القوة , ولكن الصفعة الثانية كانتْ أقلّ قوةً بكثير من الأولى , فلعله لم يردْ إلا أن يعلمني أنه لا يخاف من ( فوّاز ) ولا غيرِه أن يسمعه , خطر لي خاطر على الرغم من ألم الصفعاتِ التي لا زالتْ تهوي على ردفيّ , فقلْتُ في صعوبة :
- " هل هذه أول مرة ؟ "
توقف عما يقوم به , ثم سألني :
- " أول مرة ماذا ؟ "
- "أول مرة يسمعك فيها ( فواز) تقوم بهذا الفعل ؟ "
أخبرَتْ يدُه مؤخرتي بالجواب , فأرسلتْ لي مؤخرتي برقية بفحوى إجابته : نعم !
ثم أضاف :
- " إن كان وراءَ سؤالكِ " غيرةٌ على الأغلب " , فلماذا لا تسألي نفسَكِ كـ"عالمة بالنوايا" عن ذلك ؟ "
- " إني أثق في أنه ليس هناك غيري , ولكني أريد أن أسمعها منكَ "
- " ليس هناك غيرَكِ , وما دمْنا في جولة المصارحة هذه , فأنا بحاجة إلى معرفة عنوان بيتكم , حتى تتاح لأخي الفرصة التي طالما تمناها ليمارس هوايتَه هو الآخر في " العلم بالنوايا " تجاه أسرتكِ بكاملها ... أعتقد أنه سيخلص إلى أنها أسرة محترمة ولكن العروس تبدو وكأنها تكره أثاث منزلهم فهي واقفة لا تجلس إلا للضرورة "
- " أعتقد أن أخاكَ لا يحتاج للحضور , إن والدكَ يكفي وشيئاً من الشيكولاتة "
- " نحن لم نشرعْ بعدُ في شيءٍ , وأنتِ تريدين أن تتسببي في قطيعة مع أخي ؟! هذا العقاب لن ينتهي مبكراً كما أردْتُ "
- " لم أقصدْ ذلك , إن بإمكانه أن يزورنا فيما بعدُ _ لو دعتِ الضرورة إلى مثل تلك الزيارة _ "
- " حسناً ! قياماً ! "
- " هل انتهى العقاب ؟ "
- " بل لم يبدأ بعد , قومي رجاءً "
وقفْتُ أمامه وقد تركت تنورتي تنسدل لتخفي ما يحتاج أن يخفى , فقال في هدوء :
- " أبقي هذه التنورة في المكان الذي رفعْتُها إليه "
قلْتُ في خجل :
- " إن الجاذبية تحول دون بقائها في مكانها "
- " إن يديكِ قادرتين على منع الجاذبية من ذلك "
- " ولكن الجاذبية قد قالتْ كلمتها بالفعل , فكيف أمنعها الآن من إنزالها "
كنْتُ في أعماقي أعلم ردّه , ولكن ما البديل ؟ على الأقل لقد أخَّرْتُ الأمرَ قليلاً ...نزل بجذعه حتى قبض على أطراف تنورتي ثم رفعها حتى انكشفَتْ عانتي وما تحتها , ثم قال :
- " الآن فلتمنعي بيديك عملَ الجاذبية ذلك "
قبضْت بيديّ في خجل على حاشية التنورة فامتنع عملُ الجاذبية فيها وبقيَتْ مكانَها , فقال وهو يبتسم :
- " لو كنْتِ طلبْتِ أن أتركها منسدلةً حتى أحنيَكِ لبقية عقابكِ لأجبْتُك , ولكنّ السفسطةَ لا يجازى فاعلُها بخيرٍ , والآن إلى بقيةِ عقابكِ , ومشكلتُكِ التي لا أدري سببَها مع أخي .. "
قاطعْتُه قائلة :
- " إنه يصر على وصفي بالتائهة ! "
- " إنه لا يعرفكِ بعدُ , ولكنه عنيدٌ مثلكِ ؛ فإذا " حدس " شيئاً ظنه حقاً , ولكن على الأقل من جهتكِ أنتِ _ لأن هذا ما أملكه _ ستكونين لطيفة , فيتخلى هو عن عناده في رؤيتك "تائهة" أو أيًّا يكن "
- " حسناً , أنا موافقة ! "
- " هلّا تراجعْتِ للوراء خطوةً ! "
فتراجعْتُ خطوةً للوراء , فوقف أمامي , وبدأ في حلِّ حزامَه , ففطنْتُ إلى ما ينوي صنعَه ...
- " أرجوكَ ! لا داعي لذلك ! "
- " هذا العقاب سيشتبه تعريفكِ له بالتعريف الأصلي له عندما أنتهي منه , فلا توطِّني نفْسَكِ على تكرار ما تسبَّبَ فيه "
- " أرجوك ! لن أتناول أخاكَ بكلمة واحدة بعدَ اليوم , لو خطر لي ما يسيء إليه سأزيل الخاطرة من ذهني , ولكن أرجوك ! "
بدا على وجهه التأثرُ , ثم قال :
- " هل سبق لأحد أن ضربكِ بحزام ؟ "
- " لا , ولكن صديقةً لي في المدرسة كان أبوها مولعاً بذلك , ولا أنسى الذعرَ الذي كانتْ عليه وهي تروي لي ما حدث "
- " لذلك إذاً ... لا تخافي , لن أكون بعنف أبي صاحبتكِ تلكَ , كما أنكِ لسْتِ طفلةً أيضاً ... ولكن هذا العقاب لن يكون نزهةً ... على أية حالٍ متى شعرْتِ أن الأمر قد جاوز طاقتكِ فأوقفيني وسأتوقف "
ظللْتُ أنظر في رعبٍ إلى الحزام , ولكنّي حاولْتُ طمأنة نفسي ؛ لو بلغ الأمر فوق احتمالي فسيتوقف , هذا نقيض ما كانتْ صاحبتي ترويه لي عن أبيها المتوحش الذي لا يكفّ عن إيجاعها حتى يبحّ صوتها من الصراخ متوسلة أن يتوقف وهو مستمر , ثم إنني لسْتُ طفلةً أيضاً كما قال .
وبدون أن يطلب توجهْتُ للطاولة وانحنيْتُ حتى اطمأننْتُ لاستقرار تنورتي فوق ظهري ثم فارقَتْ يداي مكانَهما الممسك بالتنورة , وأسندْتُ مرفقيّ إلى الطاولة , وباعدْتُ قليلاً بين رجليّ لأقعِّر ظهري , وجاءني صوتُه :
- " لقد كنْتُ أنوي أن أجعلها عشْرَ ضرباتٍ , ولكن هذه الطاعة قد نزلتْ بهنّ إلى ثمانية ! "
- " شكراً ! "
- " العفوَ ! "
وصلتْني ضحكتُه في نفس وقت صدورها عني , ثم قال :
- " بما أن هناك حدًّا أقصى مراعًى لقدرتِك على التحمل فإن وقوفكِ بسبب بلوغكِ هذا الحد سينهي العقابَ مباشرةً , ولكن وقوفكِ قبل ذلك لداعي الألم سيَزِيدُ مكانَ الضربة التي أوقفتْكِ غيرَها , هل هذا واضح ؟"
- "من الذي يحدِّد إن كان وقوفي لهذه أو تلك ؟ "
- " أنتِ من سيفعلُ , إنني واثقٌ من صدقكِ ... حتى لو نشأ عنه زيادةٌ في العقابِ ! "
سُرِرْتُ من ثقتِه , ثم تذكرْتُ ما أنا مقدمةٌ عليه ... وأنصتُّ لصوتِ الحزام وهو يغادر مكانَه من بنطاله , ثم لصوتِه وهو يطوى ليزدادَ وقعُه ألماً , ثم لصوتِه وهو يشقّ الهواءَ كأنه يعلن عن قوّته , ثم جاءني السؤالُ :
- " مستعدة ؟ "
- " نعم ! "
وهوى الحزام على ردفيّ ....
إن كان محقّاً في أن هذه ليستْ أقصى قوةٍ لديه , وكان محقّاً في أن هذا العقاب تخف وطأتُه مع السن , إن كان محقّاً في كلا الأمرين فإن والدَ صاحبتي ذاك يستحقُّ الإعدام !
لم أستطع أن أمنع نفسي من الصراخ ولا أن أحمل نفسي على البقاء في مكاني ولا على أن أكفّ عن البكاء والعويل , حتى ضمّني إلى صدرِه , وهو يلهج بالاعتذاراتِ :
- " أنا آسف , لم أتصور أن تكون ردةُ فعلكِ بهذه الشدة "
قلْتُ من بين دموعي :
- " لا أعتقد أن هذا الألم يبقى معه أيُّ إحساسٍ آخر لديّ سوى انعدام الأمل في أيِّ شيء ! "
- " إذن فليذهبْ هذا الألمُ وما سبّبه إلى الجحيم , لن أرتدي سوى حمالات بنطال من هذا اليومَ فصاعداً "
ضحكْتُ من وسط شهقاتِ البكاء , فجعل وجهي بين كفَّيه , وقال :
- " إن كان كل هذا يسوؤك فلا داعي لكل هذا ... إن كنْتِ ترغبين في بعضه وتكرهين بعضَه فعلْنا ما ترغبين فيه وانتهيْنا عما تكرهينه ... لا شيءَ فيما سنفعله في المستقبل له غايةٌ غيرُ إرضائك . هل هذا واضح ؟ "
هززْتُ رأسي , وقد بدأتِ الدموع تحول بيني وبين نقاء الصورة , ثم قلْتُ ما أفكِّر فيه _ فهذا يومٌ قد غاب عذّالُه كما يقال _ :
- " إني أحبّك ! "
- " حسناً ! إني لا أريد أن أكرِّرَها ثم تكرهين ارتباطَ المناسبة بواقعة الحزام , فلو أخَّرْنا مبادلة الـ " إني أحبك " لمناسبة أخرى سعيدة "
قاطعْتُه , ولا يزال أثر البكاءِ في صوتي :
- " هذه مناسبة سعيدة , ليستْ " واقعة الحزام " وإنما واقعة " لا شيءَ غيرُ إرضائكِ " ...لن توجد لحظةٌ أخرى أكثر مناسبة .. "
ثم كرَّرْتُ وقد زاد ما أشعرُ به قوةً :
- " إني أحبكَ ! "
- " إني أحبكِ ! "
ثم قبَّلني , باكيةَ العينين , مرتعشةَ اليدين  , مستقرةً ملابسي الداخلية فوق حذائي , ولكنْ مغمورةً من قمة رأسي حتى أخمص قدميّ بحبِّ هذا الرجل !
- " هل والدكِ سيكون في المنزل مساء الغد ؟ "
هززْتُ رأسي , فأضاف :
- " وهل ستستطيعين الجلوس أمام والدكِ عندما يجيء خاطبكِ ليخطبكِ ؟ "
- " من هيبة الموقف ؟ "
- " أنا واثقٌ أنكِ جريئة على هيبة الموقف , ولكن بسبب هذين ؟ "
وقبض بيديه على ردفيّ قبضاً رفيقاً , فدفنْتُ رأسي في صدره , وقلْتُ :
- " سأقنعهما بتجاوز اعتراضهما على الجلوس تلك الليلة "
- " وأخبريهما أن من تسبّب في ألمهما نادمٌ على تجاوزه الحدّ ؛ إنه لم يعلمْ مدى رقّتهما فيراعيها ... أخاف أن يكرهاني فيما يأتي "
- " لا شيء فيّ يكرُهك ؛ لا هما ولا غيرهما , لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل ! "
- " تصوّري منظركِ بعد سنتين وأنت تتساءلين عما دفعكِ للزواج بهذا الأحمق ! "
- " إن قلْتُ ذلك فلا رفعتَ عني الحزام ! "
- " إنّ " رفعْتَ عنّي " تختلف عن " رفعْتَ عليّ " "
- " وأنا أعي ذلك , وأعي كرهي لهذا الشيء المقيتَ , ولكنْ الإنسان الذي يكرهُكَ لا علم لي به , فإذا تحولْتُ إليه , فمن يدري ؟ لعلّه يهوى من ذلك الشيء المقيت ما أكرهُه أنا ! "
- " هذا _منطقياً_ مقبولٌ إلى حدٍّ ما , لا أدري ما الذي رآه أخي منكِ حتى وصفكِ بالتائهة ! "
- " هل لا يزال هناك حظرٌ على الإفصاح برأيي في أخيكَ هذا ؟ "
- " الحظر لا يزال قائماً , ولكن العقوبة على خَرْقِه قد تغيَّرَتْ .. "
- " حسناً , دعْنا نقلْ  في لغة شديدة التهذيب : إنني لا أعتقد أن ما بيني وبينه من خلافاتٍ ستُحَلُّ في المستقبل المنظور "
نظرْتُ إليه وهو يحاول أن يجد ردًّا , ثم انتشرَتْ ابتسامة واسعة على شفتيه , وقال :
- " ربما يجدر بكِ أن ترفعي هذه , قبل أن تتحدثي عن اللغة شديدة التهذيب ! "
لم أحتجْ إلى تتبع إشارتِه لأعرف ما يعنيه ... طيلة هذا الحوار ظلَّتْ رجلاي مقيدتَيْ الحركة بشيءٍ لا يصحّ أن يراه أحدٌ غيري في هذا المكان . وقبل أن أردّ وجدْتُه يضيف :
- " هل أستدير حتى ... ؟ "
لا أدري متى عاودني الخجلُ هذا اليومَ , ولكنني قلْتُ :
- " إن هذا سيكون لطيفاً منك ! "
- " حسناً "
- " هل أنتَ مغمض العينين ؟ "
- " إن عينيّ ليستا في مواجهتكِ , لماذا أغمضهما ؟ "
- "  لأنني لا زلْتُ خجلى , فرجاءً أغمضهما ! "
- " حسناً , إن كان هذا سيريحكِ "
نزعْتُ ما يُفْترضُ أن أرفعَه .. لقد كان أقربَ إلى الأرض على أية حال .. ثم درْتُ حوله , وهو لا يزال مغمض العينين ثم مددْتُ يدي فأودعْتُ ما فيها جيبَ بنطالِه , فلما أحسّ بيدي فتح عينيه , وابتسم :
- " هل صنعْتِ ما أعتقد أنكِ صنعتِه ؟ "
- " أعتقد أن الإجابة هي نعم ! "
- " وهل تحسبين أن هذا سيمرّ دون عقاب ؟ "
- " لو كان لديّ ذرةُ شكٍّ واحدةٌ في أنه سيمر دون عقاب لَمَا فعلْتُه ! "
- " فالمشكلة في الحزام إذن وليستْ في العقاب نفسِه "
- "العقاب هو الغاية وليس المشكلة "
دخلَتْ يدُه في جيبِه ثم خرجَتْ بما فيه , فقال :
- " وما الذي يفترض أن أفعله بهذه ؟ "
- " بإمكانكِ أن تستفتح بامتلاكها قبل أن تمتلك ما كانتْ تغطّيه "
- " أنا لا أمتلكُ ما كانتْ تغطّيه ؟ "
- " هذه يا سيدي غير مشمولة بقانونكم ولا بقانونهم , هذه يستدعي تمامُها أن تصافح يَدُك يدَ والدي على مرأى الناس ومسمعِهم "
- " وأنا على تمام الاستعداد لذلك ! "
- " حتى ذلك الحين إذن ! "
لوّحْتُ له بقبلة , ثم خرجْتُ من باب القاعة وأنا أفكر في هذه العبارة الأخيرة ؛ جزءٌ مني كان مسروراً بها : أنتِ لا تزالين _ إلى حدٍّ ما _ غيرَ متاحةٍ لكل من هبّ ودبّ ؛ من أرادكِ فليدخلِ البيتَ من بابِه ...وجزءٌ آخر يسخر من أولويّاتِ الجزء الأول ويهزأ به ويعدِّدُ ما جرى للتوّ من أحداث تتجاوز دخول البيتِ إلى الإقامة في المطبخ ! ...وجزء ثالثٌ يحاول أن يتلمس طريقه بين الاثنين ...
ووجدْتُني أتدخّل لأنهي الجدال : الجميعُ سينال مرادَه ؛ لا داعي للشجار ... هل ما حدث يندرج ضمن السلوك القويم الذي تقرّه لا أدري ماذا ؟ : بالطبع لا ! .... هل هو تسيّبٌ كاملٌ وبذلٌ لكل شيءٍ ؟ : بالطبع لا , أَلَمْ يَقُلْ ذلك الشاعرُ العربيد : حدَّثَنا عنْ بِعْضِ أشياخِهِ || أبو بلالٍ شيخُنا عن شرِيْكْ  .  لَا يَشْتَفِي العَاشِقُ مِمَّا بِهِ  ||  بِالضَمِّ والتقْبِيلِ حتَّى يِنِيْكْ ؟  والذي يطلب الوسطيّة , فهذه وسطيّةٌ بمعنىً من المعاني . فلتكفوا إذن عن صراع الديكة يوماً واحداً فقد أوشكْتُ أن أصيرَ مدرِّسةً في حضانة من صراع بعضكم لبعض !
ويخيَّلُ إليّ أنهم هزوا رءوسَهم في اقتناع أو شبْهِ اقتناع ...
 ولأول مرة أشعرُ بهذا القدْرِ من السلامِ الداخليّ ؛ كل شيءٍ في مكانِه ..
لم أعُدْ حلبةَ صراعٍ بل ساحة وئامٍ أو ساحةً لما يقترب _ على قدر الإمكان _  من أن يكون وئاماً ..
هذا شعورٌ لا يعدله شعورٌ آخرُ !
لماذا يطمح الناس لتحقيق السلام الخارجي , والسلام الداخليّ لمّا يحقَّقْ بعدُ ؟!

ليست هناك تعليقات: