الخميس، 28 يوليو 2016

قصة : مُعْجَبَة ! ( ف/ ف)



قصة : مُعْجَبَة !  ( ف/ ف) 

- بضعة تنويهات :

تنويه 1 : هذه القصة تعمد في كثير من أجزائها إلى استخدام لغة قد تعد مرتفعة قليلاً عن عربية الجرائد والصحف , فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك , فقد  نوهنا به .
تنويه 2 : تصوِّرُ القصة في معظمها علاقةً ذات طابع جنسي بين أنثيين , فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك , فقد  نوهنا به .

تنويه 3 : مما تشمله تلك العلاقة ذات الطابع الجنسي ما يقترب من أن يكون ما يعرف بالإنجليزية / بالإنكليزية بـ
فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .
تنويه 4 _ وهو فرع على تنويه 3 _ : قد لا تكون عملية العقاب نفسِها بهذا الاقترابِ من الفكرةِ الجنسيّة في هذه القصّة , ومن الجليّ رغبةُ الطرفين في القيامِ بها , ولكنّ هذه الرغبة تلتبسُ بدوافعَ نفسيةٍ أخرى بما يسمح بفتح الباب أمام التأويل , فوجبَ أن ينبِّه المؤلّفُ إلى رفضه التام والصريح لأي سلوكٍ _مهما كان تبريرُه_ يسمح فيه شخصٌ لنفسِه بتعريض الآخرين لما لا يوافقون على التعرِّض له لأي هدفٍ كان .. ويدخلُ تحتَ ذلك بالطبع الموافقةَ التي لا يملكُ معطيها سوى الموافقةِ مما ليس موافقةً على الحقيقةِ ... وهذا بدهيّ ولكنّ أهميةَ الأمر أوجبَتِ التنبيهَ إليه !
فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوّهنا به .

تنويه 5 : هذا العمل ضرب من الخيال لم يقع ولا أجزاؤه ,  ولا قَصَدَ إلى تصوير ما وقع بكليته أو بجزء منه , وشخصياته ليست محاكاة لشخصيات واقعية وأي تشابه بينها وبين أي شخصية واقعية حية أو ميتة علمنا بها أو لم نعلم محض صدفة , وأي حثٍّ على فعل أو على الامتناع عن فعل بناءً على ما في القصة مما تُوُهِّم أنه مغزى فهو غيرُ مقصود من المؤلف , وليس حثاً على الحقيقة , ومتى وقع الفعل الذي تُوُهِّم أنه حُثَّ عليه فالفعل مسؤولية / مسئولية فاعله ولا يسأل المؤلف عن ذلك .
فإن كان أيٌّ من هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به . 


- القصة :

هذه الأرض القاسية !
أيُّ شيءٍ تثمره ؟!
ما جدوى الحب ...
...إممم ..
 الذي لا يتبادله أحدٌ ؟
وإن كانتْ حياتي تشبه غبارًا ..
..أووه...
 يحْجُبُ إشراقةَ وردةٍ ..
فأيُّ نفعٍ فيّ ؟!
وحدَها السماءُ تعلم !

ربّاه , هذه الأرض القاسية !
نعم , يمكن أن تكون قارصة البرد !
اليومَ أنت شابٌّ..
وبعد هنيهةٍ .. أنت شيخٌ !
ولكن بينما يبكي صوتٌ ما بداخلي...
فإنني واثقةٌ أن شخصاً ما قد يجيب ندائي !
وهذه الأرض القاسية ...
..أوووه ..
قد لا تكون..
..أوووه ..
 بتلك القسوة ...
على الرغم من كل شيءٍ !

من أغنية "هذه الأرض القاسية " سنة (1960 م )
لـ "داينه واشنطن " ( 1924 - 1963 م )




(1)  : قبسٌ من ضوءٍ !

أقلُّ من ثانية استغرقتْها النبضة العصبية لتصل من أذنيّ إلى مخي ثم انفجرَتِ الدموعُ من عينيّ ...
لماذا ؟!
تتداعى على مخي المشغول بالفاجعة صورٌ متلاحقة لا يوليها اهتماماً ؛ لا يهم ما يقوله الناس , لا يُهِمُّ رأيُهُم فيّ وهم يرونني باكيةً بكاءَ من لا يراها أحدٌ , لا تُهِمُّ ابتسامة الهازئات ولا تعاطف المتعاطفات ؛ لقد ماتَتْ ! هذا هو ما يهمُّ !

- " لم أكنْ أعرفُ أنكِ تحبينها إلى هذا الحد ! "

الصوتُ يأتي من بعيدٍ , وفي خضمِّ ما أنا فيه يستغرق تحديدَ صاحبة الصوت أكثر من المعتاد , وعندما يفرغ عقلي من تحليل الصوتِ ونغمتِه والتعرف على صاحبتِه  _( منى ) أقرب صاحباتي إليّ_  فإنه يرسل إشارة شبه تلقائية لجسدي , وأجدني أعانقها وأحيطها بذراعيّ ؛ أنا بحاجة إلى مواساة ؛ لا أستطيع مواجهةَ كل هذا وحدي !

تحيطُ بي ذراعاها في تردّدٍ ؛ لا شكّ أن منظرَنا يبدو ملفتاً للأنظار . ويبدو أنها تريد مخاطبةَ ما بقي فيّ من منطقٍ  فتهمس في أذني :

- " إنها مجرد ممثلة ! "

تعيدني الجملةُ للواقع , فأنزاحُ بجسدي عن جسدها , وأنظر إليها بعينين تشعّان غضباً ؛ لقد تحوّل حزني إلى غضبٍ , وكان ذلك طاغياً فصار هذا مدمراً , وتحاول أن تعتذر :

- " أنا لم أقصد أن ..."

- " حتى أنتِ ؟! شكراً على لا شيء! "

بقيةٌ من العقلانية تلحّ عليّ بأنها لا ذنبَ لها , ولكنّ ما يتملكني من الغضب قد أتى على كلِّ شيءٍ ؛ هذا ذنْبُ الجميع ..
هذا ذنب الجميع أنها ماتَتْ ؛ لماذا لم يفدونها بأنفسهم , أنا كنْتُ لأفديها بنفسي ؛ أين المكتب الذي تتقدم إليه طالبات تفدية الموتى بأنفسهن : أريد استعادة فلانة , خذني مكانها , شكراً !

ثم كيف تأتّى أنني لا أعرف بالخبر إلا من ( منى ) , أنا لا أتابع أخبار الممثلين , ولا أخبار غيرهم ... باستثناء شخصٍ واحدٍ : هي ؛ حبيبتي ... لا أدري ما هو المصطلح الذي يستعمله الأطباء النفسانيّون لوصف شعوري تجاهها ... لا بد أنه اسم معقّد تحقيريّ على غرار اضطراب الهوس الحادّ التخيليّ غير القابل للتحقق , أو شيءٍ من هذا القبيل .. ولكن من يهتم بما يقوله هؤلاء ؟ ... حتى من أهتمّ برأيِهِ رأيُه عندي محقّرٌ إنِ اعترَضَ على حبي لها ...

لعشْرِ سنواتٍ شاهدْتُ كل أفلامها ...قرأتُ كلَّ ما كُتِب عنها .. رأيْتُ كل صورة التقطَتْ لها ... سمعْتُ كل صوْتٍ سجِّل لها .. تخيَّلْتُ كل حوارٍ يمكن أن يدور بين شخصين وجعلْتُه يدور بيننا مراتٍ ومراتٍ ومراتٍ ....
عندما غضبَتْ مني لأنني نسيْتُ عيدَ ميلادِها ... لقد قرَّعْتُ نفسي على ذلك , وبكيْتُ طويلاً حتى كانتْ هي من جاءتْ إليّ وغفرَتْ لي وأعلنَتْ أن حبَّنا أقوى من أيِّ مشكلةٍ تواجهنا ... لا أشكُّ أن هذا أيضاً هو ما كانتْ ستقولَه لي في "الحياة الواقعية" لو كانتْ علاقتي بها "واقعية" !

والآن يبلغني خبرُ موتِها وأنا بعيدةٌ عنها ؛ لقد ماتَتْ وهي لا تعرف من أنا !
تتدافع الدموع مرةً أخرى لتنحدر إلى قناتيها , فلا تتسع لها القناتان فتسيل على جانبي أنفي , وأشهق بصوتٍ مسموعٍ , فتلتفتُ إليّ إحدى العاملاتِ :

- " خيراً يا دكتورة ؟ "

أحاول التماسكَ والردّ , ولكن لا سبيل إلى ذلكَ , فأتجاوزها مسرعةً إلى المكتبة ؛... لطالما تجاهلْتُ اقتناء واحدٍ من هذه الأجهزة التي تتيح لك تصفُّحَ الإنترنت وَيَسَعُهَا جيبُكَ , ولكني اليوم بحاجة ملحة إلى الإنترنتِ , والبيْتُ بعيدٌ ؛ المكتبةُ أقرب ! أول مرةٍ أدخل فيها مكتبة الكلية تكون لهذا السبب !

أدفع الجنيهاتِ على عجلٍ للموظف , أجلس إلى شاشة الحاسب ... موقع الجامعة ... أحاول فتْحَ صفحة محرك بحثٍ ما ولكن المؤشر لا يسمح بالكتابة في شريط العنوان ؛ لا شكّ أن هذه وسيلة لمنع التصفح "غير العلمي" في مكتبة الكلية ... أحاول أن أفكِّر في طريقة للوصول إلى أيِّ موقعٍ أطّلع فيه على الخبرِ ؛ لا بد أن هناك صفحاتٍ شخصية خاصة بأساتذة الكلية في مكانٍ ما على موقع الجامعة , ربما أتاحتْ إحدى الصفحاتِ الانتقال إلى صفحة الأستاذ على موقع من مواقع التواصل الاجتماعي ... أجرِّب وتنجح التجربة ... لا يستغرق الأمرُ كثيراً حتى أجد الخبر في كل مكانٍ ... كلماتُ التعزية تُعِيدُ الدموعَ إلى عينيّ ... ولكنّ شيئاً يشدُّ انتباهي ... كلمات ركيكة في منشورٍ تلقَّى تعليقاتٍ سلبيةً كثيرةً ... ولكنه بعث بنبضة أمل في قلبي المنهك .. يقول المنشور :
( أنا أعرف أن كثيراً ستغضبهم الحقيقة ... ولكن من المستحيل أن تكون ( جايمي جولدمان ) قد ماتَتْ في هذه السن المبكرة دون سبب واضح وتقرير طبي .. لماذا وَصَلَنَا الخبر عن مدير أعمالها وليس عن مستشفى ؟
هل للأمر علاقة بفيلمها الأخير الذي حقق أرباحاً قليلة ؟
كثيرون يتظاهرون بالوفاة من أجل تحقيق أرباح أكثر !
أنا أشم رائحة مؤامرة )

كان الكلام يحمل نغمة كراهية واضحة , ولكن الفكرة بدتْ كقارب نجاةٍ يتشبث به غريقٌ ؛ ماذا إذا كان هذا كله مزحة ؟ هل اليوم هو الأول من أبريل ؟ ... لا , فنحن في أكتوبر !

ولكن لماذا ستتظاهر بالموتِ على أيةِ حالٍ ؟  إنها لا تزال في الثلاثين من عمرها ؛ ليس الحال كأنها ترغب في الاعتزال والابتعاد عن الأضواء , وحتى لو كان الأمر رغبة في الاعتزال , فلماذا التظاهر بالموت ؟!

- " هل هذا بحثٌ علميٌّ ما ؟! "

التفتُّ إلى مصدر الصوتِ فوجدْتُ الموظف قائماً على رأسي , فقلْتُ متلعثمةً :

- " لقد كنْتُ أبحث عن ... شيءٍ ما , وانشغلْتُ ... بشيءٍ ما , على أية حالٍ سأكمل هذا البحث في البيت , شكراً "

وتركْتُهُ وقمْتُ , كان لا يزال هناك بقيّةٌ من المحاضرات ودروس عملية , ولكنني كنْتُ لا أزال متأثرةً بالخبر وعلى مشارف البكاء طيلة الوقتِ , فقرَّرْتُ العودة للبيتِ ؛ أقلّ ما أدين به لنفسي أن أتذكر هذه الفاجعة فيما بعدُ فأتذكَّر أنني تركْتُ الجامعة وعدْتُ إلى البيتِ من شدة التأثر , لو كان الميِّتُ قريباً لفعلْتُ ذلك , وهذه أقرب الناس لي !

ولكنْ ماذا إذا لم تكنْ ماتَتْ فعلاً ؟
فكَّرْتُ في الأمر فعلَتِ الابتسامة شفتيّ وعاد تنفسي إلى انتظامِهِ والفكرة تخامر عقلي وأبحث لها عن أسباب وقرائن...
 ولم أفتح باب البيتِ إلا وقد رسخ عندي أن ( جايمي جولدمان ) لم تمُتْ ... وأنها لا تزال هدفي الأسمى الذي سألقاه يوماً ما مهما كلفني ذلك ! 

**************

(2) : الكثير من الضوء !

حسناً , لقد مر أسبوعٌ على ( خبر ) الوفاة , وما ابتدأ كنظرية مؤامرة يرددها الحمقى صار خبراً يستحق الذكر في صفحات الأخبار المحترمة ... ليستْ محترمةً بالضبط , ولكن بالنظر إلى أن صناعة أخبار المشاهير هي صناعة تَطَفُّلٍ بالأساس فإن البحثَ عمَّا يماثلُ هيئة الإذاعة البريطانية في صفحات أخبار المشاهير ضربٌ من العبثِ , ولكن مدوِّنين كباراً قد تداولوا النظرية وحللوها , في الواقع إن أحدَهُم حتى قد اعتمد على التحليل الوافي الذي قمْتُ أنا به ولكنه لم يسمِّ المصدرَ , ولكن هذا لا يهم ... المهم أن الخبر صار في كلِّ مكانٍ ... أو للدقة : كل مكانٍ يهتم روادُه بسماع الإشاعاتِ , وهؤلاء كثيرٌ .
وإن كانتْ ( جايمي ) لا تزال حيّةً _ وأنا واثقةٌ من ذلك _ فقد سمعَتْ بتحليلاتنا , وربما تضطر إلى "إثباتِ موتِها " إن صحّ التعبير ... وهذا ما ننتظره جميعاً ؛ أن تبدأ الوثائق  المزورة وشهادات الزور في الظهور حتى نحللها ونظهر زيفها ...

في الواقع لقد كانتْ الدفاعاتُ التي تقدم بها أنصار الموت ( هذا هو اللقب الذي نطلقه عليهم ) شديدةَ التفاهة , من نحو : إن عدم وجود صور للجنازة كان احتراماً لرغبة العائلة , أو : لا ينبغي على المحامين إطلاع الغرباء على إجراءات الميراث ونقل الملكية ! ... بعبارة أخرى : هناك الكثير من الثغرات التي دفعتْ حتى أكثر الناس بعداً عن " المشاكل " إلى إعلان استغرابه وإبداء تساؤل " مهذب" عن حقيقة الوفاة ...

كنْتُ أنا قد تحولَتْ في تلك الفترة من معجبةٍ ولهانةٍ يتجاوزُ افتتانُها بممثلةٍ حسناءَ الحدَّ الطبيعيّ ,  إلى مبشرة بدين جديد مستعدة للموت في سبيلِ نَشْرِ دِيْنِها بين الوثنيين ؛ لا تستغربْ إذا أوقفْتُكَ في الطريق وسألتُك عما إذا كنْتَ قد سمحْتَ لـ ( جايمي جولدمان ) بتغيير حياتكِ , وقبل أن تجيب بشيءٍ , سأبدأ في شرح المذهب كلِّه _ وفي القلبِ منه خبرُ الوفاة المزعوم _ وسأشرح لك في حماسٍ كيف يجب علينا جميعاً أن نجتهد في إعلان إيماننا بحياة ( جايمي ) وأنها لا تزال ترى منشوراتِنا وتقرأ تغريداتِنا , وعندما يتأكد لها إيمانُ عددٍ كبيرٍ من الأتباع بحياتها الدائمة فستعود لنا وتَعُمّنا بالنِّعَمِ... أو بالأفلام...  أو بمجرد وجودها واحتمالية تفاعلِها معنا في الواقع الافتراضي , هذا حافزٌ كافٍ للإيمان , أليس كذلك ؟

كنْتُ في صددِ نشْرِ "تقرير" جديد أؤكد فيه نظريتي الخاصة بدوافع ( جايمي ) للاختفاء , وأرفق فيه صوراً لتغريداتٍ كثيرةٍ حوَتْ هجوماً شخصياً علي ( جايمي ) بعد فيلمها الأخير ... لم يكن من الصعبِ أن تجد كثيراً من مثل هذه التغريدات الموجهة لجميع المشاهير تقريباً , ولكنني بذلْتُ جهداً فائقاً في تحليل كل كلمة في تلك التغريدات المسيئة , ومحاولة ربطِها بما يمكن أن يسمى تحليلاً نفسياً لـ(جايمي) , وما يؤذيها أكثر من غيره , وما تحرص على صَوْنِه من السخرية ولو من الغرباء , وكيف أن هؤلاء الأوغاد قد أساءوا إلى كل ما تقدِّره في هذه الحياة , حتى اضطرتْ إلى ترك الحياة " مجازاً " بما فيها , ليتركوها وشأنَها ..

كان التقرير أشبه ببحث علمي ؛ بمقدمة وفصول وهوامش وخاتمة ومراجع , أعتقد أن بإمكاني أن أنال درجة دكتوراة على هذا الشيء !

 وكنْتُ قد أنهيتُه قبل يومين , ولكن بسبب كونه بالإنجليزية , فقد حرصْتُ على قراءتِه قراءةً ممحصة , خوفاً من أي خطأ في التهجئة أو في الأساليب , وعندما انتهيْتُ من المراجعة الثالثة له قرَّرْتُ أن أنشره , وأرسلْتُ رابطاً بالتقرير إلى ذلك المدوّن الشهير الذي سرق إحدى تحليلاتي السابقة ؛ بإمكانه أن يسرق هذا أيضاً , المهم أن يحرك حجراً في الماء الراكد ونصل إلى نتيجة !

كان الوقتُ قد تأخّر , فمكثْتُ بضعة دقائق أتصفح الإنترنت وأحاول البحث عن جديدٍ , فلم أقع إلا على مزيد من الآراء البدهية والأسئلة الساذجة التي تتكاثر باضطراد , ولكنّ في تكاثرها ما يبشِّرُ ؛ إنه يعني زيادة عدد الأتباع الجدد الذين يتلمسون خطاهم ويطلبون العون من الراسخين من أمثالي .. قرَّرْتُ أن أخلد للنوم , ولمّا كان الوقْتُ قد تأخر , فإنني على الأغلب لن تتاح لي الفرصة عندما أستيقظ للاطلاع على شيءٍ , فسأؤجل متابعة ما أحدثه تقريري من أثرٍ إلى ما بعد العودة من الجامعة , هذا يبدو مخططاً جيداً .. نَوْمٌ , ثم ذهاب للجامعة , ثم عودة لمتابعة ما أحدثه التقرير ...

أخلدْتُ إلى النومِ وعاودتْني تلك الأحلام مرةً أخرى , يمكن أن تقول إنني صرْتُ مدرَّبةً على التحكم في أحلامي _ إن جاز التعبير _  , لعشر سنين لم تخلُ ليلةٌ من حلم ما يدور حول ( جايمي) ويقتبس أحداثه مما رأيتُه أو سمعْتُه أو تخيَّلتُه في أحلام اليقظة في اليوم السابق ؛ .. لعشر سنين وأنا أعيش حياة ثلثاها خلْوٌ من تفاعل ( جايمي) باهتمامي بها , وثلثُها نتبادل فيه الكلام والغرام وأموراً غير ذلك كثيرةً ...

***********

( 3 ) : شمس الظهيرة !

لم أكدْ أعي حرفاً طيلة النهار حتى انتهَتِ المحاضراتُ فانصرفْتُ راجعةً , فلما فتحْتُ بابَ الشقة عاودني النشاطُ واتقاد الذهن , وانطلقْتُ إلى الحاسبِ ... وجاءني صوتُ أمي تتكلم عن الغداء أو شيءٍ من هذا القبيل ... من يَهْتَمُّ ؟ .. فتحْتُ الحاسبَ فوجدْتُ العشراتِ من الرسائل وطلباتِ الصداقة ... من يهتم ؟ ... ذهبْتُ لصفحة المدوِّن الذي أرسلْتُ له الرابط .. وكما توقعْتُ لقد اقتبس كل ما كتبْتُه تقريباً بدون أدنى إشارةٍ لي ... من يهتم ؟ ... ولكن ما يهمّ كان عدد قراء تقريره المسروق .. أربعمئة ألف ويزيد ! ... هذا عددٌ ضخمٌ .. هذا عدد يراه القائمون على برامج التلفاز فيطلبوا من المسئول عن الصفحة أن يستضيفوه في برامجهم ... سنصل إلى الأغلبية التلفازية !

وجدْتُ قلبي يخفق في سرور , ثم انصرفْتُ إلى المهام التبشيرية ؛ عشراتٌ من التابعين الجدد يسألون عن هذا أو ذاك ... أحاول الإجابة على ما أمكن منهم ..  بعض التعليقات الساخرة من بعض ثقلاء الدم ... أحاول سب وشتم ما أمكن منهم ... هؤلاء هم السبب في كل هذه المأساة فلو رأيْتُهُمْ رأيَ العين لارتكبْتُ جريمةً أُوْدَعُ السجنَ بسببها .

ثم كانَتِ رسالةٌ غريبةٌ توقفْتُ أمامها لحظاتٍ ... حسابٌ معدٌّ حديثاً بلا أصدقاء ولا محتوى تقريباً , وأرسل لي صاحبه رسالة فيها سؤال واحد بالإنجليزية :

 (هل يمكنني أن أعرف سرَّ حماسكِ البالغ لإثبات " تلك القضية " ؟ )

حاولْتُ أن أحلل ما وراء السؤال , ولكن لم يكن هناك الكثير لأحلله ؛ هل هذه استفتاحية استهزاء ؟ هل هو سؤال بريء ؟ لماذا استعمل علامتي تنصيص مع ( تلك القضية ) ؟ هذا ليس سؤالاً بريئاً إذن ؟ أم أنها مجرد حرفية في النص على أن تلك القضية قد صارتْ حديثَ الناس ... لو كان يريد أن يهزأ لجعل علامتي التنصيص حول ( إثبات ) .. كانتْ أجواء كتابة ذلك التقرير لا زالتْ مسيطرة عليّ , ولكني قرَّرْتُ منحه فرصة , وأجبْتُ بشكل محايد بالإنجليزية :

( أعتقد أن الدافع وراء حدوث " هذه القضية " يفسِّر حماسي في إثبات وقوعها ؛ عندما يصل الاضطهاد الإلكتروني بشخصٍ مشهورٍ إلى أن يضطر لتزوير موتِه , فماذا عن الأفراد العاديين؟ ؛ إن القضية تحتاج لمعالجة ! )

جاءني الرد مباشرةً :

( فالدافع أخلاقيّ محض إذن ؛ لم يكن ردُّ فعلكِ ليتغيرَ لو كان من تَمَّ اضطهادُه هو شخصاً آخر ؟ )

لم أَكُنْ أجْهَلُ الإجابةَ على هذا السؤال , ولكني فكرْتُ فيما إذا كان يجب عليّ أن أتجاهل الإفصاح عنها , أو أن أكذب حتى , ولكني رأيْتُ أن الصدق أفضل ؛ هذا الشخص لا يعرف عني شيئاً , وهذا الحساب لا يحوي ما يشير إلى هويتي الحقيقية من قريب أو بعيد , فكتبْتُ :

( هذا لا يغيِّر شيئاً .
ولكن إن كنْتَ ترغبُ في معرفة الحقيقة دون مواربةٍ ؛ فأنا مستعدة للموتِ من أجلها .
 هذا لا يعني أنني لم أكن لأعترض على تعرًّضِ أيِّ شخصٍ آخرَ للهجوم الذي تعرَّضَتْ له  قبل " اختفائها " )

جاء الردُّ :

( الموتُ من أجلها ؟ ) 

وجدْتني أردُّ في صدقٍ :

( هل سبق لك أن شعرْتَ بأن حياتكَ مكرّسة لشخص ما ؟... لشيءٍ ما ؟ أنا لا أعرفها معرفة شخصيةً ولكني أشعر حيالها بهذا الشعور , وليكنْ ذلك مرضاً نفسيًّا أو غيرَه , ولكنه ما أشعر به , وأنا متمسكة به )

- ( ربما لو رأيتِها على أرضِ الواقع لشفيتِ من "مرضك" )

- ( لا أعرف كيف أترجم هذه القصيدة إلى الإنجليزية , فسأكتبها كما هي _ وبإمكانك أن تترجمها آليًّا لتضحك , لأنني فعلْتُ ذلك قبل قليل وكانت النتيجة مخزية _ :
وَقَفَ الهَوى بي حَيثُ أَنتِ فَليسَ لي       مُتأخَّرٌ عَنهُ وَلا مُتَقدَّمُ
أَجِدُ المَلامةَ في هَواكِ لَذيذَةً       حُبّاً لِذكرِكِ فَليَلُمني اللُوَّمُ
أَشبَهتِ أَعدائي فَصِرتُ أُحِبُّهُم       إِذ كانَ حَظّي مِنكِ حظّي مِنهُمُ
وأَهَنتِني فأَهنتُ نَفسي جاهِداً       ما مَن يَهونُ عَليكِ مِمَّن يُكرَمُ )

- ( حسناً ما الذي تدور حوله القصيدة ؟ , لأن الترجمة الآلية بالفعل غريبة ... هل أنتِ واثقة أن هذه ليستْ كلماتٍ عشوائية ؟ )

- ( إنها حول التفاني في حبِّ من لا يهتم بك أو يعاديكَ حتى , أعتقد أن فيها شيئاً من المازوخية _إن جاز التوسع في المصطلح _ , لقد قلْتَ إنني لو رأيتُها على أرض الواقع فقد أشفى من " مرضي " ... لا أعتقد أن شيئاً بإمكانه شفائي من حبي لها , وكما يقول الشاعر في تلك القصيدة : لو قامتْ بإهانتي فبدلاً من أن أكرهَهَا .. سأهين نفسي , لأن نفسي لا تستحق أن تكرَّم إذا كانت حبيبتي لا تراها أهلاً للكرامة )

- ( هذه ليستْ مازوخية ! هذا جنون ! )

- ( لقد كَثُرَ في العرب مجانينُ الحبّ ! )

- ( هل يمكنني أن أقابلكِ ؟ )

كانتْ هذه نقلة مفاجئة في الحوار , وكِدْتُ أجيب بغلظة ثم رأيْتُ أن ألين مرة أخرى :

( أنا لا أعرف عنكَ شيئاً ! )

- ( هذا جانبٌ من التشويق , بإمكاننا أن نتقابل في أي مكان عام سأخبركِ بما سأرتديه فتعرفي من أنا , ولستِ بحاجةٍ إلى أن تخبريني من أنتِ , وإن ساءكِ ما ترين فانصرفي دون مقابلتي ! )

- ( هذا يبدو غريباً ؛ هل أنتَ متأكد من أنك لستَ عربياً ؟ )

- ( هل هذه هي الطريقة التي تتواعد بها فتيات العرب ؟! )

فطِنْتُ فجأةً إلى أن ضمائر الإنجليزية تحدّ من القدرة على معرفة جنس المخاطب أو المتكلم , هل كانتْ هذه فتاةً من البداية ؟

- ( فتيات ؟ )

وجاءني الردُّ :

( يا إلهي , لقد ظنَنْتِ أنني رجلٌ أتحرش بكِ طيلة تلك الفترة ؟)

- ( حسناً , إنكِ قد تكونين امرأة أو رجلاً , ما الذي يدريني على أية حال ؟ )

- ( هذا ينطبق عليكِ كذلك )

- ( الآن أنتِ في الصورة الكاملة لـ كيف يتواعد العرب ! )

- ( هههه ! على أية حالٍ هذه ليستْ مواعدةً ؛ إنني أرغب في رؤية شخص من " مجانين الحب " هؤلاء عن قرب , ليس أكثر ! )

- ( على شرطكِ السابق .. إن وجدْتُكِ رجلاً انصرفْتُ )

فجاءني ردُّها وقد أسهبَتْ فيه في وصفِ ملابسِها وشكل جسمها لأتعرف عليها , وبدا لي الوصفُ طريفاً , وكأنها تصف أزياء ( جايمي ) وجسدَها ؛... هذا على الأغلب رجلٌ إذن !
تظاهرْتُ بقبول الدعوة التي حدَّد لها يوم الغد وأنا أضمر ألا أذهب إلى ذلك المطعم الذي سماه لي ؛ هذا سيكلفه شراء وجبة غالية في مطعم شهير والانتظار طويلاً , وبما أني لم أصف شيئاً عنِّي فلعله سيحاول " التعرفَ" على فتياتٍ كثيراتٍ يظن أنهن إياي , فيعرِّض نفسه لمواقف سخيفة ؛ هذا يبدو انتقاماً مناسباً ... هؤلاء الرجال !
ونمْتُ في تلك الليلة وأنا أتصور منظرَه وهو يتلعثم ويشرح "رسالة الأمس" لإحدى الفتيات وهي ترمقه شزراً ؛....
 سأنام  قريرةَ العين هذه الليلة !

ولكن بمجرَّد أن أغمضْتُ عيناي بدأتِ الأحلامُ في التوارد على عقلي , وليس في أي منها محبوبتي , لم تكن هذه هي العادة ؛ لقد ظنَنْتُ أني بلغْتُ درجةً من التحكم في أحلامي تمكِّنُنِي من استدعاء طيفها كلما أردْتُ ؛ ما الذي حدث ؟!

أخيراً جاء الطيف مغضباً , فأقبلْتُ عليه أترضاه , فقال في دلال _ في الواقع لم تكن ( جايمي ) من مكثرات الدلال في أدوارها ولا فيما بلغني من حياتِها , ولكني هكذا أردْتُها _ : " لا يحق لمن تركني واقفاً أو جالساً _للدقة_ ساعاتٍ في ذلك المطعم أن ينال رضاي إلا بشق الأنفس ! " قلْتُ وأنا مذهولة : " أي مطعم ؟ " رد الطيفُ : " المطعم الذي واعدْتكِ أن ألقاكِ فيه , لماذا لم تذهبي ؟ " ثم انصرف الطيف فجأة , ومعه الحلمُ ومعه النومُ , ووجدْتني أستيقظ مذعورةً قبيل الفجر ... وفقاً لعلم النفس فإن الأحلام تصوير صادق للا وعي , فهل لا وعيي يريد إخباري أن من كان يراسلني قبل قليل هو ( جايمي جولدمان ) ؛ إن هذه تفاهة , لقد أراد ذلك الرجل أن يضمن حضوري ليس إلا , حتى لو كانتْ هذه هي ( جايمي ) لما وصفَتْ نفسها بهذا الشكل الفجّ , ولكن مهلاً ... لو كانتْ هذه هي ( جايمي) فقد صرَّحْتُ ليس بحبي لها فحسب , بل في تفانيّ في محبتِها ... " إنني أرغب في رؤية شخص من " مجانين الحب " هؤلاء عن قرب , ليس أكثر ! " هكذا قالتْ ... كل شخص يرغب أن يرى المعجبين به , وكلما زاد إعجابهم كلما أرضى ذلك غرورَه .. وإن كنْتُ محقةً في أنها زيفتْ موتها بسبب سخطها من رسائل الكارهين , فلعلها شخصية مولعة بحب النفس بمعنى من المعاني ؛ المدهش أن هذا لا ينقص من حبي لها شيئاً , ولكنها حقيقة جديرة بالاعتبار ... ثم النقطة الثانية التي تثير شكوكاً ؛ ما الذي تصنعه في مصر ؟
إن مصوِّري الباباراتزي منتشرون في كل مكان في العالم , ولكن _إن لم أكن مغرقة في المحلية_ فإنني أقول إن أصعب مكان يمكن أن يمارسوا فيه عملهم هو مصر ؛ إنها آمنة هنا من أن تلتقطها عدسة مصور بينما يفترض أن تكونَ ميتةً !

كان قلبي يخفق بعنفٍ , أتكون هذه هي اللحظة التي انتظرتها عشر سنواتٍ ؟ التي تعللْتُ بأحلامي كل ليلةٍ لأخفف حدة حزني من عدم التمكن من عيشها على الحقيقة ؟ ما الذي سأخسره ؟ إن ذهبْتُ لذلك المطعم في الميعادِ و لم أجدها فسأعود ولن أخسر شيئاً , هذا يبدو آمناً ...

حاولْتُ أن أعود للنوم , ولكن الترقّبَ كان يحول بين جفنيّ وبين النعاس , وبعد زمن طويل استسلمْتُ للنوم , وكانتْ هذه هي أول ليلة منذ عشر سنواتٍ أقتصر فيها على رؤيةٍ خاطفةٍ لطيف محبوبتي ؛ إن الأصل _ ولو توقعاً _ يغني عن الصورة , أليس كذلك ؟ 

***********

( 4 ) : اندماجٌ هيدروجينيّ  !

أقف على باب المطعم وأفكِّر فيما أنا مُقْدِمَةٌ عليه ... أقَدِّمُ رجلاً وأؤخِّر أخرى ...
وأُرِيْ عينيّ ما لم ترياه ؛ صورةَ حبيبتي وهي تستعدّ للقائي ... وهي لا تعلم من أنا !  ولكِنْ تعلم حبِّي لها ...
 أري عينيّ صورتَها وهي تنتقي من ملابسِها ما يوافق ما وصفَتْه لي لأعرفها بملابسِها , وكأنّ بي حاجةً لذلك !! ... لو تنكَّرَتْ في زيِّ شيخ كبيرٍ لما أخطأتْها عيني  ... أو كما قال الشاعر : لو بُدِّلَتْ أعلى مَنَازِلِها || سفلاً وأصْبَحَ سَفْلُهَا يَعْلُو , لعرفْتُ مَغْنَاهَا بما احْتَمَلَتْ || مني الضلوعُ لأهْلِهَا قبْلُ ...
ثم أُرِي عينيّ صورتَها وهي تسبقني إلى المطعم لتنتظر قدومي عليها ..
كل هذا لي أنا ؟! ..
موتي إن شئتِ يا ( هنْد ) فقد بلغْتِ غايتكِ .. ولكنَّ الدَّهْرَ تسْنَحُ فرصُهُ بأكثرَ من ذلك , ولطالما ضنّ عليّ ولو بالقليل , فلماذا لا أنتهز الفرصة وأغتنم كل ما امتدَّتْ به يداه ... لأدخلِ المطعمَ وأقابلْها وأكُنْ أولَ من أعاد حبُّها محبوبتَها من الموت ؛ لقد حاول (جلجاميش) ففشل , ونجحْتُ أنا !

أخطو في توجُّسٍ إلى داخل المطعم , فتقع عيناي عليها مباشرةً ؛ لو كان حكمي فيها غيرَ مردودٍ لقلْتُ إن جمالها على أرض الواقع يزيد مراتٍ على جمالها في الصور ... الشعر الكستنائي تتهدّل خصلاتُه على جانبي هذا الوجهِ الملائكيّ ... لا أعتقد أني يعتريني المللُ من إدامة النظر إليها ولو لسنواتٍ ... وأرى عينيها تتوقفان عندي وقد فطنَتْ إلى وقوفي على باب المطعم فتنظر إليّ كالمتسائلة ...
وعندما تراني أقف كالمذهولة _وقد انشغلْتُ بالحملقة فيها عن كل شيءٍ حولي_ يرتسم على وجهِها الفتّان ابتسامةٌ عذبةٌ فيكاد قلبي يفارق مكانَه من شدة النبض ... أكنْتُ أنا سببَ ابتسامتِها ؟
تلوّح لي بيدها لأدنو من طاولتِها , فأسير نحوها بخطى متخشبة , وكأني أنا التي عدْتُ من الموت !

فلما انتهى بي الحال في المقعد المقابلِ لها , نظرَتْ لي فيما يشبه الاستغرابَ , وقالتْ والابتسامة لا تزال تَمْرَحُ في وجهها الحبيب :

- " أنتِ تعرفين من أنا ؟! "

- " بالطبع ! لم أتصوَّر أنني سأقابلكِ يوماً "

- " بسبب " الوفاة " ؟ "

- " ولأسباب أخرى ... عندما أرسلْتِ لي تلك الرسالة ظنَنْتُكِ شخصاً يتلهّى "

- " أيُّ رسالةٍ ؟! "

في البداية ظنْنُتُ أنها تعبثُ , ولكنْ عندما أمعنْتُ النظرَ في ملامحها _ أو زدْتُ في الإمعان فيها للدقة _ لمْ أرَ وراءها سوى الدهشة .
إذاً فهي لم تكنِ الشخصُ الذي راسلْتُه البارحة ! ...

 أنظر حولي في تساؤلٍ فأرى رجلاً يقابلُنا ظهرُه ,  يجلس إلى طاولةٍ منفرداً وهو ينظر حوله وكأنه يرتقِبُ وصول أحدٍ ؛ أيكون هذا هو صاحبي ؟ وإن كانَ فما الذي أتى بها هنا في هذا الموعد ؟!
التفتُّ إلى ( جايمي ) وقلْتُ في هدوءٍ فاجأني :

- " اعذريني للحظة ! "

ثم قمْتُ وتوجهْتُ إليه في خطواتٍ ثابتةٍ , وقد عزمْتُ على جلاء حقيقة الأمر , وسألْتُه في أدبٍ مصطنعٍ :

- " المعذرة يا سيدي , ولكن هل تنتظر شخصاً بعينه ؟ "

نظر إليّ في استغرابٍ , وقال :

- " نعم , إنني في عشاء عملٍ , وتأخَّر وصول عميلي .. هل أخدمكِ بشيءٍ ؟ "

- " آسفة ! ... لقد ظنَنْتُكَ شخصاً آخرَ " 

رجعْتُ لطاولة ( جايمي ) وقد ازدادَتْ حيرتي ... ما الذي يحدث هنا ؟

- " ما الذي قلْتِه لذلك الرجل ؟ "

جاءني صوتُها وقد همَمْتُ بالجلوس , ففطنْتُ إلى غرابة الموقف وابتعدْتُ عن الكرسيّ , وأجبْتُها :

" لقد كنْتُ أشكّ في أنه هو من راسلني البارحة , ولكن اتضح لي خطأي ... على أية حالٍ أعتقد أنكِ لم تكوني تنتظرين أحداً , ولذلك فلا أريد أن أضايقكِ ..."

قاطعتْني في هدوءٍ :

- " في الواقع لقد كنْتُ في انتظار مساعدتي الشخصية , هي من اقترحَتْ أن نتعشى في هذا المكان الراقي ... لقد خفْتُ أن يعرفني فيه أحدٌ , ولكن يبدو أن أفلامي ليستْ بهذا الانتشارِ في بلدكِ ! "

- " على العكسِ إنكِ محبوبةٌ هنا جداً , ولكني أعتقد أن أحداً لا يشكّ في صحة خبر وفاتكِ , فإذا رأوك ظنوا أنه مجرد تشابهٍ .... اعذريني في السؤال : مساعدتكِ الشخصية هي من اقترَحَتْ هذا المكانَ , هل لي أن أسأل متى فعلَتْ ذلك ؟ "

- " في ظهر هذا اليومِ , لماذا ؟ " 

- " لأنني أعتقد أنها هي من راسلَتْني البارحة ! "

- " ما موضوع مراسلة البارحة هذا ؟!  "

قبل أن أجيبَ قاطعني صوتُ ( جايمي ) وهي تشير إلى شيءٍ ما ورائي :

- " ها هي ذي ! "

التفتُّ ورائي فرأيْتُ فتاةً في أواسط العشريناتِ تسرع الخطى نحونا , فلما بلغتْنا قالتْ وهي تلهث :

- " المعذرة على التأخر ..."

ثم صوَّبَتْ إليّ نظرة اعتذارٍ , وكأنها تتأسَّف لي بشكل شخصيّ على تأخرها , ثم أضافتْ وهي تشير إليّ  :

- " ( جايمي ) , هذه هي أكبر معجباتكِ هنا , وقد أردْتُ أن تقابليها على أرضِ الواقع , فخطَّطْتُ لكل هذا .. لأن هذا ما تفعله المساعداتُ الشخصيّات على ما أعتقد ! "

جاء صوتُ ( جايمي ) لا يخلو من الغضب :

- " إنني لا أمانع أن أقابل المعجبين , ولكن بالنظر إلى أنني رسمياً متوفية , وكل هذا .. فربما كان عليكِ أن تسألي قبل أن تُقْدِمِي على ذلك ! "

حاولْتُ أن أردَّ بشيءٍ , ولكنّ المساعدة أجابتْ :

- " ثقي بي ! هذه ليستْ مجرَّد معجبةٍ ... لنقلْ إنني أعرف عن كليكما ما لا يعرفه أحدٌ آخر ... وأنه _خوفَ الخوض في أسرارٍ قد لا يرغبُ أحدٌ في مصارحة الآخرين بها_ فإن عليكما أن تثقا بي في أنكما بحاجة إلى أن تتعرفا على بعضكما البعض ! "

نظرْتُ أنا و(جايمي) إليها في دهشة , أنا أعرف أنها تعرف عني الكثيرَ .. خصوصاً عن مشاعري تجاه ( جايمي ) , ولكن ما الذي تعرفه عنها ؟ ...
لا شكّ أن الفكرةَ نفسَها قد خطرَتْ لـ ( جايمي ) ...

هل قامتْ هذه المساعدة الشخصية  بدور الخاطبة ؟ ..
أم أن ما أرادتْه هو أن تزيل اكتئاب ( جايمي ) بسبب الهجوم عليها , ورأت أنه لن يزيل اكتئابَها إلا أن تقابلَ شخصاً مثلي ؛ شخصًا ( مستعدّاً  للموت من أجلها ) ؟ ...
ولكنني راضيةٌ حتى بهذا .. أنا لا أهتمّ إن كانتْ لن ترى فيّ سوى معجبةٍ ما ... إن كان هذا ما يرضيها , ويزيل حزنَها فأنا قانعةٌ به !

بدأ حرجُ الموقف يزداد , وشعرَتْ به المساعدة الشخصية فقالتْ وهي تنسحب :

- " حسناً , كما قلْتُ لكما :  ثقا بي ! وإن كان لي أن أقترح فاتحةً لكسر الجليدِ بينكما , فأنا أقترح عليكِ " .. وأشارتْ إليّ .. " أن تخبري ( جايمي ) بالقصيدة التي قلتِها لي البارحة ... حسناً , وداعاً ! "

لم تفرغْ من كلامِها حتى كانتْ قد انصرفَتْ , فأشارَتْ إليّ ( جايمي) لأجلس , فجلسْتُ , ثم قلْتُ :

- " أنا آسفة فعلاً على كل هذا .. أنا واثقة أن آخر ما تريدينه هو أن تتعرضي لمفاجأة كهذه  .... "

قاطعتْني قائلةً :

- " من أين تدرين أن هذا هو آخر ما أريده ؟ "

- " لقد ذكرْتِ ذلك في إحدى حوراتكِ ؛ أنكِ لا تحبين أن يخرج شيءٌ عن النظام المحدد الذي رسمْتِه له ... حتى إنكِ لا تسمحين لأحد أن يفاجئك بعيدِ ميلادكِ وتصرِّين على تجهيز الحفل بكل تفاصيلِه بنفسكِ "

ابتسمَتْ ( جايمي ) ابتسامة خفيفةً , وقالتْ :

- " أنتِ تعرفين عني الكثيرَ , وأنا لا أعرف عنكِ شيئاً , ولكني أعرف أن ( كاسي ) _ هذا هو اسم مساعدتي الشخصية _ لم تكنْ لترتِّبَ كلّ هذا _مع علمِها بكرهي للمفاجآتِ_ إلا إذا كان هناك سببٌ مقنعٌ لذلك .. فسأثق بها .. بالمناسبة ما هي هذه القصيدة التي ذكرَتْها ؟ "

- " إنها مجرَّد قصيدة قديمة لشاعر مات قبل اثني عشر قرناً ! "

- " واو ! حسناً أخبريني بهذه القصيدة ! "

- " إممم .. حسناً ! إنها قد تبدو غريبةً بعض الشيء , ولكنّ الكثير يتغير في ألف ومئتي سنة , إن الشاعر يقول  :
إن الحبَّ قد جعلني أنتهي إلى المكان الذي أنتِ فيه فلا أتجاوزه أو أحُلُّ دونه .
ولأنّ تقريعَ الناسِ لي في تفانيّ في حبي لكِ هو تقريعٌ يشتمل على ذكركِ فإنني صرْتُ أحبّ سماع تقريعهم ولومهم بسبب حبي لذكركِ .
حتى هنا يبدو الأمرُ مبالغةً مقبولةً , ولكنّه يشتطّ فيقول :
إن هناك تشابهاً بينكِ وبين أعدائي , وهذا التشابه هو أن كليكما يكرهانني , وحقّ المتشابِهَين أن يُنْزَلَا منزلةً واحدةً , ولما كنْتُ لا أستطيع كرهَكِ فقد أحبَبْتُهم !
ثم لا يكتفي بذلك فيصل إلى الذروة ويقول : 
لقد رأيْتُ نفسي من ضمْن ما تهينينه فاجتهدْتُ في إهانتِها ؛ لأنه لا كرامةَ لما لا تكرِّمينه ولو كان نفسي "

- " في أيِّ سياقٍ بالضبطِ أرْسلْتِ هذه القصيدة لـ(كاسي) ؟ "

- " إمم ... لقد كنا نتحدث عنكِ ! "

بدَتْ الحيرةُ على ملامحها لفترةٍ ثم فطِنَتْ إلى المعنى , فبدا عليها الاستغرابُ , وسألتْ :

- " هل أنتِ مثليّة ؟ "

لم أدرِ كيف أجيب على هذا ... أنا راضيةٌ بأن يقتصر ما بيننا على مجرد المعرفة , ولكنني _ بغباءٍ _ قد لمَّحْتُ إلى ميلي لها , فقلْتُ :

- " أنا ما تريدينه مني ؛ لو طلبْتِ أن أغيِّر ذلك وأتزوج رجلاً في الغد فسأفعل ما يرضيكِ ! "

- " هذه ليستْ رسالةً أرغب في نشرِها كليبرالية , ولكن تفانيكِ محبّبٌ للنفس ! "

- " لقد خفْتُ أن أبدو غريبة الأطوار ! مثلَ هؤلاء المعجباتِ اللواتي يتعديْن على خصوصية من يُعْجَبْنَ به ! "

ابتسمَتْ في مكرٍ , وقالتْ :

- " هل سبق لكِ أن تعديْتِ على خصوصيتي ؟ "

هزَزْتُ رأسي نافيةً وابتسامة خجلى قد تسللت إلى فمي ؛  كل تلك الصور التي أحتفظ بها والتي التقطها لها المصورون وهي لا تعلم .. إنها تعتبر اختراقاً للخصوصية على ما أعتقد .

أضافَتْ ( جايمي ) في صوتٍ عذبٍ :

- " أنا لا أدري بالضبط ما مقدار ما تعرفه ( كاسي ) عني أو عنكِ , ولكن لِنرجُ أن يكون ما تعلمه يزيد على كوننا مثليَّتين ! "

خفق قلبي بعنفٍ ؛ هل اقترحتْ لتوِّها ...؟

وقاطعني صوتُها مرةً أخرى :

- " لأنه لو كانتْ تعلم على سبيل المثال تاريخَ تصفحي على الإنترنتِ فحينها ستعرف _يقيناً_ سرًّا آخرَ عني , وإن كانتْ تعرف تاريخَ تصفحكِ للإنترنتِ فلعلها عثرَتْ على السرّ نفسِه ! "

خفق قلبي بقوةٍ أكبرَ .... ثم تذكرْتُ شيئاً ؛ ( كاسي) لا يُفْتَرَضُ أن تعرف أنني أسكن هنا , وفقاً لصفحتي الشخصية التي راسَلَتْني عليها فأنا لا أقيم في مصر حتى ( لقد ظنَنْتُ أنه من الأسلم أن أجعل محل إقامتي في طرابلس , وكذلك كتبْتُ في صفحتي الشخصية )   , فمن أين عرفَتْ محلّ إقامتي حتى تضرب لي موعداً في هذا المطعم ؟
لعلها بالفعل استطاعتْ اختراق حسابي , وربما حاسبي أيضاً !
وحينَها فلن تضطر للبحث عميقاً لتَجِدَ " ذلك السرّ " الآخر !

مرةً أخرى يأتيني صوتُ ( جايمي ) ليؤكد صحةَ ما ذهبْتُ إليه :

- " هل كنْتِ فتاةً شقيةً , وتجاوزْتِ الخطَّ الفاصل بين الإعجاب واختراق الخصوصية ؟ "

لا أدري من أين أتتْني الجرأة أمام هذه الممثلة الفاتنة التي يتمنى الجميعُ نظرةً من عينيها , ولكنني قلْتُ :

- " لو كنْتُ أعلم أنكِ ستفعلين شيئاً يزيد على الكلام لما تجاوزْتُه ! "

نظرَتْ في دهشةٍ ممزوجة بالإعجاب , ثم قالتْ:

- " هل لديكِ مكانٌ عليكِ أن تذهبي إليه هذه الليلة ؟ "

نعم ! لا يمكن أن أقضيَ الليلة في مكانٍ آخرَ غير بيتي , ما الذي سيقوله والداي ؟ أساساً أنا في بيت إحدى صديقاتي حاليًّا وفقَ ما يعتقدانِه , ولكنِّي أجيبُ :

- " لا مكانَ غير الذي تريدينني فيه ! "

الابتسامة تتّسع ويزداد مع اتساعها خفقُ قلبي , ثم تقول :

- " لا تعتقدي أن هذا الخضوع سيخفِّفُ من عقابكِ "

- " لو أخبرْتكِ بكلِّ ما جعلْتُكِ تفعلينه في خيالي , فلا أعتقد أن شيئاً سيخفِّف من عقابي حتى لو فديتكِ بحياتي ! "

تلك الابتسامة.. الغمّازتان ... العينان الخضراوان تلمعان سروراً ورغبةً ... كلُّ هذا لي أنا ! ... ثم تتظاهر بالجدّ وتقول :

 - " الآن بدأْتُ أقلق ! ما الذي فعلتُه في خيالكِ بالضبط ؟ "

- " ما الذي لم تفعليه ؟! لو لم أكنْ معجبةً بكِ لقلْتُ إنكِ مجنونةٌ بالجنسِ ؛ كأنكِ تريدين أن أظلَّ طيلةَ اليوم في السرير ! "

الوجه الجادّ المصطنع ينهزم أمام الابتسامة التي تعود لتضيئه فتفقدني القدرة على التنفس المنتظم , وتضيف باسمةً :

- " أعتقد أنني معذورةٌ في ذلك , كل هذا الجمال يُفْقِدُ المرءَ لبَّه ! "

هل قالتْ ذلك ؟! ..

أعني _لأكونَ محايدةً_  فإن كل من أعرفه يصفني بالجمال...  ولكِنْ بالقياس إليها .. !

 إنها مَلَكٌ يمشي على الأرض !
وتنظرُ إليّ وقد عقدَ إطراؤها عليّ لساني , ثم ترتفع ببصرِها قليلاً وتبتسم إلى شخصٍ آخر ... ألتفت لأرى من هذا ... فأجد النادلَ يقول وهو يضع أطباقاً على طاولتِنا :

- " طلبُ السيدتين ! هل آتي لكما بشيءٍ آخرَ ؟ "

تجيب ( جايمي ) :

- " شكراً , هذا كافٍ ! "

- " بالهناء والشفاء ! "

أنظر إليها بعينين متسائلتيَن , فتقول :

- " إنني دائماً أطلب لـ ( كاسي ) بالنيابة عنها , لقد اعتدْتُ أن أكون المسيطرةَ في العلاقةِ إن صحّ التعبير ! "

الدم يندفعُ إلى وجنتيّ , ليس خجلاً ... كل ما سمعْتُه مما قالتْه كان : كاسي ... العلاقة ... وتوقف ذهني عن التفكير في أي شيءٍ آخرَ , وفطنتْ هي لغيرتي , فأضافتْ :

- " العلاقة مجازاً ؛ إن ( كاسي ) لديها حبيبُها , وهي أبعد الناس عن أن تكون مثليّةً ... ولكنَّ غيرتَكِ محببةٌ للنفس ! "

- " إن آخرَ ما تُوصَفُ به غيرتي هو أنها محببة للنفس , لقد همَمْتُ أن أقلب الطاولة بمحتوياتها على رأسكِ ! "

نظرةُ الاستغراب الممزوجة بالإعجاب تعود لعينيها , وتلك الابتسامة التي ستتسبب في وفاتي بأزمة قلبية تعود هي الأخرى :

- " إلى هذا الحد... ؟ "

- " إن عشر سنواتٍ من علاقتِي بكِ فترةٌ طويلةٌ ليمرَّ إعجابكِ بأخرى مرورَ الكرامِ ! "

- " عشر سنواتٍ ؟! متى بدأتِ في الإعجاب بي؟ .. وأنتِ في الثالثة ؟! "

- " التاسعة ! لقدْ أتْقَنتُ الإنجليزية في الصف الخامس الابتدائي بسببكِ . ولكنّ الفترةَ بين إعجابي بكِ في التاسعة وفهمي لما تقولينه في الحادية عشرة قد حوتْ ساعاتٍ من الحوارات التي لا أفهم أكثر ما فيها , ولكني أتابعها حرفاً بحرفٍ لأستمع إلى صوتكِ  "

كنْتُ مندفعةً في جولة المصارحةِ تلك , ولكني فطنْتُ إلى ما في هذه التصريحاتِ مما يستحق أن يثير مخاوفَها من سلامتي العقلية ... ولكن على العكسِ , وجدْتُ وجهها يتلألأ مشرقاً , وكأنها ترغبُ في سماع المزيدِ , فأضفْتُ :

- " بعد ذلك بسنين طلبَتْ منَّا المدرِّسةُ في أحد الأيام كتابةَ موضوعِ تعبيرٍ عن مثلِنا الأعلى , وكتبْتُه عنكِ .. فثارتْ حفيظتُها لِتَجَرُّؤِ طالبة على جعل ممثلة أجنبية مثلَها الأعلى .. واستدعَتْ والدي إلى المدرسة وأنَّبَتْني أمامَه وأمام المديرة فقلْتُ لها _ وأبي حاضرٌ _ : انظري إلى أعظم من تحترمينه من البشرِ , ثم انظري إلى أشدّ من تحتقرينه من البشر , وتصوِّري أن الحقير يسب العظيم حتى تعرفي ما أشعر به الآن ! "

- " ما الذي حدث بعد ذلك ؟ "

- " لقد فُصِلْتُ من المدرسة ! واضطرَرْتُ للتسجيل في مدرسة أخرى بعيدة , ورأى والدي أن يعاقبني بأن أذهبَ إليها وأعود منها سيراً على الأقدام طيلة السنتين الباقيتين لي فيها , فكنْتُ أتوجّه إليها قبل بدء اليوم الدراسي بساعة وأعود للبيت بعد انتهائه بساعة على مدار سنتين , ولكنني لم أبالِ آنذاك ؛ لأن تلك الساعتين كانتا موعداً ثابتاً لي لأفكِّرَ فيكِ كلَّ يومٍ ! "

- " مثلما قال ذلك الشاعر ؟ "

- " إلى حدٍّ ما ؛ إذا كانوا سيعاقبونني بسبِّبِ إعجابي بكِ , فالعقوبة لذيذة لأن فيها ارتباطاً بكِ "

بدا التأثرُ جليًّا على وجهِها , وقالتْ :

- "في هذه القصةِ تفانٍ لم أكُنْ أحلمُ بأن أرى شخصاً يبلغه في سبيلي ! "

تذكرْتُ حوادثَ أخرى أكثر تفانياً من هذه , ولكنني قرَّرْتُ ألا أخبرَها بها , ولكنِّي قلْتُ _ لألطفَ الجوّ _  :

- " إن فيها أيضاً ذكراً للعقاب وذكراً لكِ , وفي تلك الفترة كان ورودُ هاتين الفكرتين مقترنتين كثيرَ الحدوثِ في خيالي "

رجع المرح إلى ملامحها وصوتِها وهي تسأل :

- " اروي لي خاطرةً من خواطرِ عقلكِ آنذاك ! "

- " حسناً , كانتْ هناك هذه الخاطرة عن برنامج لتبادل الطلاب ... من النوع الذي ينتقل فيه طالبٌ ليعيش مع أسرةٍ ما في بلد أجنبيٍّ على أن يأتيَ طالبٌ من تلك الأسرة ليعيش مع أسرةِ الطالبِ الأول ...."

قاطعَتْني قائلةً :
- " هذه الفكرة مستخدمة بكثرة في أفلام البورنو .. "

ضحكْتُ , وقلْتُ :

- " بالضبط ! .. على أية حالٍ ؛ سأشترك في هذا البرنامج وينتهي بي الحالُ في شقة أسرةٍ تعيش في المنزلِ المقابل لمنزلكِ في نفس الشارع! "

- " في بفرلي هيلز ؟ "

- " لا تهتمي بالتفاصيل , لأنني لم أهتمّ بها... بل إنني جعلْتُكِ مدرِّسةً في تلك القصة ... المهمّ سأذهبُ للمدرسة التي صرْتِ تعملين بها... وسينتهي بي الحال فتاةً مشاغبةً في فصلكِ أنتِ بالذاتِ , وملاكاً في فصول المدرِّسين الآخرين , حتى إذا ما شكوْتِني إلى إدارة المدرسة استغرب الجميعُ من أن يكون ذلك الملاكُ محلّ شكوى ! "

- " هذه خطّة شريرة ! "

- " وهي تمهيدٌ لما بعدَها , لأنكِ عندما تعجزين عن أن توقعي عليّ عقوبةً بالطريقة القانونية ؛ لأن بقيّة المدرسين سيشكّون فيكِ قبل أن يشكّوا فيّ , بالإضافة لعامل الخوف من الاصطدام الثقافي والعنصرية وكل ذلك ... ستضطرين إلى إيجاد عقابٍ بديلٍ .. وتنتهزين فرصة أنني أعيش في المنزل المقابلِ لكِ , وتطلبين من جيرانكِ _ الذين صرْتُ أعيشُ في منزلِهم _ أن يسمحوا لكِ بدعوتي إلى بيتكِ في إحدى الليالي لأتعرّفَ عليكِ بشكلٍ أفضل أو شيئاً من هذا القبيل , المهم ... "

- " المهم أنكِ ستصيرين في منزلي وحدَنا .. "

- " بالضبط ! وحينَها سأستمر في الشقاوة وفي تكسير ما تطوله يداي في منزلكِ , بما فيه تمثالُ جائزة الأوسكار الخاصِّ بكِ ... "

- " والذي لم أحصلْ عليه في أرضِ الواقع ... ولم أحصلْ عليه في قصتكِ لأنني مدرسةٌ  ! "

- " ... إمم ..هذا خطأٌ تقنيٌّ بسيطٌ ... أما على أرض الواقع فهذا خللٌ في عقلِ القائمين على الأكاديمية , ولذلك فقد صحَّحْتُه في قصتي .. "

- " قبْلَ أن تقومي بكسرِه بعد ذلك .. "

- " إن القيمة المعنوية هي ما يهمّ , لا أعتقد أن التمثال نفسه يساوي الكثيرَ , ولكنّكِ لم تشاركيني هذا الرأيَ في تلكَ القصة , وعاقبتِني عقاباً شديداً انتهى بي باكيةً أطلب الصفحَ وأعترفُ أن دافعي إلى كل ذلك كان حبي لكِ الذي لم أدرِ كيف أعبِّرُ عنه , ثم انتقلْنا بعد ذلك لممارسةِ الجنسِ بقيةَ الليلة "

- " وعلى أرض الواقع .. كيف انتهى بكِ الحالُ وأنتِ تتصورين تلك القصة ؟ "

- " إلى نفسِ ما انتهيْتُ إليه في القصة , ولكنَّ يدي قامتْ بلعب دورَكِ على أرض الواقع "

ابتسمَتْ ( جايمي ) وهي تهزُّ رأسها وكأنها لا تصدِّق جرأتي ... أنا لم أكن أصدِّق جرأتي .. ثمّ أخرجَتْ من محفظتِها بعض المالِ ففطنْتُ إلى ما تهمّ بصنعه فعاجلْتها :

- " دعيني أنا أحاسبُ , إنكِ ضيفةٌ في بلدي ! "

- " ولكنَّكِ ضيفةٌ في غرفتي في الفندق هذه الليلةَ , ثم إنني _ بالنظر إلى ما أفصحْتِ عنه _ أوشك أن أكون مسئولةً عنكِ كمثال أعلى وكحبيبة وكمُعَاقِبةٍ عندما تستحقين العقاب ! "

كان هذا أكثرَ من قدرتي على التحمل , وأوشكْتُ أن أقع مغشيّاً عليّ , ولكني تمالكْتُ نفسي ... بل وجدْتُني أسأل في جرأةٍ عجيبةٍ :

- " هل سأرتدي طوقاً عليه الحروفُ الأولى لاسمكِ ؟ "

علَتْ ضحكتُها حتى خشيتُ أن تَشُدَّ انتباهَ الناس , ثم قالتْ :

- " لا بأسَ , سأشتري لكِ طوقاً في أقربِ مناسبةٍ "

ثم _ بعدَ تردُّدٍ _ غمَسَتْ إصبعَها في بقايا الطعامِ في طبقِها وأدنَتْها من فمي , فنظرْتُ حولي في خجلٍ , ولمّا لم أجد أحداً ينظر نحونا , أحطْتُ طرفَ إصبعِها بشفتي ولعقْتُه وعيناي مثبتتان بعينَيها الضاحكتَيْنِ , فقالتْ _ وإصبعها لا يزال في فمي _ :

- " بل سأشتري لكِ طوقاً الآن ! هل تعرفينَ محلاً قريباً للمجوهراتِ ؟ "

- " ليسَ عليكِ أن تجعليه من المجوهراتِ "

نظرَتْ إليّ في استياءٍ وكأني أهنْتُها ثم قالتْ :

- " حسناً , ستعاقبين على هذا التعليق عندما نرجع للفندق , ولكن بإمكانكِ أن تخفِّفي عقابكِ بالاجتهاد في إيصالِنا إلى محل مجوهراتٍ قريبٍ ! "

كانَتْ نبضاتُ قلبي تتسارع بصورة مخيفة , ولكني قرَّرْتُ أن أكون مطيعةً , وقمْتُ من كرسيّيَ بسرعةٍ , فابْتسمَتْ , وزادَتْ في النقود التي كانتْ تركَتْها على الطاولة ثم قامَتْ هي الأخرى من كرسيِّها , واتّجهَتْ إليّ , وجعلَتْ راحتي في راحتِها , وقالتْ همساً :

- " سيري بنا ! "

كانتْ هذه هي المرّة الأولى _منذ كنْتُ طفلةً _ التي أسير فيها في مكانٍ عامٍ ويدي في يد شخصٍ آخر ! ليس أيِّ شخصٍ آخر .. بل هي ... هي هي !  واقعاً لا خيالًا ..

وخرجْنا من المطعمِ .. فوقَفْنا على جانبِ الطريقِ في انتظار عربة أجرةٍ ... وشعرْتُ بالقلقِ ؛ فبالنظرِ إلى ما ترتديه هي وإلى إمساكها بيدي في يدها .. فلن يمرّ كثيرٌ من الوقْتِ حتى يتحرش بنا أحدهم , وبالفعل دنا شابٌّ قميء المنظر منا وهو يهمّ بقول شيءٍ , ولكن  جايمي ) أحدَّتْ إليه النظرَ , ولا أدري ما الذي رآه في عينِيها بالضبطِ ؛ ولكنّه انصرف بعيداً عنا بسرعة دون أن ينبسَ ببنتِ شفةٍ ... هذه أيضاً هي أول مرة ينتهي فيها متحرِّشٌ عن تحرُّشِه بي بدون وجود "رجلٍ" ينهاه ! ...

ودنَتْ منّا  سيارةُ أجرةٍ , فرفعْتُ يدي إليها لتتوقف لنا  _ويدي الأخرى لا تزال في يدِها _ , وهمَمْتُ بالاقتراب من نافذة السيارةِ لأخبرَه بوجهتِنا , ولكن ( جايمي ) التي لم تعتدْ على استئذان سيارات الأجرة قبل ركوبِها , كانتْ قد سحبَتْ يدي وفتحَتْ الباب الخلفي وأدخلَتْني ودخلَتْ بعدي , وجاء صوتُ السائق الكهل مغضباً :

- " إلى أين ؟ "

نظرَتْ ( جايمي ) إليّ , فقلْتُ للسائق :
- " أقرب محل ذهبٍ لو سمحت ! "

تمتم بشيءٍ غاضبٍ ثم بدأ في القيادة ... وبعدَ دقائق توقّفَ أمام محلٍّ فخمٍ للمجوهراتِ , فنظرَتْ ( جايمي ) إليّ وابتسمَتْ , ثم أخرجَتْ محفظتَها , فهممْتُ أن أعرض عليها أن أحاسبَ أنا ثم تذكرْتُ العقابَ الذي ينتظرني لسببٍ مشابهٍ فسكتُّ , وشعرَتْ ( جايمي ) بالمحاولة التي وأدْتُها قبل أن تبدأ , فزادَتْ ابتسامتُها اتساعاً ...
 هذه الابتسامة الآسرة ...

أعادني صوتُ السائقِ إلى الواقع :

- " شكراً جزيلاً يا مدام ! سانك يوو ! "

هزَّتْ له ( جايمي ) رأسَها في لطفٍ بينما هو يقبَّل ظاهرَ يده وباطنَها وفيها ورقة نقدية يبدو من لونِها أنها من فئة المئة جنيه , كدْتُ أقول شيئاً , ولكنها كانتْ قد فتحتْ البابَ وأشارَتْ إليّ لأنزل , فنزلْتُ .

ولما جاورْتُها أعادَتِ الإمساكَ بيدي , ودخلَتْ بي إلى المحل , فتوجّه إلينا البائع , فقالَتْ له ( جايمي ) بإنجليزية حرصَتْ أن تكون بطيئةً وأكّدتْ على مقاطعها :

- " لو سمحْتَ فإننا نريد أن نرى الأطواق التي لديكم ! "

نظر إليها البائع في دهشةٍ ثم حَرَفَ بصرَه إليّ , فقلْتُ بالعربية :

- " هل توجد لديكم قلاداتٌ قصيرة تكاد تحيط بالعنق ؟ "

- " نعم , لدينا بعض الأنواع بهذه الصفة ! "

وتوجّه إلى إحدى الرفوف فأخرج صندوقاً مكشوفاً عرض علينا محتوياتِه ... كانتْ إحدى القلادات ينطبق عليها وصفُ الطوق , ونظرْتُ إلى ( جايمي ) فوجدْتُ بصرَها مثبَّتًا عليها , وقالتْ :

- " سنأخذُ هذا ! هل يمكنكُ أن تنقش عليه بعض الحروف ؟ "

نظر إليّ البائع مرةً أخرى فترجمْتُ ما قالتْه , فأجابَ بالإيجاب أيضاً , وعندما فرغ من نقش حرفي الجاي والجي المتتاليين , ومن جَعْلِ الطوق على مقاس عنقي , أقرضتْه ( جايمي ) الثمنَ , ولم تنتظر أن نخرج من المحل حتى أحاطَتْ الطوق في عنقي على مرأى مَن في المحل , وكأن هذا لا يكفي فقد دنتْ منِّي وقبَّلَتْه , وكأنها تعلن رضاها أو ملكيَّتها للطوق وصاحبَتِه .... كدْتُ أن أذوب خجلاً , وقد توجَّهَتْ إلينا بعضُ العيونِ ... ولكني لم أكَدْ أفرغ من الانتباه لمن حولي حتى وجدْتُ يدي في يد ( جايمي ) وهي  تسحبُها إلى خارج المحل فانسحبْتُ معها , وقالتْ لي :

- " لا اعتراضاتٍ على شرائي للطوق أو مجادلاتٍ حول من يدفع أجرةَ سيارة الأجرة ... هذا جيِّدٌ ؛ لقد بدأتِ تتعلمين ! "

- " هل هذا يعني أنني نجوْتُ من عقاب الليلة ؟ "

حاولْتُ أن أقول ذلك في دلالٍ على قدْرِ ما يسمح به كونُنا في مكانٍ عام , وفطنَتْ ( جايمي ) إلى خوفي من عيون الناس , فقالتْ في دهاءٍ :

- " ليس بعدُ , ولكنّ بإمكانكِ أن تصنعي شيئاً ينجيكِ من العقاب ! "

كنْتُ أدري ما ستقوله ولكنني سألْتُها على أية حالٍ , فأجابتْ ضاحكةً :

- " يمكنكِ أن تجعلي أولَ قبلةٍ بيننا تكون في هذه اللحظة في هذا المكان , ولا تبالين بمن يرانا , وحينَها سألغي عقابكِ . "

نظرْتُ حولي فوجدْتُ الطريق مزدحماً بالمتسوّقين ؛ هذا مكانٌ حيويّ , والعشرات يمرّون حولَنا ؛ يستحيل أن أدفع نفسي لصنع ذلك , قلْتُ لها :

- " هذه ليستْ هوليوود , بإمكان هذا أن ينتهي بنا إلى السجن ! "

- " بتهمة المثلية ؟ "

- " بتهمة ارتكاب فعلٍ فاضحٍ في مكانٍ عامّ ! حتى لو كنْتِ رجلاً وكنْتُ امرأةً وكنّا متزوجين ؛ لا يزال هذا الفعلُ مجرَّمًا ! "

- " أنتِ لم تري أحداً يقبِّل أحداً في مكانٍ عامٍ , ولا حتى والديكِ ؟ "

- " خصوصاً والديّ , إن فكرةَ أن يقبِّل رجلٌ زوجتَه أمام أبنائهما تشبه أن تكون داخلةً في جنس المحارم هنا ... في الواقع إن تقبيلكِ لهذه القلادة قبل قليلٍ قد نُحبسُ بسببه لو أبلغ أحدٌ السلطات "

بدا قلقي يتسرّب إليها , فقالتْ في هدوءٍ :

- " فلننتقلْ إلى الفندق إذاً , إنني متوفية والقبض عليّ قد يسبِّبُ لغطاً ! "

ابْتَسَمْتُ لها , وكررتُ  إيقافَ سيارة أجرة , وكررتْ هي الدخول دون سؤالٍ وإقراض السائق الكثير من المال , وعندما انتهينا إلى غرفتِها بالفندق أغلقَتِ البابَ ورائي ,و قالتْ في جذلٍ :

- " الآن لا يعتبر ما سنفعله فعلاً فاضحاً في الطريق العامّ ؟ "

- " لو كانتْ هناك شبهةٌ بأنه سيكون فعلاً فاضحاً في مكان غير عامّ , لما سمح لكِ الفندق باصطحابي إلا بعد إثبات شهادة زواجٍ بيننا , ولكن بما أننا امرأتان فإنهم لم يطلبوا شهادة الزواج  ...
إن هذه الأمور مهمة للغاية هنا , بإمكان ممارسة شخصين للجنس بشكل غير مصرّحٍ به أن يتسبب في أزمة نووية أو شيء من هذا القبيل "

- " إنه يجعلني أشعر وكأنني من فرسان العصور الوسطى... وقد اختطَفْتُ أميرتي العذراء من قلعتها في مملكة أبيها التي ستشن حرباً عليّ دفاعاً عن شرف الأميرة المخطوفة ! "

- " إن الأمر ليس بهذه الرومانسيّة , ولكن شكراً على جعلي أميرةً ! "

- " لقد جعلتِني مدرِّسةً , فوَجَبَ أن أردّ الواجبَ ! "

نظرْتُ إليها في حياءٍ , وقلْتُ في دلالٍ بلغ غايتَه _ إذ لم يعدْ حولَنا من أتوقّاه _ :

- " فهل تكمِلُ سيدتي تفضَّلَها ومجازاة إساءاتي بالإحسان , وتتخلى عن عقابي الذي أعترف بأني أستحقه ؟ "

نظرَتْ إليّ بعينيها الحسناوين , وقالتْ وهي تدنو منّي :

- " ألم أعطِكِ وسيلةً للنجاة من العقابِ فرفضتِها وبدلاً من أن تطيعيني أعطيتِني محاضرةً في عاداتِ وتقاليدِ بلدكِ ؟ "

- " ولكنّ ذلك كان مبرّرًا ؛ لقد كانتْ هناك مخاوفُ فعليّة كان علينا أن نحذرَ منها ! "

- " فلنفترضْ أنني طلبْتُ منكِ تقبيلي في دولةٍ لا تجرِّم المثلية ولا تعتبر التقبيل في مكان عامٍّ جريمةً , هل كنْتُ لتقبليني ؟ "

كانتْ محقّةً ؛ إن رفضي ليس راجعاً بالكليّة لأسباب قانونية ... هناك حيائي من الناس , وهو سببٌ كافٍ لامتناعي عن ذلك الفعلِ !

حاولْتُ أن أجيبَ بشيءٍ , ولكنّ عينيّ فضحتاني , فأجابَتْ ( جايمي ) عني :

- " أعتقد أنكِ كنْتِ لتبحثي حينَها عن عذرٍ آخرَ يبرِّرُ خجلكِ وينجيكِ من العقابِ في الوقتِ نفسِه ؛ لأن هذا ما تصنعه الفتياتُ الذكيّاتُ عندما يرين أنفسَهنّ في ورطةٍ ... المشكلة أن هذا يجعلُهُنّ يعتقدْنَ أن بإمكانهنّ صنعَ ما يحلو لهنّ والإفلاتَ من المحاسبة فيما بعد ... إن علينا أن نغيّرَ ذلك . أم كيف ترين ؟ "

ومع آخر كلمةٍ وضعتْ إصبعها بين قلادتي وبين عنقي وجذبَتْني إليها .. إلى وجهِها ... إلى شفتيها ... ولمّا أوشكَتْ شفتاي على ملامسة شفتيها أوقفَتْ جذبي .. فأتْمَمْتُ أنا الحركة .. فخطَتْ خطوةً للخلفِ , وقالتْ في معابثةٍ :

- " المعذرة هل ترغبين في تقبيلي ؟ "

هزَزْتُ رأسي في حماسٍ , فقالتْ :

- " وهل تنال الفتياتُ الشقيّات ما يرغبْن فيه أم يحرمْنَ منه ؟ "

قلْتُ لها بصوتٍ لاهثٍ _وعيناي لا تزالان تحملقان في تَيْنِك الشفتَيْن العذبتين_ :

- " أرجوكِ ! "

- " أرجوكِ ماذا ؟ "

- " أرجوكِ اسمحي لي بتقبيلكِ ! "

نظرَتْ إليّ وخطةٌ ترتسم وراء عينيها وتثير هيامي بها اشتعالاً , ثم تحرَّكَتْ تجاه كرسيٍّ أمام طاولةٍ فسحبَتْه إلى منتصفِ الغرفةِ , وبدا لي أنني أدركُ ما تنوي فعلَه , ولكن بدلاً من أن تجلسَ على الكرسيِّ طلبتْ مني أنا أن أجلس عليه ...

توجَّهْتُ إليه وجلسْتُ عليه , فقالتْ لي في عذوبةٍ :

- " سأطلبُ منكِ طلباً وإذا قمْتِ به فسأقبِّلكِ ! "

- " أيَّ شيءٍ ! "

- " إن الطلبَ بسيطٌ ؛ لا تحرِّكي شيئاً من جسدكِ ! "

لم أكنْ أفهم بعدُ ما تنوي فعله , ولذا فقد صُعِقْتُ عندما ابتعدَتْ عني خطواتٍ , ثم سَلَّتْ ثوبَ السهرةٍ الذي كانتْ ترتديه لتكشفَ أنها لم تكنْ ترتدي تحتَه شيئاً ... بعد عشْرِ سنواتٍ من تمني هذه اللحظة , لا أعتقد أن من الإنسانية أن تطلب مني البقاءَ في مكاني و"عدمِ تحريكِ شيءٍ من جسدي"  وأنا أراها عاريةً لأول مرةٍ في صورةٍ أو واقعٍ  ..
ولكن السادية كانتْ قد ابتدأتْ لتوِّها ... فقد توجَّهَتْ إلى جهازٍ من تلك الأجهزة الحديثةِ التي لا أعرف اسمها والتي تنبعث منها الموسيقى مضخَّمةً وضغطتْ على زرٍ , فانبعثَتْ موسيقى راقصةً سريعةَ الإيقاع ...
كل هذا وأنا مربوطٌ نظري بمحاسن جسدها برباطٍ غير مرئيّ ... هذا ليس جمالاً بشرياً ... إنها تبدو كتمثالٍ لا علاقة لمحاسنِه بالخلايا ولا الجينات ولا التغذية ولا عوامل التعرية ... كأنَّها صورة مثالية للجمال الأنثوي ؛ وُجِدَتِ الصورةُ أولاً ثم تركَّبَ الجسدُ بناءً عليها ... وها أنا ذي جالسةُ أتملى في كلِّ هذه المحاسنِ ولا أستطيع أن أصنع شيئاً حيالها ...
دنَتْ مني حتى شعرْتُ بأنفاسِها على خدِّي , وأنا أبذل جهداً خرافيّاً حتى لا أقبِّلها أو أعانقها أو ألتهمها التهاماً ... فلمّا بدا أنني موشكةٌ على الموت لأن قلبي قد نسي النبض لينشغل هو الآخر بالحملقةِ فيها , فاجأتني وفاجأتْه بحركةٍ شديدة الانسيابية انتبهْتُ في صعوبةٍ إلى أنها تتجاوب مع اللحن المنبعث من ذلك الجهاز ... إنها راقصة ماهرةٌ .. لقد كنْتُ أعلم ذلك عنها ... ولكني الآن أراه رأْيَ العينِ ...

ثم جعلَتْ يديها تحيطان بعنقي وقد استقرتا على ظهر الكرسي , وأحاطَتْ فخذيّ برجليها ثم دنَتْ بخصرها من خصري حتى كادتْ تلامسه ثم ابتعدَتْ عنه , كل ذلك وهي لا تزال ترقص على اللحن ..

كان ثدياها يهتزّان لرقصها ولا يفصل بينهما وبين عينيّ سوى سنتيمتراتٍ ... لن أستطيع التحملَ أكثر من ذلك ...دنوْتُ بيديّ من ثدييها وقبل أن أقبض عليهما في راحتيّ , سمعْتُ صوتَها محذرةً :

- " أَأْ .. أَأْ ... غير مسموحٍ باللمس ! "

- " سأعترفُ بكلِّ ما تريدينه ؛ أنا من قتل لينكولن ! ... ولكن أرجوكِ , أوقفي هذا التعذيب ! "

- " حاولي أن تضبطي نفسكِ .. لا يزال العرضُ في بدايتِه ! "

ومع قولِها هذا ابتعدَتْ بجسدِها حتى زالَ عطرُها من أنفي ثم مدَّتْ إحدى يديها فغطَّتْ بها حلمتيها وما أمكن من ثدييها , وغطَّتْ بالأخرى ما بين رجليها ... وهي لا تزال مستمرّةً في الرقصِ , ثم قالتْ وهي تتصنّع الخجلَ _ ويا لها من ممثلةٍ  _ :

- " هلّا نظرْتِ بعيداً رجاءً ! فأنا لا أرتدي ملابسَ ! "

قلْتُ _ وقد أعجبني الدورُ _ :

- " إن قدرتي على التحكم في اتجاه نظري كقدرة الميت على التنفس ؛ لا سبيل أمامي سوى الحملقةِ فيكِ ؛ أنا آسفة ! "

اقترَبَتْ في خطواتٍ جانبيةٍ راقصةٍ من الفراشِ ثم جذبَتْ ملاءَتَه الرقيقةَ وأدارَتْها حول جسدِها لتغطيَ بها نفسَها فكشفَتْ أكثر مما سترَتْ , ثم دنَتْ مني بظهرِها ورقْصُها يزداد مجونًا حتى عادَ عبيرُها يغمرُني , ثم وضَعَتْ يديها على الأرض وساقيها على جانبي الكرسيّ فصار ردفاها في مقابل ناظريّ , والملاءة ترتفع شيئاً فشيئاً كلما زادَتْ هزّ ردفيها حتى انتهتْ إلى منتصفِ مؤخرتِها وصارَتْ تكشفُ ما تحتَها وتستره في كل اهتزازةٍ مرةً أو مرتين , ثم كأن هذا لا يكفي فقد اتكأتْ على يدٍ واحدةٍ وحلَّتْ باليد الأخرى الملاءةَ وسحبَتْها إلى الأرض فانْكَشَف أمامي كلُّ شيءٍ تمنى مصورو المشاهير أن يلتقطوا لمحةً له وفشلوا ... ولو كان لي أن أوجِّه لهم نصيحةً من المستقبل لقلْتُ إن أي جهدٍ بذلوه _ولو لم ينتهِ إلى شيءٍ_ هو جهْدٌ مبرّرٌ إذا كان يقصد إلى رؤية ما أراه الآن ... هذا هدفٌ تنقضي الأعمارُ في طلبِه فلا يلومُها أحدٌ ... لم يكنْ أمامي من سبيلٍ لمنعِ نفسي الآن من لمس جسدِها الأخّاذِ ... وامتدَّتْ يداي لتغوص في ردفيها , ولكن قبْل أن أمسَّهما انتهَتِ الأغنيةُ , فقامتْ ( جايمي ) وسحبْتُ أنا يديّ في آخر لحظةٍ .. والتفتَتْ إليّ ثم قالتْ :

- " أعتقد أنني أدين لكِ بهذا ! "

واقتربَتْ بشفتيها من وجهي ثم انحرفَتْ بهما عن فمي وقبَّلَتْ خدي , ونظرَتْ إليّ في مكرٍ وقالتْ :

- " لقد طلبْتِ قبلةً ووعدْتُكِ واحدةً , ولكننا لم نحدَّدْ أين ! "

- " هذا يكفي ! ثم يتهموننا نحن بالشقاوة ؟ تعالي هنا ! "

ولا أدري من أين أتتني القوةُ وأنا لا أزال أرتدي طوقاً عليه حروف اسمها , إلا أن هناك حدًّا مَن تخطاه يستحق العقوبةَ حتى لو كان رأسَ السادّيين ...

 قبضَتْ يدي على ذراعِها فنظرَتْ إليّ في دهشةٍ , ثم زادَتْ دهشتُها عندما سحبْتُها تجاهي وصيَّرْتُها مستلقية على رجليّ , وجاءني صوتُها لا يخلو من استمتاعٍ بغرابةِ الموقفِ :

- " هل يمكنني أن أشير إلى أنكِ _ على الأغلبِ _ قد قرأتِ الأدوار مقلوبةً , فصنعتِ بي ما يُفْتَرضُ أن أصنعه بكِ ! "

- " كلا ! المكتوبُ أمامي هنا : ( وقامتْ الفتاةُ الشقيَّةُ بإخلافِ وعدِها متكئةً على التلاعب بالألفاظ فانتهى الحالُ بمؤخرتِها شديدة الاحمرار وقد تلقَّنَتْ درسا لن تنساه ) أعتقد أن هذا ينطبق عليكِ "

جاءني صوتُها ضاحكاً هذه المرّة :

- " إن ما تصنعينه أقربُ إلى التجديفِ ! سيذهبون بكِ إلى الساحة العامة , ويَتْلُونَ في تهمكِ : وقامتْ المهرطقة بمعاقبةِ سيدتِها بالمخالفةِ لكل الأعراف والقوانين . وعندما ووجهَتْ بتهمها أصرَّتْ على منطقية ما صنعتْه... فاستحقَّتِ العقوبةَ العظمى ! "

- " فدعِينا نصدِّقْ على كلامهم إذاً ! "

ثم هوَتْ يدي بصفعةٍ على ردفِها الأيمن دوى صوتُها في أرجاء الغرفةِ , وقلْتُ وأنا أتصنّع الحزمَ :

- " بعد أن أفرغَ من عقابكِ , بإمكانكِ أن تصنعي بي ما شئتِ , في النهايةِ فأنا ملكُكِ كما تقول " الأعرافُ والقوانين" , ولكني انتظرْتُ عشر سنواتٍ حتى أراكِ أمامي , ثم ضبطْتُ نفسي لدقائق _بَدَتْ كدهورٍ _ أمام فتنة غير بشرية ... كل ذلك في لقاءِ قبلةٍ بريئةٍ ثم لم تمنحيني تلك القبلةَ , أعتقد أن هذا وضعٌ استثنائيٌّ يستدعي ما أفعله ! "

- " حتى أكون موضوعية , فإن في كلامكِ شيئاً من المنطقية "

- " شكراً ... في المستقبل سيكون واضحاً أنكِ أنتِ مَنْ تَضَعُ الخطوطَ الحمراءَ وأنا مَنْ تَلتزِمُ بها ... إلا إذا تكرَّرَ فعلٌ شديد الإجحافِ كهذا , فحينَها سنقلبُ الأوراقَ ... بالإضافة إلى أن مؤخرتكِ هي أجملُ شيءٍ رأتْه عيناي , ومن الظلمِ أن أُحْرَم مِن صنعِ ما أريدُ بها بين الفينةِ والأخرى ... أليس كذلك ؟ "

ومع قولي هذا صنعْتُ ما جاهدْتُ لأمنع نفسي من صنعِه أثناء تلك الفقرة الراقصةِ , فأوسعْتُ مؤخرتَها قبلاتٍ وعضّاتٍ وأنا أقبض عليها بكلتا يديّ , فجاءني صوتُها مستمتعاً :

- " إن كانَتْ هذه هي فكرتُكِ عن العقاب , فبإمكانكِ أن تقومي بها كلَّ يومٍ "

ولم تتِمَّ جمْلَتَها حتى عادَتْ يدي لصفعِ مؤخرَتِها , وقلْتُ وأنا أجاهد الضحكَ :

- " لو كنْتُ مكانكِ لكففْتُ عن العبارات الساخرة , وانتبهْتُ إلى ما تسبّب في عقابي وندمْتُ عليه ! "

كان هذا فوقَ طاقتِها على التحمّل , فأرتْني _عمليًّا _ الفرقَ بين ما تملكه وما أتظاهر أنا بامتلاكه , وقالتْ بصوتٍ هادئ ولكنّه يخفي خلفَه جبالاً من ثقةٍ :

- " سأنهض الآن وستنزعين عنكِ ملابسكِ وتستلقين على السرير بانتظار ما سأفعله بكِ .. هل هذا واضحٌ ؟ "

كانتْ لا تزال مستلقيةً على رجليّ عاريةً وأنا أرتدي ثيابي كاملةً , ومؤخرتُها الحسناءُ تقابل يدي , كيف يمكن لها أن تمتلك كلَّ هذه القوة في مثلِ هذا الموضع ؟ ...

قلْتُ والذعرُ يبدو في صوتي :

- " أنا آسفةٌ .. أنا حقًّأ آسفة ... أرجوكِ لا تغضبي عليّ "

- " أنا لا أغضبُ عليكِ أبداً .. ولكني أعتقد أن الاندماج في الدورِ قد أنساكِ الأساسيَّاتِ , وسأذكركِ بها لا أكثرَ "

أكملَتْ نهوضَها , ووقفَتْ أمامي وأنا أكاد أرتجفُ خوفاً , فوضعَتْ يدَها على كتفي لتطمئنني , وقالتْ في هدوءٍ :

- " إن كنْتِ ستسمرين في هذا الذعر فإنني لن أعاقبكِ اليومَ , الفكرةُ ليستْ في إثباتِ أني المسيطرة . فهذا لا يحتاج إلى إثباتٍ .. الفكرة أن تسلّمي نفسكِ لي وتطمئني إلى أنه مهما كان ما أصنعه بكِ فأنا أحرصُ عليكِ من نفسكِ ... هل هذا واضحٌ ؟ "

ذهبَ عني الخوفُ بذلك المعنى , وحلّ مكانَه خوفٌ آخرُ , وشتّان بين هذا وذاك , وعندما رأتْ ذلك في عينيّ قالتْ :

- " الآن كما أمرْتُكِ ... عاريةً على السرير! "

- " هل لي أن أُبْقِيَ الطوقَ رجاءً ؟ "

ابتسَمَتْ , وأمرَّتْ يدَها عليه :

- " أنا لا أعتقد أن عليكِ نزعَه إلا في الضرورة القصوى ؛ إذا كان أمرَ حياةٍ أو موتٍ .. فيما عدا ذلك فأنت ترتدينه دائماً . "

- " شكراً ! ... لأنني لا أريد نَزْعَه أبداً "

وهنا كانَتِ القبلةُ الأولى بيننا , وأردْتُها أن تستمر إلى الأبد ...

ولكنِّي تذكَّرْتُ ما أمرتْني به فقمْتُ وابتعدْتُ عنها ونزعْتُ ملابسي وأنا أنظر إلى ملامح وجهها مسرورةً بما أفعله ثم استلقيتُ على السرير , ودفَنْتُ وجهي فيه ...

سمعْتُ صوتَ خطواتِها في الغرفة , ثم صوتُ دولابُ الملابس ينفتح , ثم صوتُها وهي تخطو إلى جواري ...

وقالتْ في هدوءٍ :

- " فيما بعدُ سأحدِّدُ _ في الأغلبِ _ عدداً محدَّداً من الضرباتِ وأطالبكِ بالتزام مكانكِ وإلا زدْتُ فيها ... أما اليومَ فأعتقد أنَّ من الأنسب ألا أخبركِ مسبقاً بأي شيءٍ , هل تريدين كلمة أمانٍ ؟ "

- " لا ! "

- " حسناً ! هذه إجابة خاطئة , ولكني مسرورةٌ بتفانيكِ . كلمة الأمان : ستكون أيّ شيءٍ تقولينه بالعربية , ما دام كلامكِ بالإنجليزية فسأستمر في عقابكِ . هل هذا واضح ؟ "

- " نعم ! "

- " حسناً , سنبدأ الآن ! "

سمعْتُ صوتَ الضربة أولاً ثم أحسَسْتُ بها ... لم يكنْ هذا الألم قابلاً للتحمل .... ولكنّ فكرةَ أنه ناشئٌ عنها هي بالذاتِ .. قد جعلني أدفن صرختي في السرير وأبقى مكاني ..

ثم أتَتِ الضربةُ الثانيةُ ... أنا لا أعتقد أن هذا حزامٌ كما ظنَنْتُ في البداية .. هذا يبدو شيئاً معدًّا خصيصاً _لا عرضاً _ لإحداث الألم ... ثم لحِقَتِ الضربةُ الثالثةُ بأختيها فشعرْتُ بدموعي على وشكِ التساقطِ ... كم تنوي أن تستمرَّ في هذا ؟ ... الرابعةُ .. الآن بدأتِ الدموع بالسقوط .. الخامسة .. لم أستطع البقاءَ في مكاني فتقلبْتُ إلى جانبي لأفاجأ بيدها على ظهري وهي تعيدني إلى انكفائي على بطني وتثبتني في مكاني , ثم تهوي يدُها الأخرى التي تحمل ما تأكّد لي أنه ليس حزاماً _عندما رأيْتُه في تلك الثانية التي تقلَّبْتُ فيها _ بالضربات السادسة والسابعة والثامنة متلاحقاتٍ متتالياتٍ .. فشهقْتُ من الألم وانهمرَتِ الدموعُ وبدأتُ في التوسُّلِ أن تتوقفَ ... ربَّما ستتوقف بعد العاشرةِ .. ولكن هل أستطيع أن أتحمل ضربتين أخريين ؟ ... التاسعة ...

- " أرجوووكِ ! "

هل كانتْ هذه عربيةً أم إنجليزيةً فإنني لم أنتبه من الألم ؟ ولكن الإجابة جاءتْني في أقل من ثانية عندما هوَتِ الضربةُ العاشرةُ بقوةٍ جعلت التسع الأولى تبدو وكأنها عبثٌ ... لا أعتقد أن بإمكاني أن أتحملَ المزيدَ ... حرفيًّا لن أتحملَ المزيدَ ... وجاءني صوتُها :

- " لا يبدو أنكِ قادرةٌ على تحمّل المزيدِ , ربما في المستقبل تزيد قدرتكِ على تحمل الألم .. ولكن حالياً أعتقد أننا بلغنا الحدّ الأقصى ... هل أنتِ نادمةً على ما فعلْتِه ؟ "

من وسْطِ الدموع والشهقاتِ الناتجة عن الدموعِ أجبْتُ , وكان صوتي إجابةً في حدِّ ذاتِه , ورثيْتُ لنفسي ؛ لا يفترض أن يسمعني أحدٌ وأنا أتحدث بمثل هذا الصوتِ ... لا أحدَ غيرها ؛ هي من يحق لها أن تشاركني في رؤيتي وأنا بهذا الضعف ... بهذه الحساسية ...

وشعرْتُ بها تقتربُ مني وتجلس على حافّة السرير ثم يقتربُ فمُها من أذني :

- " هل كنْتُ قاسيةً عليكِ ؟ "

كان في صوتِها خوفٌ حقيقيّ ؛ أردْتُ أن ألومَها على ذلك الخوفِ ولكني تفهَّمْتُ الدافعَ وراءه ... ووجدتني أرتفع من استلقائي وأتكئ على ركبتيّ لأصير في مستواها وأعانقُها والدموعُ لا تزال تسيل من عينيّ :

- " افعلي بي ما يحلو لكِ , إن القسوةَ تبدأ من حيث تنتهين , فلا يلتقيان ! "

- " هل فكَّرْتِ في هذا للتوّ ؟ "

ضحكْتُ من وسطِ دموعي , وقلْتُ لها :

- " في الواقع لقد كان ذلك القولُ بالذاتِ مما فكَّرْتُ فيه أثناء قصة تبادل الطلابِ تلكَ وأنا في السادسة عشرة ! "

ضحكَتْ في استغرابٍ , وقالتْ :

- " هل صنعْتُ بكِ _ وأنا مدرِّسةٌ _ شيئاً يستدعي مثل ذلك القول ؟ "

- " في الواقع لقد جعلْتُكِ في تلك القصة تبدئين عقابي بيدكِ ثم بفرشاةِ شعرٍ ثم بحزامٍ ثم بعصا خيزرانٍ , واستمرّ العقاب قريباً من ساعةٍ , ولكني أعتقد أني كنْتُ أبالغ في مقدرتي على التحمل جسدياً في تلك القصة ! "

- " مبالغةً عنيفةً إن جاز لي القولُ "

كانتْ دموعي قد توقفَتْ وعاد صوتي _ جزئياً _ إلى طبيعتِه , ولكني لا زلْتُ أعانقُها , فابتعدْتُ قليلاً حتى أرى وجهها , وقلْتُ :

- " لا أعتقد أن المبالغة كانتْ مني , ولكنّكِ استعملْتِ هذا الشيء عليّ بقوة هِرَقْل "

ثم نظرْتُ إلى يدِها فوجدْتُ حزاماً نسائيًّا بريءَ المنظر , ما الذي جعلني أعتقد أنه شيءٌ آخر إذن ؟

ابتسمَتْ وقالتْ لي :

- " ربما في الضربة الأخيرة , ولكني كنْتُ رقيقةً للغاية في التسع الأولى ! "

كان معها حقٌّ , هذه الضربة الأخيرة _ما لم تكنْ صاعقةً من السماء _ فإنها تشي بتفاهة التسع الأولى , وإن لم أشعر أنا بتلك التفاهةِ آنذاك !

فقلْتُ في تسليمٍ :

- " حسناً , أعتقد أنني أنا مَنْ كان يبالغ مبالغة شديدة في تلك القصة ! "

- " هل تريدين أن نطبِّق تلك القصةَ بحذافيرها ؟ "

نظرْتُ إليها في رعبٍ , ففطِنَتْ إلى ما فهِمْتُه , وقالتْ :

- " لا أعني الجزء الخاص بالعقابِ , بل ما انتهَتْ إليه تلك الليلة ! "

تذكَّرْتُ مخادعتَها لي في القبلة , فسألْتُ في حذرٍ :

- " ولكنكِ أنتِ من سيلعبُ دَوْرَ نَفْسِكِ وليس يدي . أليس كذلك ؟ "

ضحكّتْ بصوتٍ مرتفعٍ , وقالتْ :

- " أعترفُ أني كنْتُ أنوي خداعَكِ وقولَ ذلكِ , ولكنّكِ فطِنةٌ ... هذا جيدٌ ؟ "

- " هل هذه إجابة بالقبول أم بالرفض ؟ "

- " أعتقد أنه من الظلمِ لي أن أشاهدَ يدكِ تقوم بما أتمنى أنا القيامَ به ؛ أعتقد أن هذا عقابٌ لي وليس عقاباً لكِ ... وما الذي أسَّسْناه قبل قليلٍ عن فكرةِ حدوثِ العقابِ لي ؟ "

- " أنها فكرةٌ خرافيةٌ لا يؤمن بها إلا المُهَرْطِقُونَ الذين يسْتحِقُّونَ العقوبةَ العظمى ! "

- " فتاةٌ مطيعةٌ ! والآن سأريكِ _بتجربةٍ عمليةٍ _ الفارق الهائل بين ما أُحْسِنُه أنا وبين ما حاولتْ يدُكِ تمثيلَه ؛  سأظهر لك الفارق بين التمثيل والحقيقة ! "

وعندما طلعَتِ الشمسُ كانتْ ( جايمي جولدمان ) قد أثبتَتْ بما لا يدع مجالاً للشكِّ أن هناكَ بَوْناً شاسعاً  بين التمثيل والحقيقةِ ؛ عندما تصورْتُ تلك القصةَ وأنا في السادسة عشرة .. كنْتُ قد بدأت في تخيّل أحداثها في العاشرة مساءً وخلدْتُ إلى النوم بعد الفراغ منها في الحادية عشرة مساءً .... في النسخة الواقعية بدأتُ أنا و ( جايمي ) في الجانب العاطفي فقط من تلك القصة في الحادية عشرة ولم أنم إلا بعد طلوع الشمس ... وأعتقد أنه في ذلك الوقتِ كان كل نزلاء الفندق قد أدركوا _سمعاً إن لم يكن رؤيةً_ وقوعَ الكثير من الأفعال الفاضحة في غرفتِنا ...

نعم !
 لقد نسبْتُ الغرفةَ لكلينا , وليس لـ(جايمي) فقط !
ولكنَّ هذا هو ما تصنعه عندما تزيِّن الحروفُ الأولى لشخصٍ ما طوقاً يحيط بعنقكَ ..
إنك تعتبر نفسَك ونفسَه هَيُوْلَى واحدةً والجسمانِ صورتُها ! 

______________________________