الجمعة، 8 يوليو 2016

قصة : ثلاث دقائق ( م / ف )



قصة : ثلاث دقائق ( م / ف )
- بضعة تنويهات :
تنويه 1 : هذه القصة تعمد في كثير من أجزائها إلى استخدام لغة قد تعد مرتفعة قليلاً عن عربية الجرائد والصحف , فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك , فقد  نوهنا به .
تنويه 2 : تصوِّرُ القصة في معظمها علاقةً ذات طابع جنسي بين شاب وفتاة  , فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك , فقد  نوهنا به .
تنويه 3 : مما تشمله تلك العلاقة ذات الطابع الجنسي ما يعرف بالإنجليزية / بالإنكليزية بـ
فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .
تنويه 4 : هذا العمل ضرب من الخيال لم يقع ولا أجزاؤه ,  ولا قَصَدَ إلى تصوير ما وقع بكليته أو بجزء منه , وشخصياته ليست محاكاة لشخصيات واقعية وأي تشابه بينها وبين أي شخصية واقعية حية أو ميتة علمنا بها أو لم نعلم محض صدفة , وأي حثٍّ على فعل أو على الامتناع عن فعل بناءً على ما في القصة مما تُوُهِّم أنه مغزى فهو غيرُ مقصود من المؤلف , وليس حثاً على الحقيقة , ومتى وقع الفعل الذي تُوُهِّم أنه حُثَّ عليه فالفعلُ مسؤولية / مسئولية فاعله , ولا يُسْألُ المؤلف عن ذلك .
فإن كان أيٌّ من هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .

- القصة :

(1)

صباح اليوم السابع من شهر يونيو عام 2012 م

- " بسسست ! "
- " مه ؟ "
- " جواب أربعة , باء ؟ "
نظر ( وليد ) في ورقة أسئلته إلى الفقرة باء من السؤال الرابع , ثم ابتسم , وقال هامساً :
- " لا أعرفه   "
رمقته ( هدى ) في غضب مبرر ؛ كل من لم يذاكر هذا المنهج مثل ( هدى ) _التي قضت ليلة الامتحان تتابع أخبار انفصال ممثل مشهور عن زوجته عارضة الأزياء _ لا يمكن أن يتوقع أن إجابة سؤال ما يمكن أن تكون " لا أعرفه  " , ولكنها كانت تعرف ( وليداً ), وتعلم أنه لا يهوى المزاح , على الأقل ليس في مثل هذا الموقف , فكررت النظر إلى السؤال ( ب- ما قول أبي زياد الكلابي في كلمة " النَّطْع " ) بدا لـ ( هدى ) أن أبا زياد هذا ربما كان فعلاً لا يعرف الكلمة , على أية حال كان الوقت قد شارف على الانتهاء فكتبت في الإجابة " لا أعرفه " , وحاولت أن تجيب على سؤال آخر , ولكن المراقبة كانت إحدى الدكتورات التي تكره ( هدى ) كراهية شخصية , أو هكذا بدا لـ(هدى) على أية حال , فأصرت المراقبة على أن تقضي الدقائق المتبقية بجوارها قاضيةً على أية أمل لها في أن تسأل ( وليداً ) أو غيره عن إجابات أخرى , فلما رسخ عندها أن لا سبيل لطلب " العون الخارجي " , قررتْ أن تنظر في الأسئلة المتبقية لعلها تتذكر إجابة ما , وعندما بدا عقمُ هذه المحاولة أيضاً سلمَتْ ورقة إجابتها وخرجتْ من اللجنة , وهي تحسب احتمالات نجاحها ورسوبها في هذه المادة .. وبدأت تتذكر _في قلق_ وعدَ أبيها الغامض لها إن تكرر رسوبها في أكثر من مادة هذا الفصل أيضاً , وفكرت ( هدى ) أن أباها رجل متزن إلى حد ما ؛ هو لم يطلب درجات مرتفعة , بل لم يعترض حتى على أن ترسب في مادة واحدة , مشكلته _ كما يظهر _ كانت في أن ترسب في أكثر من مادة , هذا يعني أنها لم تزلّ زلة واحدة بل أظهرت قدراً من الاستهتار تجاوز موقفاً واحداً واستمر في التعامل المستهتر مع الامتحانات ما جعلها تكرر الرسوب في مادة أخرى ... وأعادت ( هدى ) النظر في موقفها الحالي , هذه هي آخر مادة من مواد هذا الفصل , وهي تكاد تجزم أنها حققت درجة النجاح في ثماني مواد من عشرة , المشكلة في المادتين المتبقيتين , أو للدقة : المشكلة في مادة اليوم التي أنهتها لتوها , إذ المادة الأخرى لا شك في أنها قد رسبت فيها  إذ لم تجب حتى على ما يكفي لمنحها درجة النجاح , إلا إذا قرر المصحح أن يزيد درجات من عنده , أو أن يصحح دون الرجوع للورقة كما يشيع البعض أنه يفعل , أما مادة اليوم فلا يبدو لها موقفٌ جليٌّ منها .. لعل وعسى .. وقطع حبل أفكارها خروج ( وليد ) , وهو ينشغل بمراجعة بعض الإجابات مع بقية زملائه " المتفوقين " , كانت ( هدى ) تكره هذا المشهد بالذات ؛ لأنه يعيد لها ذكريات تحاول نسيانها ؛ لقد كانت هي الأخرى من جماعة " المتفوقين " هذه , بل كانت على رأس هذه الجماعة للدقة ,  ولكنها لا تدري ما الذي حدث , فجأة لم تعد المذاكرة بهذه الأهمية , وصارت الامتحانات عبئاً ثقيلاً , ثم لأول مرة في حياتها رسبت في مادة ما , ولا تنسى مشهدها وقد فقدت كل ما تظاهرت به من اتزان بين أصحابها , وبمجرد إغلاقها باب البيت ورؤيتها أباها انهمرت الدموع من عينيها , وهو يواسيها ويخبرها أنها لا بد ( عينٌ وأصابتها ) ... كان ذلك قبل سنة ونصف , ثم كف الأب عن المواساة , وبدأ ينتقل إلى اللوم , ثم بدأ اللوم يستحيل صراخاً , وفي الفصل الماضي رسبت في مادتين لأول مرة , وكان وعيد الأب :
- " أنا يا ابنتي لم أعتَدْ أن أتعامل مع راسبين , لقد كنْتِ دائماً أنت وشقيقاك طلبة ممتازين  وأولاداً مطيعين , ولم أزِدْ في يوم على أن صرخت فيكم , وكنت أشعر بالندم بعدها مباشرة , وأقول في نفسي : غيرك يعاني الأمرّين في تربية أبنائه , وأنت تغضب لهذا الأمر التافه أو ذاك . كان ذلك الحال طيلة العشرين سنة التي تعاملت فيها معكِ ومع أخويكِ الصغيرين , ولكن الحالَ اختلف الآن , وعلى الرغم من أنني لا أطيق أن أزيد في تأنيبك على الكلام _ خاصةً وأنت في هذا السن _ , ولكني أعلم ما سأفعله إن تكرر منك الرسوب في مادتين أو أكثر في فصل واحد ؛ أعتقد أنني في هذا عادلٌ ؛ فقد حذرتك من الآن , ولم أطلب منك الكثير , بل أعتقد أن ما أطلبه دون الحد الأدنى حتى ! "
كان هذا ما قاله أبوها قبل شهور , والآن لا تعرف إن كان وعيده سيُكْتَبُ له التحققُ أم لا ..

********


( 2 )

صباح اليوم السابع من شهر يوليو عام 2012 م

وقد نجتْ مرة أخرى ؛ إذ جاءت النتيجة على غير توقع ( هدى ) على الإطلاق , لم تنجح في تسع مواد بل في عشر _ يبدو أن شائعة التصحيح  الاعتباطي هذه لم تكن شائعة على الإطلاق _ وجاءها أبوها فقال لها :
- " أنا فخور بك يا ( هدى ) , دعنا نكن واضحين ؛ لطالما رجوت أن تكون درجاتك الدرجات العليا , وآخر مادة هذه بالذات قد نجحت بها بالحد الأدنى للنجاح , ولكن أيْنَ مِنْ أين ؟! لقد كنت أتوقع الأسوأ وأتصور أنك سترسبين في مادة على الأقل .. فلننظر إلى الجانب الممتلئ من الكوب , كما يقال  "
وجدت ( هدى ) نفسها تعانق والدها , وتشكر له لطفه , وقبَّل جبينها , وتمنى لها التوفيق . ثم بدأتْ في التفكير فيما قال ؛ آخر مادة هي المادة التي حصل فيها نصف الفرقة على درجات رسوب , كان دكتور المادة ( أدهم )  رجلاً بغيضاً ثقيل الظل مولعاً بتعذيب الطلاب , كما يصفه طلابه , وعندما فوجئ الطلبة بسؤال " لا أعرفه " هذا , ثارت ثائرتهم , وذهبوا إلى مكتبه , وأسمعوه ما لو أسمعه صاحبٌ لصاحبه لاستاء , فكيف بجناب المعظم الدكتور " أدهم " , فقرر " أدهم " في التو واللحظة : لا أن يلغي السؤال كما طلب الطلاب , بل أن يعيد توزيع الدرجات ويجعل عليه ثلاثة أضعاف درجته السابقة ... من الذي أجاب على هذا السؤال من كل الفرقة ؟ طالبان فقط ؛ أو للدقة طالب وطالبة .
 وجدَتْ ( هدى ) نفسها تفتح حاسبها المحمول , ثم تذهب إلى صفحتها على موقع الفيس بوك , وتكتب رسالة لم تكن تتصور يوماً أن تكتبها  لـ ( وليد ) , ثم ترددتْ لفترة قبل أن ترسلها , ولكنها قررت أنها قد ترددت في حياتها بما يكفي , كان لـ ( هدى ) أسبابٌ منطقية تحثها على محو الرسالة بالكلية وعدم إرسالها , ولكن كان لها أيضاً أسبابٌ أخرى أقوى بكثير تدفعها دفعاً  لتنقر زر الإرسال .... وقد كان 

*****

( 3 )

مساء اليوم السابع من شهر يوليو عام 2012 م

غمرت ( وليد ) التهاني من والديه وأقربائه وأصحابه بحصوله على المركز الأول بين طلبة دفعته للعام الثالث على التوالي أو للفصل السادس على التوالي  للدقة , وكان ما يتبادر إلى ذهن وليد في كل مرة يحصل فيها على المركز الأول هو فكرة واحدة كانت في أول سنة تشغل عليه فكرَه أما الآن فيبدو أن حِدَّتَها قد خفَّتْ كثيراً , وهي : هل أستطيع _إذا وصلْتُ ليلي بنهاري في المذاكرة_ أن أتفوق على هذه الفتاة العبقرية التي يثني الجميع على فرط ذكائها والمسماة ( هدى )  ؟
 في الواقع _ خلافاً لـ ( هدى ) _ فإن ( وليدًا ) لم يكن طالباً متميزاً في دراسته قبل الجامعية , لقد كان ذكياً كما يصفه مدرسوه , ولكنه مهمل , فلما رأى ( هدى ) في أول يوم جامعي , جعل نصب عينيه هدفاً معيناً , سيقضي ليله ونهاره في المذاكرة حتى يستطيع أن يقترب _على الأقل_ من مستوى هذه الفتاة التي يقول كل معارفها أنها أذكى طالبة في الكلية , وأنه لا أمل لزملائها في الفرقة أن تزيد درجاتهم على درجاتها . ثم تخلَّتْ ( هدى ) عن عادتها واستبدلت بها طريقة ( وليد ) في الاستهتار , وتخلى ( وليد ) عن عادته واستبدل بها طريقة ( هدى ) في الاجتهاد . ولكن هذا الانقلاب لم يحدث فجأة بل تدريجياً , ففي الفصل الأول كان الفارق بين درجات (وليد) _ الأول على الفرقة _ و ( هدى ) _ الثانية على الفرقة _ هو نصف درجة فقط .  يومها ملأت ( هدى ) الدنيا صراخاً , وطالبت بإعادة تصحيح ورقات إجاباتها , وليس هذا فحسب , بل إعادة تصحيح ورقات إجابة ( وليد ) كذلك , وحرصاً على مكانة الكلية , فقد احتوي الموضوع , وتعهدت ( هدى ) _ في حضرة ( وليد ) , وكل من أبيها وأبيه , وأساتذة الجامعة _ أن تعترف بسلامة عملية تصحيح الإجابات , وتسلم بحصولها على المركز الثاني , كان هذا الاعتراف في حد ذاته ألذَّ عند ( وليد ) من الدرجات والتقدير نفسه .

لذلك عندما فتح ( وليد ) صفحته على موقع الفيس بوك , ونظر إلى الأيقونة المشيرة إلى وجود رسائل جديدة لم يكن يخيل إليه أن تكون من ضمن هذه الرسائل هذه الرسالة مفرطة الطول التي كتبتها ( هدى ) , والتي قرأها ( وليد ) مرات ومرات , حتى أوشك أن يحفظها من فرط تكراره قراءتَها  : -
(( وليد !
قبل سنتين ونصف , جمعتني وإياك ووالدَيْنا حجرةٌ واحدة , لأعترِفَ على مرأى ومسمع الناس أني مسلِّمةٌ بتفوقك عليّ , وقد فعلْتُ .. وفي سياقٍ مختلفٍ تماماً , وبعد ذلك بسنتين , وَعَدَنِي أبي  إذا رسبْتُ في مادتَيْن أو أكثر _ لا شك أن وقوعَ مثلِ هذا الأمر يبدو خيالاً علمياً بالنسبة لك _ أن يعاقبني عقاباً لم يسمِّه .. ما الجامع بين هاتين الحادثتين ؟ ظاهرياً يجمع بينهما أنني كنت في قمة الاستياء بسبب تفوقك عليّ في الأولى , وبسبب تفريطي وإهمالي في الثانية , ولكن  الواقع أكثر تعقيداً من ذلك ؛ الواقع أن هناك قصةً _ أملاها عليّ وعيي الباطن رغمًا عن إرادتي _ تربطُ هاتين الحادثتين ربطاً لا يفتأ وعيي الباطن يكرره عليّ ليل نهار , وهذه القصة الحلم هي كالآتي :
أنا وأنت واقفان في حجرة ليس فيها أحد غيري وغيرك , وفجأة أسمع صوت والدي قادماً من الأثير كأنه شبح :
- " هل أنت مستعدة لتلقي عقابكِ يا ( هدى ) "
أتوجه ببصري إليكَ في ذعر  , ولكن يبدو أنك غافلٌ بالكلية عن وجودي وعن صوت والدي معاً , وتبدأ في التحديق في باب الغرفة
وكأنه ليس في الغرفة غيرك وأنك تنتظر دخول أحدٍ ما عليك .. ينفتح باب الغرفة ويخطو والدي إلى الداخل وهو ممسكٌ في يديه فرشاة شعر , ويبدو عليه الحرج  وهو يسلمك الفرشاة , ويقول وكأنه يحمل نفسه حملاً على الكلام :
- " (وليد) ! أنت تعرف أن ( هدى )  قد رسبَتْ في مادتين هذا الفصل أيضاً , وكنت قد نويت في نفسي إن حدث ذلك أن أعاقبها عقاباً جسدياً هذه المرة , ولكنني ... على أية حال لقد تحدثنا عن تفاصيل ما يوشك أن يقع الآن , فلا داعي لتكراره , ولكني سأوصيك مرة أخرى ؛ مهما كان حرج هذا الموقف عليك فلا تتوقف ! "
وبمجرد إتمام والدي لهذه الكلمات يخرج من الغرفة مسرعاً , ولا تمضي إلا برهة  حتى أرى (نفسي) تجرجر قدميها , وهي تطرق باب الغرفة الموارب , وكأنها تعلمكَ بمجيئها أكثر من كونها تستأذنكَ لتدخل , ثم تتقدم نحوك في ثقل ,  وترفع أنت عينيك نحوها في صرامة تحاول اصطناعها , ولكن ما تعانيه من حرج يظهر جلياً من تحتها , ويبدو أن (نفسي) قد لاحظت هذا الحرج كذلك , فتجرأتْ قليلاً , وبادرتْكَ :
- " أنا أعرف ما قال والدي إن عليك فعله , ولكن رجاءً لا داعي لذلك , لا معنى لكل هذا , لا يمكن أن يكون جِدًّا أنك ستسخدم هذا الشيء " وتشير (نفسي) إلى فرشاة الشعر " على ... على جسدي ! "
وترد أنت وقد رجع إليك بعضُ عزيمتك :
- " وفقاً لما اتفقتُ عليه أنا ووالدكِ , فليس عموم جسدك هو ما ستُسْتَخْدَم هذه الفرشاة لإيجاعه , بل مكان محدد من جسدك , مكان لا تسميه الفتيات حياءً إذا كنّ في حضرة الرجال , ولكنك اليوم ستسلبين حقك في هذا الحياء ولن يقتصر الأمر على أن تُسَمَّى مؤخرتك باسمها , بل سيزال عنها ما يسترها وتنهال عليها الضربات , حتى إذا ما جلستِ عليها في المستقبل وأنت لاهيةٌ عن مذاكرتك , ناشدَتْكِ ألا تتسببي في ألمها واحمرارها , وألحتْ عليكِ بأن تذاكري دروسك "
أراقب في اندهاش كلامَكَ , ولا يخفى عليّ ما تقوم به ( نفسي ) من فزع مصطنع ...لا أعرف إن كنْتَ أنتَ أيضاً قادراً على تبيّنِ توقِ ( نفسي ) إلى أن تنفذ وعيدَك , واللهفة التي تحاول ( نفسي ) إخفاءها وتخفق في ذلك إخفاقاً ذريعاً .. ويبدو أنك قد فطنْتَ لذلكَ لأنك قلت في صرامة :
- " تذكري يا ( هدى ) أن هذا عقاب , وأنه يُفْترَضُ أن يتجنَّبَ , لا أن تَقْضِي الليالي وأنت تتمنين أن يحلَّ بكِ "
ويحمرُّ وجْهُ ( نفسي ) خجلاً , وتقبض بأسنانها على شفتها السفلى ,  فتضيف أنت :
- " إذا كانتْ معاقبتُكِ هذه ستدفعك إلى تكرار ما تسبَّبَ في عقابكِ , فإن هناك حلاً بسيطاً لهذه المعضلة ؛ إن رسبتِ في أي مادةٍ في الفصل القادم , فـ " لن تعاقبي " , بما أن هذا مطلبٌ لكِ على ما يبدو , وأن حرمانكِ منه عقابٌ أنجع من إيقاعه "
ولا ترد ( نفسي ) بشيءٍ , ولكنها تنقل وزنها من قدم لأخرى , وتفرك أصابع يمناها بيسراها , ويزداد تنفسها صعوبة , فتضيف أنت :
- " هل هذا هو سببُ كلِّ هذا ؟! أنك تَرْجِينَ أن تؤدي سوءُ درجاتكِ إلى أن يعاقبكِ أحدُهم ؟! هل تخلَّيتِ طوعاً عن مستواك الدراسي المتميز وانحدر أداؤك لا لشيءٍ إلا أنكِ تتمنين _ ولو لم تكنْ هذه الأمنية قائمةً على أساس_ أن ينتهي ذلك بكِ وأنت واقفةٌ في زاوية غرفتك قد قابلَ أنفُكِ ركنَها , واشتبكت يداك خلف رأسك , وتصدى ردفاك للقاء عينَيْ مَنْ ينظرُ , وقد احمرّا خجلاً إذ لم يعتادا أن يكونا أول ما يقابل العيونَ منكِ , أهذا ما دفعكِ طلبُه إلى أن سرتِ في هذا الطريقِ ؟! "
وأمعنُ النظرَ في ملامح وجه ( نفسي ) فيتبين لي شيءٌ طالما كبتُّه ودفنته في أعماقي ثم لم أكتفِ بذلك حتى ارتحلْتُ إلى أعماقي فأعدْتُ دفنه في أعماق أعماقي , والآن قد نَفَضَ عن نفسه الترابَ وأتيحتْ له الفرصةُ أن يتكلم , فتكلَّمَ  :
- " ليس ذنبي أنني أتوق إلى هذا وتشمئز منه نفوس آخرين , لو كنْتُ أطيقُ مقاومتَه لقاومْتُه , ليس من حقكَ أن ... "
وتخنق العَبْرَةُ ( نفسي ) فتتوقف عن الكلام , وتهرع أنت فتحتضنها بين ذراعيك , وتقول :
- " بل ما قلتُه عكسَ ما ذهبْتِ إليه ؛ إني إنما لمْتُكِ لأنكِ لم تأتي البيت من بابه , أتريدين أن يُفْعلَ بكِ هذا الفعلُ أو ذاك ؟ هذا حقكِ , ولا يزري بكِ طلبُ حقكِ بل يزري بمَنْ أراد أن يسلبَكِ إياه , ولكن لماذا تربطين بين تلبية رغباتك وبين الإهمال في حياتِكِ العملية؟ "
وتقول ( نفسي ) :
- " لأنه لا أحدَ يفهم أو يتفهّم . مع مَنْ يُفْتَرضُ أن أطمح لإشباع هذه الرغبة أو تلك ؟ إن الجائع لا يتخير طعامه , وإذ لم يكن من سبيل إلى أن يطولَنِي عقابٌ أتوق إليه إلا بالتعرض لأسبابٍ توجِبُه عندَ من لا يرى فيه ما أرى فيه من المتعة , فلعلي _لا إرادياً _ قد ربطت بين ما أتمناه وبين الإهمال الجسيم "
وأكاد أؤمِّنُ على قول ( نفسي ) , لولا أن النظرة التي تَرْمُقُها بها قد نهَتْتني عن ذلك كما نهَتْها عن الاستمرار في كلامها . ثم تقول :
- " في يومٍ من الأيام ستجدين شخصاً يعرف ما تريدينه ويلبيه , فلا تعود تحْوِجُكِ تلبيةُ رغباتكِ إلى الإهمال الجسيم , ثقي بذلك "

وينتهي عند هذا الحد هذا الحلم أو القصة , ولا أعرف لماذا كتبْتُ هذا الكلام لكَ , ولا لماذا سأرسله لك _ إن كنت سأرسله _ , ولعلي سأمحوه كله ولا أرسله , وأكتفي بتهنئة بسيطة , وشكرٍ على إجابة " لا أعرفه " تلك , تلك الإجابة التي قد تكون _هي والتصحيح العشوائي _ وراء حماية مؤخرتي من ألمٍ لشد ما أتوق إليه , فإذا كان هذا هكذا , فربما أنت جدير باللوم لا الشكر ؛ من يدري ؟ على أية حالٍ إن أرسلْتُ لك هذه الرسالة الآن , فعلى الأغلب أنني سأندم على هذا لاحقاً , لهذا رجاءً إذا لم أستطع أنا ضبطَ (نفسي) ومنعَها من إرسال هذه الرسالة , فلتقم أنت بعملية الرقابة هذه ولتمحُها بعد أن تقرأها ولتنسَ كل ما جاء فيها . ))

ظل ( وليد ) محملقاً في الشاشة بعد أن أتم قراءة الرسالة لِمَا بدا وكأنه المرة الألف , ولأول مرة بدأ يفكر جدياً في سبب ولعه طيلة هذه السنين الثلاث بالتفوق على ( هدى ) ؛ إن المنافسة الأكاديمية سلوكٌ شائعٌ لا يحتاج إلى كثير بحث , ولكن هل كان هذا وحده هو السبب في تَوْقِهِ للتفوق عليها ؟ لماذا سأل صاحبه _ وهو لا يعرف بعدُ أن هذه طالبة متفوقة , بل لا يعرف حتى اسمها _ عن هذه الفتاة وعن اسمها وعن " قصتها " ؟ وقتها ضحك منه صاحبه , وظل يتحدث عابثاً عن الحب من أول نظرة , ولكن ( وليد ) بعد أن تمثل أمامه هدف التفوق والمذاكرة هذا نسي كل ذلك . وشيئاً فشيئاً بدأت فكرة ما في التسلط على عقل ( وليد ) , ولم تنته هذه الليلة إلا وقد وضع أولى خطواتها موضع التنفيذ .  

*******

( 4 )

مساء اليوم السابع من شهر يوليو عام 2016 م

وضع ( وليد ) إحدى قدميه على الأخرى , وهو يتفكر مستمتعاً في المناسبة التي يوافقها هذا اليوم ... في مثل هذا اليوم قبل أربع سنوات , كان ( وليد ) قد عزم على الزواج بـ ( هدى ) بعد أن قرأ رسالتها إليه ,  ولم يكن يعرف بالضبط كيف ينبغي عليه أنه يترجم هذه العزيمة إلى واقع , لكنه ابتدأ بمفاتحة أبيه الذي سره أن ابنه يرغب في الزواج , لكنه أبدى اعتراضاً على ( هدى ) بالذات ؛ إذ ارتبطت في ذهن الأب بذكريات سلبية , ولكن مع إصرار ( وليد ) تقبل الأب ذلك , وفاجأ ابنَه بأن أعلن أن خير البر عاجله , وأنهم يزورون أهل ( هدى ) في الغد ليخطبوها له , وأسقط في يد ( وليد ) فقد كان يرغب في مفاتحة ( هدى ) بدايةً , ولعله يرجئ الخطبة حتى إتمامه دراسته , ولكن أباه _ الذي تزوج في الثامنة عشرة , وكان يعلي التقليدية في الشئون الأسرية _ قد أصر على أنه لا داعي للانتظار , ولْيخطبها ثم يتزوجان إذا أكملا دراستهما , أما مفاتحة البنت قبل أبيها فقد كانت إحدى الكُبَر عند أبي ( وليد ) , ولم يشأ ( وليد ) أن يطلع أباه على رسالة ( البنت ) التي أرسلتْها إليه حتى يعرف أن هذا زمان وذاك زمان , ولكنه أظهر الموافقة على اقتراح أبيه وتسلل خفية إلى حاسبه المحمول وأرسل رسالة واحدة إلى من توشك أن تكون خطيبته : ( صدقي أو لا تصدقي ؛ أنا خاطبك غداً , وأريد أن أؤكد على " عدم " نسياني محتوى رسالتك, فإذا جمعنا مجلسُكم غداً فأريد أن يبدو لي ظاهراً أنك تجدين صعوبة في الجلوس ناتجة عما لا يخفى عليكِ , وإلا ففي أول مناسبة " يُسْمحُ " لي فيها أن أفعل بك ما أشاء , سأضمن ألا تجلسي مرتاحة لأسبوع يتلو ما سأفعله بكِ , فكوني فتاةً مطيعة , وافعلي ما طُلِب منك ) . ولم تكذِّبْ ( هدى ) خبراً ويبدو أنها بالغت قليلاً في عقابها الذاتيّ ذاك , فقد كثر تقلقلها في مجلسها حتى سألتها أم ( وليد) إن كانت على ما يرام , وأجابت _والخجل يكاد يعقد لسانها_ أنها بخير ..

قطع حبلَ أفكارِ ( وليد ) صوتُ زوجته المنبعث من زاوية حجرة معيشتهم وهي تسأل في براءة :
- " ألم تنقضِ الدقائق العشرة بعد ؟"
نظر ( وليد ) إلى الساعة فوجدها محقةً ؛ أنه قد مرت لا عشر دقائق فحسب وإنما ربع ساعة كاملة , ثم نظر مستمتعاً إلى مؤخرة ( هدى )  تشع حمرةً وقد يمَّمَتْها صاحبتُها العريانةُ شطرَ زوجِها المسترخي على الأريكة , فوجد أن دعوى المؤخرة تغلب دعوى الساعة , فقال :
- " قد جعلناها عشرين دقيقة , وماذا علينا ؟ "
- " اتق شر الحليم إذا غضب ! "
شهق ( وليد ) بضحكته , وقد علا حاجباه :
- " وأي شيء يفعله الحليم إذا غضب ؟! "
انقلبت ابتسامة ( وليد ) ذهولاً , وبدا وكأن عنقه قد صارت له حياتُه الخاصة فهو يتمدد إلى الأمام غير مبالٍ بارتباطه تشريحياً بصدر صاحبه , وذلك عندما باعدت ( هدى ) بين رجليها , حتى ظهر ما بين ردفيها , ثم جعلَتْ إصبعيها السبابة والوسطى على أسكتيها وراحتْ بهما وجاءتْ , كل هذا وزوجُها لا يرى وجْهَها الذي لا يزال مدفوناً في زاوية الحجرة , ولأن السينما قد جمَعَتِ الصوتَ إلى الصورة منذ عشرينيات القرن الماضي  ولأن ( هدى ) تميل إلى الحداثة  فقد أَبَتْ إلا أن يكون هذا العرضُ بالصوت والصورة , ولمّا بدا أنه لا سبيلَ إلى بقاء الجدار الرابع قائماً , وأنه لا بد من اندماج الجمهور في عملية الإبداع الفني  قام ( وليد ) من أريكته مهرعاً إليها , فالتفتت تلقاءه ( هدى ) وقالت بصوت معسول :
- " فانتهينا إلى أن قرارَ العشرين دقيقة الأخيرَ هذا قد تم إلغاؤه ؟ "
توقف ( وليد ) فجأة في منتصف المسافة التي تفصل الأريكة عن زاوية حجرة المعيشة , وقد فطن إلى ما صنعَتْهُ زوجتُه اللعوب , ثم واصل سيرَه وهو يقول بصوت مبحوح :
- " تم إيقاف العمل به مؤقتاً لضرورة المرحلة , فإذا ما انتهَتِ الضرورةُ _ وقد يستغرق ذلك ساعاتٍ _ فستتم إعادة تفعيله بصورة كاملة مع تطبيق كافة العقوبات بأثرٍ رجعيّ "
ابتسمتْ ( هدى ) في دلال , ومالتْ على أذن زوجها عندما أدارها ورفعها إليه وأحاطها بذراعيه , وقالت :
- " ساعات , هه ؟ متى زادتْ على ثلاث دقائق فلك عندي ما تشاء "  
حدّق ( وليد ) في ذهول في وجه زوجته التي بدا أنه لا حدَّ يقف عندَه عبثُها  , ولما لم يَجِدْ في وجهها  أيَّ أثرٍ لأسفٍ أو تَرَاجُعٍ , حَلَّ حزامه من بنطاله ولف جزءاً منه حول يده , فلم يرعْهُ إلا وقد أخرجَتْ زوجتُه طرفَ لسانِها فلعقَتْ به شفتَها العليا , وكأنه يَعِدُها طبقاً من حلوى , فقال لها :
- " اتقي شر الحليم إذا غضب ! "
- " أئذا غضب زادتْ الدقائق إلى أربع أم نقصتْ إلى اثنتين ؟ "
ابتسم ( وليد ) في ثقة وقال :
- " بل إذا غضب طبَّق نصيحتَك القديمة  فنَسِيَ ما حَوَتْهُ تلك الرسالة , فإذا تمنيتِ أن يعاقبَكِ نظر إليك باستغراب , وقال : وهل أنت طفلة صغيرة حتى أعاقبك ؟! "
بدأ الذعر يعلو ملامح ( هدى ) وقالت في فزع :
- " أرجوك ! إلا هذا , أنا آسفة ؛ لم يكن ينبغي أن أقول ذلك التعليقَ , رجاءً لا تتوقف عن عقابي ! "
نظر ( وليد ) إلى زوجته وبدا له أنه غلا إلى حد ما , فقال :
- " لقد كنت أمزح , ولكن حتى تعلمي مدى استياءِ الرجالِ من السخريةِ من قدرتِهم في "ذلك الباب" , فلا تسرفي في الهزل حتى لا أسرف فيه "
رمقته ( هدى ) بنظرة ماكرة , ورفعت ثلاثة من أصابعها , وهي تقول :
" هزل ؟! إن كنت في شكٍّ من ذلك , فربما علينا أن نستخدم ساعة إيقاف في المرة القادمة "
****

فلما كان صباح اليوم الثامن من شهر يوليو سنة 2016 م , سألتْ ( هدى )  زميلةٌ لها لماذا تؤدي عملَها واقفة ولا تجلسُ إلى مكتبها , وكان جواب ( هدى ):
- " لقد قرأتُ في مجلةٍ ما أنه ينبغي في كل ساعة تقضينها جالسةً  أن تقومي ثلاث دقائق بإزائها من أجل سلامة ظهرك "
- " ولكنكِ ظللْتِ واقفة لأكثر من ثلاث دقائق بكثير "
- " إنني _طلباً لرضا زوجي_ صِرْتُ أفسِّر الدقائق الثلاثة كما يفسرها هو ؛ أنها تدوم ساعات "
تفكرتْ زميلة ( هدى ) في عبارتها فترة , ثم فَطِنَتْ إلى ما ترمي إليه , فكاتمَتْ ضحكتَها , أما ( هدى ) فقد ذهب بها خيالها إلى تصوُّرِ ردِّ فعلِ ( وليد ) عندما تخبره بهذا الحوار الذي دار بينها وبين زميلتها , ووجدَتْ يَدَهَا _لا إرادياً_ تمتدُّ إلى رِدْفِها _الذي لا يزال يشكو آثارَ ليلة البارحة_ في توجسٍ مُمْتِع ..

****
  

ليست هناك تعليقات: