الثلاثاء، 12 يوليو 2016

قصة : ألفٌ ومئتا سنة ! ( إكس - ف )



قصة : ألفٌ ومئتا سنة ! ( إكس - ف )

- بضعة تنويهات :
 
تنويه 1 : هذه القصة تعمد في كثير من أجزائها إلى استخدام لغة قد تعد مرتفعة قليلاً عن عربية الجرائد والصحف , فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك , فقد  نوهنا به .
 

تنويه 2 : تصوِّرُ القصة في معظمها علاقةً ذات طابع جنسيّ بين أنثيين  , فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك , فقد  نوهنا به .

تنويه 3 : مما تشمله تلك العلاقة ذات الطابع الجنسي ما يعرف بالإنجليزية / بالإنكليزية بـ
فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .

تنويه 4 : تحوي هذه القصة بعض المشاهد العنيفة التي تتضمن : اغتصاباً , وجلدًا تاريخياً , وتلميحاً إلى عملية نحر . وليست مقصودة لذاتها ولكن الرغبة في تصوير أدق _ ولو قليلاً _ لواقع معين قد دفعَتْ إليها .
فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .    

تنويه 5 : هذا العمل ضرب من الخيال لم يقع ولا أجزاؤه ,  ولا قَصَدَ إلى تصوير ما وقع بكليته أو بجزء منه , وشخصياته ليست محاكاة لشخصيات واقعية وأي تشابه بينها وبين أي شخصية واقعية حية أو ميتة علمنا بها أو لم نعلم محض صدفة , وأي حثٍّ على فعل أو على الامتناع عن فعل بناءً على ما في القصة مما تُوُهِّم أنه مغزى فهو غيرُ مقصود من المؤلف , وليس حثاً على الحقيقة , ومتى وقع الفعل الذي تُوُهِّم أنه حُثَّ عليه فالفعل مسؤولية / مسئولية فاعله ولا يسأل المؤلف عن ذلك .
فإن كان أيٌّ من هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .


- القصة :

( ... وكان يَزْعُمُ أنّ الرّجلَ إذا ضُرِبَتْ عُنقُه سقط عَلَى وجهه، فإذا انتفخَ انتفخَ غُرمُولُه وقامَ وعَظُم، فَقَلبَه عند ذلك على القفَا، فإذا جاءت الضّبُعُ لتأكلَه فَرَأتْه على تلك الحال، ورأتْ غُرمُولَه على تلك الهيئة، استَدْخَلَتْه , وقضتْ وطرَها من تلك الجهة، ثم أكلَت الرّجلَ، بَعْدَ أن يقوم ذلك عندها أكثر من سِفاد الذِّيخ.
والذِّيخ: ذَكر الضِّباع العَرقاء.
وذَكَرَ بعضُ الأعراب أنه عاينَها عند ذلك وعند سِفادِ الضَّبُعِ لها، فوجَدَ لها عند تَلْكَ الحالِ حركةً وصياحاً لم يَجِدْهُ عندها في وقت سِفاد الذِّيخ لها.
ولذلك قال أبو إسحاق لإسماعيل بن غَزْوان: أشهد باللّه إنك لَضَبُعٌ، لأن إسماعيل شدّ جاريةً له على سُلّم وَحلَف ليضرَبنَّها مائةَ سَوْطٍ دونَ الإزار - ليلتزِقَ جلدُ السّوط بجلدها، فيكون أوْجَعَ لها - فلما كشفَ عنها _رَطْبةً بَضَّةً خَدْلَةً_ وقَع عليها، فلما قضى حاجَتَه منها وفَرَغَ، ضرَبها مائة سوط، فعند ذلك قال أبو إسحاقَ ما قال. )

من كتاب (( الحيوان ))
للجاحظ (  780 - 869 م )


( 1 )
الزمان : سنة 804 ميلادياً .
المكان : بيت إسماعيل بن غزوان - البصرة .

( فضة )

كان قد مرّ على شرائي بضعةُ أيامٍ  .. ولم أعتدْ _ بعدُ _ أن أكون في بيتٍ كبيرٍ فيه مثلُ هذا العدد من الجواري .. فقد كان سيدي الأول  _ قبل أن يشتريَني (أبو العلاءِ إسماعيلُ بن غزوان) _ شيخاً كبيراً ليس عنده مَنْ يقوم على شأنه من زوجة ولا ولدٍ , ولم يكنْ في بيتِه غيرُه وغيري فكنْتُ أتولى تدبيرَ شئونه .. حتى ماتَ وأنا مملوكةٌ له , فورثني أخٌ له , ولم يكن به حاجةٌ فيّ فباعني ..  فاشتراني (أبو العلاء ) .. فلما ذهبْتُ إلى بيتِه كان ذلك أولَ عهدي بالعيش في بيتٍ فيه سيِّدٌ وسيدَةٌ وجوارٍ أُخَرَ غيري .
*******

( عنان )

منذُ حلَّتْ ببيتِنا هذه الجاريةُ وقد فتنتْني محاسنُها , وهي محاسنُ فائقةٌ بالنظر إلى أني لسْتُ خاليةَ القلبِ لأتملى في محاسن الرائح والجائي ؛ لقد كان فؤادي مِنْ سيِّدةِ هذا البيت _ ( ريطة ) _  في شغلٍ عن غيرِها , ولكن الآن بدأ وجه ( فضة ) الملائكي وجسدها النوراني يومض بعض الإيماض في قلبي حتى كادتْ تزاحم ( ريطة ) مكانَها الذي أخليتُ لها من سنين , وكأن سيدتي قد أحسَّتْ بما يدور في نفسي , فقد فاجأتْني يوماً _وأنا أعدّ الماءَ لاغتسال سيدي _ وقالت لي معابثةً :
- " (فضة) ؟ "
انتبهْتُ..  فرفعْتُ عينيّ إليها متسائلة , فأضافَتْ:
- " هل هي من شغلَتْ عليكِ قلبكِ حتى تَرَكْتِ النارَ متوقدة والقِدْر على الأرض ؟ "
نظرْتُ إلى القدر فوجدته بعيداً عن النار , ولا يزال ماؤه بارداً , فأكملتْ سيدتي :
- " لو جاء سيدُكِ لميعاد غُسْلِهِ فوجَدَ الماء بارداً فأي شيء يصنعه بك ؟ "
قلْتُ في دلالٍ :
- " لو كان لأحدٍ أن يشغلَ عليّ فؤادي حتى أتعرض لعقاب سيدي , فليس ذلك لـ ( فضة ) وإنما لسيدةِ ( فضة ) ! "
قالت ( ريطة ) :
- " لو صَحَّ قولكِ لكنتِ تذكرْتِ الموعدَ الذي واعدْتُكِ به البارحة _ و( أبو العلاء ) في مجلس أصحابه _ أن تأتيني على الهيئة التي سميْتُها لكِ , فانتظرْتُ مجيئكِ ردحاً من الليل فلم تأتي حتى كان رجوعُ ( أبي العلاء ) "
كنْتُ قد نسيتُ ذلك الميعاد , فحاولْت أن أخلق عذراً :
- " إنما كان ذلك دلالاً عليكِ لا انشغالاً بها "
- " ولو صحَّ قولُكِ _أن هذا إنما كان دلالاً_ , لَمَا وجدْتُكِ _ عندما طال عليّ الانتظار  فبحثْتُ عنكِ _ مستلقيةً على سريركِ ليس عليكِ ما يستركِ وقد أمسكتِ بقميص ( فضة ) الذي يلِي جلدَها فجعلْتِه بين رجليكِ ورُحْتِ به وجئْتِ , فلا أشكّ أنك قد تمنيْتِ لو أنّ صاحبة القميص كانَتْ فيه ! "
عندها أُسْقِطَ في يدي , فلم أدرِ ماذا أقول , إلا أنني فطِنْتُ لشيءٍ , فقلت في مجون :
- " ومن أين تعلمُ سيدتي أن ذلك القميص كان قميصَ ( فضة) الذي يلي جلدَها ؟ "
هنا بدأتْ حمرةُ الخجل يسري بعضها من خديّ إلى خد مولاتي , فأكملْتُ :
- " وكأني أرى مولاتي وقد كمُنَتْ في حيثُ لا تراها جاريتُها ، وانتظرَتْ حتى تعرَّتِ الجاريةُ _ فعلمتْ مولاتي ظاهرَ ما تلبسه وباطنَه _ فلما سكبَتِ الجاريةُ الماء على جسمها البض وغسلتْ ما تريد غسلَه وعمدتْ إلى ملابسها لترتديها , تمنَّتْ مولاتي لو تكون مكان القميص الذي يلي جلدها لتكون أقربَ شيءٍ منها "
- " أكنْتِ حاضرتَنا ؟! "
سرَّني أني أدركْتُ بعين فطنتي ما لو رأيْتُه بعين بصري لما زاد ولا نقص . فقلْتُ :
- " لا , ولكنْ إذا هوى القلبُ أبصرتْ عينُه ما غاب عن عينِ الجسد "
- " إذا هوى القلبُ ( فضة ) ؟ أم إذا هوى القلْبُ مولاتَكِ ؟ "
نظرْتُ لها في عربدةٍ وكتمْتُ في نفسي الجواب , وقلْت في مجونٍ  _ وكأني أسألها الرضا عن إجابتي _ :
- " إذا هوى القلبُ كليهما .. ؟ "
هزَّتْ سيدتي رأسَها وكأنها لا تصدق أن يبلغ مجوني وعربدتي هذا الحد , فلما همَّتْ أن تتكلم , دخل زوجها فجأة , وقال لي :
- " أَغَلِيَ هذا الماءُ فأنْزَلْتِ القدرَ عن النار أم لَمَّا تضعيه على النار ؟ " 
ولمَّا لمْ أُجِبْ أَدْخَلَ إصبعَه فيه , ففاجأه الماءُ الباردُ ,  فاستطار الشررُ من عينيه , وزوجته ترى من غضبه ما أرى , فبادرَتْه :
- " ليس للجارية ذنبٌ في هذا لأني أنا شغلْتها بسؤالي عن غليِها الماءَ  "
فقلْتُ _وقد رأيْتُ غضبَه تسوقه عيناه بعيداً عني فترمي سيدتي به_ : 
- " ليس الأمرُ على ما قالتْه مولاتي , وإنما الذنب ذنبي أنا , ولكنها تريدُ أن تدفعَ العقوبةَ عني "
كان الغضبُ لا يزال يلمعُ في عينَي ( أبي العلاء ) , فلما قالتْ له زوجتُه ما قالتْ ثم قلْتُ أنا ما قلْتُ زمجر قائلاً :
- " فعليكِ وعليها ! أتحسبانِ أني أبالي أَوَقَع سوطي على حرةٍ أم على أَمَةٍ ؟! ... لا كنْتُ إن لم أدِرْه على استِكُما حتى يَسْمعَ وقْعَه أميرُ المؤمنين في بغداد فيَشْفَعَ فيكما فلا يُشَفَّع ! "
ثم رفع صوته بالصراخ :
- " يا ( فضة )  ! يا ( فضة ) ! "
ونظرْتُ في عينَي سيدتي فرأيْتُ فيهما من الذعر مثلَ الذي أَجِدُ ..
********

( فضة )

جاءني صوتُ سيدي ( أبي العلاء ) غاضباً كأنْ قد أغلقَ عقلَه الغضبُ , فهرعْتُ إليه .. فوجدْتُه أمام نار موقدة وقريباً منها قدرٌ فيه ماء , ومولاتي وجاريةٌ أخرى تقفان عنده , فلما رآني قال :
- " ائتيني بوثاق , وجيئيني بسوطي ! "
نظرْتُ فإذا الذعرُ باديةٌ أماراته على وجه الجارية وعلى وجه مولاتي , فعجبْتُ لأمر مولاتي ؛ ما يفزعها من عقاب جاريتِها كل هذا الفزع ؟ ثم إنني رحْتُ مسرعةً وجئْتُ بوثاقٍ وسوط من جلد _كان كلُّ من بالبيت من رقيقٍ يخشاه إذ يعرِفُ وقْعَه على جسده_ .. كلهم إلا أنا . فلما رجعْتُ إلى حيث تركْتُهُم لم أجد لهم أثراً , ثم جاءني صوت ( أبي العلاء ) من جانب آخر من جنبات البيت صائحاً :
- " يا ( فضة ) ! "
فذهبْتُ مسرعة إليه فوجدْتُه واقفاً إلى جوار السلم , وصرخ فيّ :
- " ما أخَّرَكِ ؟ "
فقلْتُ له إنني عدْتُ إلى المكان الذي كانوا فيه فلم أجدْهم , فقال _ وقد تنبَّه إلى أنني لم أُضْرَبْ بسوطه من قبل ولم أرَ أحداً يُضْرَب به فلم أدرٍ أن مكاناً بعينه هو محل العقوبة _ :
- " إذا وقعت زلةٌ " _ ثم نظر باتجاه زوجته , وأضاف  _ " من عبدٍ أو حرٍّ في هذا البيت , فإنني آتي به إلى هذا السلم وأوثقه فيه .. فلا أحل وثاقه حتى يبح صوتُه من الصراخ . وأنتِ لا سابقة عهدٍ لك بعقابي فابْقَي بحيث ترين وتسمعين ... لتعلمي ما أفعله بكِ إن زللْتِ مثل زلَلِهما "
ثم أمر زوجته وأمَتَه أن تنزعا عنهما ملابسهما _ في هذا القرّ _ , فما أسرع ما أطاعتاه _ على شدة البرد _ , فلما فرغا من ذلك أمسك برسغي الأمة فأوثقهما وربطهما في السلم _ وأنا ومولاتي ننظر إليهما  _ فلما استقر بها مكانُها أدخل يده بين رجليها  ثم لم يرُعْني إلا وقد حل سراويله , وَجَامَعَها وهِي لا تزالُ مربوطةً في السلم _ وأنا ومولاتي ننظر إليهما _ فلما قضى منها وطراً , أمْسَكَ بالسوط ورفعه وأهوى به على عجزها _ وكأن التي جامعها لتوه كانَتِ امرأةً أخرى _ ثم رفع السوط ثانية وأنزله , ولا زال يفعل ذلك حتى أحصيْتُ له مئة سوطٍ , أما الجارية فقد كانتْ في أول الأمر تصرخ حتى ينتهي بها صوتُها إلى مداه , ثم لما زاد وقعُ السياط سرعةً وشدةً جعل صوتها يحاكي صوت ثكلى قد بكتْ أياماً على فقيدِها فهي تئنّ أنيناً ثابتاً وقد ذُهِلَتْ عما حولَها , فلما فرغ من المئة وحل وثاقها انطرحَتْ أرضاً كأن لم يكن ينهضُ بها إلا الوثاق , فلم يلتفتْ إليها بل أمسكَ برسغ زوجته وجرَّها إليه , وأوثق يديها وربطهما كما فعل بجاريته , ثم أمسك السوط وقال لزوجته :
- " متى كان آخر عهدكِ بهذا السوط ؟ "
فقالتْ وهي تدافع دموعَها :
- " لا عهْدَ لي به قبل اليوم ! "
- " فأي شيءٍ جدّ حتى انتهى بكِ الحال إلى مكان الإماء والعبيد ؟ "
ولمَّا لمْ تجبْ , قال هو :
- " جَدَّ أنكِ رأيتِني أهمّ بعقاب أمَتِي , فسوَّلتْ لكِ نفسُكِ أن تدفعي عنها , فالآن يصيبُكِ ما أصابها "
ورفع سوطَه في الهواء , فبكتْ زوجتُه لمَّا شق السوط الهواء _ ولمَّا يقع عليها _ ثم أهوى به قريباً من جسدها بحيث تظنَّ أنه نازلٌ بها ... فلمَّا لمْ تستشعِرْ ألماً _ بعد أن ارتفع صراخها حتى كاد يسْمَعُه الأصمّ _ علمَتْ أن السوط لم يقع عليها  , فالتفتَتْ برأسها إليه , فقال :
- " هذه ذكرى ! وإن عدْتِ لمثلِ فعلِكِ _فلا والله _لا تنقصُ عقوبتُكِ عن عقوبةِ أمَتِكِ شيئاً .. إن الحرة لا يحْسُنُ بها أن تدافع عن أَمَة ! "
ثم حلَّ وثاقَها , فما فارقَتْ يداها الوثاقَ حتى  أهْوَتْ إلى جاريتِها تقبِّلها وتبكي وتفدِّيها بنفسِها _ وأنا ومولاي ننظر إليهما _ , فلما عاوَدَ سيدي الغضبُ وكاد أن يهوي بسوطِه عليهما جميعاً وهما متعانقتان , سمعْتُ من سيدتي صوتاً لا عهدَ لي به من قبلُ ؛ صوتاً جمَّد الدم في عروقي ونهى ( أبا العلاء ) عن إتمام فعله ؛ قالَتْ :
- " إني كنْتُ أداهنُ وأصبرُ فالآن لا مداهنةَ ولا صبرَ ؛ وإني مطلقةٌ نفسي منكَ ومشتريةٌ منك ( عناناً ) ومعتقتُها , فإن فعلْتَ ذلك طوعاً فذاك , وإن أبيْتَ وكلْتُ بك عبداً من عبيد أبي , شيطاناً , فلا يمهلُك حتى يقضي عليكَ .. فأنت مفارقٌ لي ولـ ( عنان ) في الحالَيْن .. أما روحُكَ فأنت بالخيار إن شئْتَ أبقيتَ عليها وإن شئْتَ أهدَرْتَها "
ونظرْتُ في وجه ( أبي العلاء ) وأنا أرتقبُ عاصفةً من غضبٍ ففاجأني أن وجهه بدا وكأن ملامحه لا تعرف أين تستقر ؛ كانت تعابيرُ وجهِه أشبهَ شيءٍ بأسدٍ هَمَّ أن يفترسَ فريسة فرأى إنساناً ممسكاً برمحه يتوعَّدُهُ إن اقترب منها ...  فلا الأسد رأى في حياته _ قبل ذلك الموقف _ ما يهدِّدُه , ولا هو واثقٌ _ في هذه الموقف _ أنه لو أقدم أنه سيسلم . ونقَّلْتُ بصري بين ( أبي العلاء ) و ( ريطة ) فبدا لي أن الإنسان على وشك أن ينتصر على الأسد ؛ وأن البشريّ لا يتزحزح خطوة عن مكانه بينما الحيوان يرقُبُه وهو يتراجع ؛ ليس تراجعاً مذعوراً _ فهو لا يعرف كيف يُذْعرُ _ ؛ ولكنه لا يزال معدوداً في التراجع ..

سيقول الجيران فيما بعد أن( إسماعيل بن غزوان) كان من سموّ النفس وحسن العشرة وكرم الأخلاق بحيث وافق على طلاق ( ريطة ) و"مَنْحِها" جاريةً لها كمتعةِ مطلقة ... ولكن الذي رأى ما جرى في تلك الليلة سيشهد أن توصيف ما حدث بهذا الوصف هو أبعدُ شيءٍ عن الواقع .

*********

( 2 )



المكان : نفس المكان .
الزمان : بعد ألف ومئتي سنة .

( ليلى )

كانتْ أصوات المروحيَّاتِ تصم الأذنين .. مقترنةً بما يبدو وكأنه أصوات مركبات مدرعة تصاحبها أصوات مشاةٍ منتظمة , لم أكنْ قد اعتدْتُ على هذه الأصوات تماماً ؛ لم يكن الجنوبُ في نفس هدوء الشَّمال ولكنه _ قطعاً _ كان أكثر هدوءاً من الغرب , لذلك عندما دَوَتِ الطرقاتُ العنيفة على باب المنزل احتجْتُ لبضعة لحظات حتى أدرك أن هذه على الأغلب عملية تفتيش .. فأسْرَعْتُ إلى غرفتي .. وعندما نزلْتُ كان هناك ضابطٌ يخبِر والدي بالإنجليزية _ والمترجم يترجم الكلام للعربية _ أن هذه عملية تفتيش , التفت أبي للمترجم , ونقلَتْ نظرتُه ما يفكرُ فيه .. النساء !
كان أبي صورةً حيةً لما يتبادر للذهن عند ذكر الرجل العراقي ؛ الشارب الكث .. الصوت الضخم ..الملامح الجادة ... ابنة واحدة وثلاثة أبناء : مات اثنان منهما في الحرب_ ولمَّا عَلِمَ النظامُ السابقُ بالجهة التي مات الابنان وهما يحاربان لأجلها قتلوا الابنَ الثالث تعذيباً في المعتقلات _ .
 ولذلك لم يكنْ في البيتِ غيري وغير أمي وأبي ؛ بالنسبة لأبي فالتفتيش أو حتى الإهانة أو حتى الموت هو أمر يستطيع أن يتعامل معه , ولكن ... النساء ! نقلَتْ نظرتُه ما يريد قولَه فبادر المترجم لنقل الفكرة إلى الضابط الذي هز رأسه في تفهم , وقال إن هناك مجندة ستقوم بتفتيش " النساء " ثم عليهن أن يغادرْن المنزل ليكمل الجنود تفتيش البيت و"الذكور" .. نقل المترجمُ ما قاله الضابط لأبي فسُرِّي عنه , وتزحزح عن الباب ليُفْسِح المجالَ لمجندة صغيرة السن لتدخل إلى المنزل _ في حين انتظر بقية الجنود في الخارج _ وكان هذا هو دوري لأُذْعَر , كنْتُ قد أسرعْتُ لغرفتي لأخفي المسدس في ملابسي , والآن يبدو أنني سأفَتَّش .. قد يتساءل متسائل : لماذا اشتريتُ مسدساً بالأساس ؟ والواقع أنني لم أشتَرِه بالضبط .. لقد أراد بعضُ الأصدقاء أن يتخلص مما عنده من أسلحة نارية _ وكان اقتناؤها شائعاً قبل الغزو _ ففكرْتُ في أن أحصل على إحدى هذه المسدسات بدلاً من أن تُسَلَّم لقوات التحالف .. بالنسبة لي بدا أن ذلك إجراءٌ احترازيٌّ لا خطرَ منه ؛ ولكنني الآن أقف مشدوهة والمجندة تقترب منا لتفتشنا ..وقفَتِ المجندةُ أمام أمي ثم رفعَتْ يديها إلى جانب جسمها وكأنها تخبر أمي بما عليها صنعه , فقلَّدتْ أمي حركتَها , وبدأَتِ المجندة بالتفتيش.. وظهر من الطريقة التي أجرتْ بها التفتيش أن هذا ليس إجراء روتينيًا وأن حدثاً ما قد حدث , وجدْتُني أسأل نفسي :  هل هناك تفجيرات قد حدثتْ في المنطقة مؤخراً ولم أعلم بها ؟  ... فلما انتهى تفتيشُ أمي التفتَتْ المجنَّدة إليّ ورفعتْ يديها بجوار جسمها مرة أخرى , فقلْتُ بالإنجليزية :
- " إنني أتحدث الإنجليزية ! "
فقالت :
- " حسناً ! ضعي يديك بجوار جسمك حتى أفتشك "
قلْتُ  بالإنجليزية _ وأنا أحاول أن أرجئ ما هو محتُّمُ الوقوع _ :
- " إنني بحاجة إلى أن أرى إذنَ تفتيش .. كما إنني أريد أن أعرف ميولك الجنسية .. إذا كان الهدفُ من وراء أن تفتشني امرأة وليس رجلاً هو أن تخلو عملية التفتيش من شبهة التعدي الجنسي , فإن كونكِ مثلية الجنس يخلّ بهذه الفكرة , أليس كذلك ؟ "
نظرتْ إليّ مشدوهةً ثم قالتْ في هدوء :
- " وعلى هذا الأساس فإن تفتيشك من قِبَل ذكر مثليّ الجنس , لا بأس به ؟ "
قلْتُ _ وأنا أطيل الحوار لأحاول أن أجد مخرجاً من انكشاف أمر المسدس المربوط في فخذي تحت العباءة _ :
- " نعم ! إن كان في زملائك من تنطبق عليه هذه الصفة _ وكنْتِ أنتِ بالفعل مثلية الجنس _ فقيامه هو بتفتيشي أولى "
- " وهل سيوافق والدكِ على ذلك ؟ "
لم أكنْ أعرف أين يذهب هذا الحوار , ولكنني كنت أخشى ما بعده , فاستمررْتُ :
- " أعتقد أن بإمكاني أن أُقْنِعَه ! "
بَدَتِ المجندةُ هي الأخرى مستغربةً من مسار الحوار , ثم فطِنَتْ فجأة لما وراءه , فقالت :
- " هل تُخْفين شيئاً تخشين من انكشافه ؟ "
كان الحوارُ قد استغرق وقتاً , فجاءنا صوتُ الضابطِ من الخارج :
- " هل كل الأمور على ما يرام , هناك ؟ "
أجابَتِ المجندة بصوتٍ عالٍ  :
- " نعمْ يا سيدي , إننا على وشك الانتهاء , سيدي ! "
ثم نظرَتْ لي وكأنها تقول : أنا مضطرة لصنع هذا  . فرفعْتُ يديّ جانباً وانتظرْتُ الأسوأ .. بدأَتِ المجندة من جذعي حتى وصلت إلى أسفل قدمي ثم أحاطتْ قدمي اليمنى بكفيها وصعدت بهما إلى أعلى فخذي , ثمّ عندما كرَّرَتْ نفس الفعل مع قدمي اليسرى انتهتْ إلى المسدس , فتحسَّسَتْه بيدها , ثم رفعتْ عينيها لتلاقي عيني , وتجمد الهواء بيننا للحظة ..ثم انتصبتْ واقفة , وهي تقول للضابط بصوتٍ عالٍ :
- " لا شيء هنا , يا سيدي ! "
فَطَلَبَ الضابطُ منها أن تَخْرُجَ بنا ليتم تفتيش البيت , وعندما خرجْتُ أنا وأمي والمجندةُ .. دَخَل الجنود ليفتشوا أبي والبيتَ , وظلَّتْ المجندةُ واقفةً بجواري فنظرْتُ إليها نظرة امتنانٍ , فابتسمتْ لي , وحاولَتْ أن تفتح موضوعاً , فقالت :
- " إن بيتَكم يبدو لطيفاً , هل هو أثريّ ؟ "
لم أعرفْ كيف أجيبُ على هذا , فقلْتُ :
- " إن هذا الحي يشكل جزءاً من المدينة القديمة , ولكني لا أعتقد أن الأبنية تظلُّ على حالتِها لفترة طويلة , ربما كان المكانُ نفسُه أثريًّا وليس البناء "
 - " فربما نحن واقفتان على ما كان _في يومٍ ما _ قصرَ الخليفة ؟ "
لم أدرِ إن كانتْ تمزح أم لا , ولكنني قلْتُ :
- " معظم الخلفاء كانوا في بغداد , وهناك خلفاء كانوا في سامراء والأنبار والكوفة , ولكن على حد علمي لم يوجد قصر لخليفة في البصرة , ولكن ربما نقف الآن على ما كان بيت الجاحظ مثلاً  "
بدا على وجهها شيءٌ من الخجل ؛ فسألتُها :
- " من أين أنتِ ؟ "
- " ( نورفك ) , إنها في .."
قاطعْتُها قائلةً :
- " (إيست أنجليا) , أنا أعرف أين تقع ( نورفك ) "
نظرَتْ لي في استياء وقد بدا لها وكأنني سلبْتُها حقاً مشروعاً في رد التعالم بمثله ؛ أنتِ لا تعرفين مكان قصر الخلفاء في العراق , وأنا أعرف المقاطعة التي تقع فيها مدينتكِ .. فكم بيننا ؟ ولكنها _ بذكاء _ وقعَتْ على شيءٍ لا تتكلمُ من نشأتْ في البصرة عنه بهذه السهولة , فقالت _ وإن عادتْ حمرة الخجل لوجنيتها _  :
- " أريد أن أخبركِ أنكِ كنت صادقة الحدس عندما سألتِني ذلك السؤال "
توقف عقلي عن العمل عمداً , ووجدْتُني أسألها :
- " عماذا تتحدثين  ؟ "
نظرَتْ لي بمكرٍ , ثم عضَّتْ على شفتها وقالتْ : 
- " في ظروف أخرى كنْتُ لأعتبرَ تفتيشَكِ _ بغير موافقتِكِ _  تجاوزاً "
ظل عقلي متوقفاً عمداً عن العمل , وسألتُها ثانيةً :
- " ولماذا كنْتِ لتعتبريه كذلك ؟ "
كانتْ أمي تسمع حوارنا _ وإن لم تكن تفهمه _ لهذا فقد ذُهِلْتُ عندما بدا وكأن المجندة تريد أن ترى لأي حدٍّ تستطيع أن تُخْجِلَ نفسَها  :
- " لأن ما أرغبُ فيه فعلاً هو أن "أفتشكِ" عاريةً ثم لا أستخدم في "التفتيش" غير فمي ! "
وغضَّتْ من بصرها , فتمنيْتُ ألا تدركَ أمي من لغة جسدها ما يدور بيننا , ولم تستمر اللحظة طويلاً إذ خرج الضابط ومجندوه , فعادت المجندةُ لوقفتها العسكرية , وبدا أن الجمعَ موشكٌ على الانصراف , فهمستْ لي _ إذ أن من حولها الآن يعون ما تقوله _ :
- " سأهاتفكِ "
وانصرفَتْ

*******

( لورن )

لم تكن أجواءُ الحربِ هذه هي ما أرجو أن أجد نفسي فيه ؛ ولكن نشأتي في أسرة محافظة لم تتركْ لي من خيارٍ آخر : كان والدا والدي ووالدا والدتي كلُّهم ممن شارك في الحرب العالمية الثانية : الذكور كجنود والإناث كممرضات , وربَّوا أبناءهم على ذلك , فانتهى الحال بستة من أبنائهم الثمانية عسكريين وضباطاً ؛ ومن بين هؤلاء الستة أمي وأبي .. عندما قامتِ الحربُ كان التهديد من والديّ بقطيعة كاملةٍ إن لم أشارك فيها _ مثلما شارك أخي _  .. وعندما قلْتُ لهم إن هذه حرباً ليست لنا فيها ناقة ولا جمل كنْتُ كأنني سببْت الدينَ لراهبٍ متبتل ؛ في عينيهما كانتْ الحربُ حرباً مجيدةً للدفاع عن ( لندن ) نفسِها ...وكانت القطيعةُ ولم أسمع منهما شيئاً إلا عندما قرَّرْتُ _في لحظة ضعفٍ_ أن أستجيب لطلبهما وألتحق بالتجنيد. وسرَّني  _ فيما بعد _ أنني لا أقوم بكثيرٍ من ( الأعمال القتالية ) كما يقال , في المعتاد معظم ما يُطْلبُ مني يكون خلفَ خطوط القتال ؛ فلا أطلق النار على أحد ولا يطلق أحدٌ النارَ عليّ .
وسارَتِ الأمورُ على نفس الوتيرة , حتى جاء يومٌ وقعَتْ فيه تفجيراتٌ عنيفة , وطُلِب منا أن نُجْري تفتيشاً لعدد من البيوت بحثاً عن المفجرين أو المرتبطين بهم  ؛ لم تَكُنِ المناسبة سارةً كما يبدو , ولكن في أحد البيوتِ المطلوب تفتيشها _ ولأسبابٍ لا علاقة لها بالمنطق _ طلبَتْ فتاةٌ عراقية مني أن ترى إذن التفتيش وأن تعرف "ميولي الجنسية" والغريب أنني أجبْتُ طلبَها _ الخاص بميولي الجنسية وليس الخاص بإذن التفتيش _  .. أنا لم أصارح والديّ ولا أسرتي ولا أقرب أصدقائي في إنجلترا بـ " ميولي الجنسية " تلك ,  ثم أطْلِع فتاة غريبة من بلد غريب على هذا السرّ ... وأمامَ أمِّها أيضاً,  والتي أرجو أن تكون حقاً لا تحسن الإنجليزية , وإلا فإنني وابنتها سنكون في ورطة  .

********

( ليلى )

عندما خلدْتُ للنوم في تلك الليلة كان لديّ فكرةٌ مبدئيةٌ عما ينوي عقلي أن يَصْنَعَه أثناء نومي ؛ فقد ظللْتُ _ طيلةَ يقظتي _ أنهاه عن أن يذهبَ إلى الاتجاه الذي بدا لي واضحاً أنه يريد أن يذهب إليه , فلما نمْتُ _ ولم يعدْ لديَّ سلطانٌ عليه _ بدا وكأنه ينتقم من الكبْتِ الذي عاناه فانطلق وحَلَّقَ وغنَّى وأطْرَبَ ... والمصيبة ... المصيبة أنني كنت أكثر الناس سروراً بذلك .
عندما حوتْ أحلامي صورةً للمجندة التي لا أعرفُ اسمَها وقد قبضت على فخذيّ بيديها , ولسانُها يدورُ فِي الذي لا أسميه ولكني أكنيه _ كما يقول الشاعر _ كانت تلك أسعد لحظات حياتي , على الرغم من أنها حلم , وشعرْتُ أن عقلي ينظر إليّ بمؤخر عينه ويقول : ألم أقل لكِ ؟ هذا هو ما تريدينه أكثر من سواه , فلماذا تمنعينني من الخوض فيه ؟ فأقول له بصوت يقطر ألماً : حتى لا تصير الأمانيُّ واقعاً فنفتضح ! فيقول: لو افتضحتْ _ منذ بدء الإنسانية _ كلُّ من صارتْ أمانيُّها تلك واقعاً , لكان ذلك الفعل _ الذي تخافين أن تَفْتَضِحِي به _  قد صار مقبولاً وأقرَّتْه الأعراف والتقاليدُ والعاداتُ في كل بقاع العالم ! فأقول له : أنا لا تعنيني أن تَنْجُوَ كلُّ من تمنَّتْ مثل ما أتمنى إذا افتضحْتُ أنا , ولا أبالي أن يَفْتَضِحْنَ كلُّهنّ إذا سَلِمْتُ أنا . فيقول لي مُحْنقًا : يا بلهاء ! هذا ما عنَيْتُهُ ؛ أقول لكِ : لو فكَّرَتْ أخواتُك _ وإخوانُكِ _ في أحدٍ سوى أنفسِهم لما كنْتِ الآن تعانين كل هذه المعاناة .. فتردَّين وتقولين : أنا لا يعنيني سوى نفسي ؟!
 وأبكي ؛ لأنني صرتُ محلَّ تعنيفٍ حتى من عقلي ! فيرقُّ عقلي لي ويقول : حسناً لا داعي للدموع . فلا تخفّ حدة بكائي . فيقول : سأريكِ شيئاً تحبينه , فلا داعي للبكاء ! فأضحك رغماً عني , وأنظر أمامي فأجد عقلي قد أعدَّ مسرحاً جديداً لحلم جديد , فأمسح دموعي وأخطو لخشبة المسرح لأجدني ممسكةً بملفٍّ مزخرفِ , وأنا على مكتبٍ أنيقٍ , وتجلس أمامي المجندة _ولكنها مرتديةً ملابس طالبةٍ _وهي تنظر لي وكأنها تعتذر من شيءٍ ما , وأفتح الملف لعلي أجد فيه  تفسيراً لهذا الموقف , فأجِدُ الذي فيه ورقةً بيضاءَ فارغةً ليس مكتوباً عليها شيءٌ , وأرفع عينيّ إلى المجندة _ التي قد صارتْ طالبةً _ فأجدها تقول بعربية فصيحة :
- " لقد حاولْتُ أن أقوم بالبحثِ الذي كلفْتِنِي به , ولكنني لم أعثرْ على فكرة واحدة أكتبها , فخفْتُ أن تعتقدي أنني تكاسلْتُ عن القيام به , فأتيتُك بالورقةِ التي كنت أعدها لأبدأ كتابةَ البحثِ عليها , وعليها بقيةٌ من أثر الدموع التي ذرفْتُها حزنا أن أخيبَ ظنكِ "
أعدْتُ النظر إلى الأوراق فإذا فيها أثر نقاطٍ من ماء , فيرقُّ قلبي لها وأهمُّ أن أواسيها وأخبرها أنني لا أبالي إذا تأخرَتْ في تسليم بحْثِها أو لم تسلِّمْه على الإطلاق , وما إن ترى ملامحي قد رقَّتْ ولانتْ حتى تنفجر ضاحكةً , وتقول :
- " خدعْتُكِ ! إن هذه قطراتٌ من ماء الصنبور... ولكنكِ ظننتِ فعلاً أنني أبكي بسببٍ تافهٍ كذلك ؟ "
فيكون هذا دوري لأبتسم وأقول :
- " لعلكِ فتاةٌ كبيرةٌ لا تبكي لأسباب تافهة كتلك , ولكني أعرف ما يَجْعَلُ الفتياتِ الكبيراتِ يبكين ! "
وأنظرُ أمامي فأجد مسطرةً فأرفعها بإحدى يديّ وأهوي بها على راحة يدي الأخرى كالمهدِّدة . فتنظر الطالبة/المجندة نحوي في تذلل , وتقول _وقد عادتْ لتخضع في القول_ :
- " ولكنني لسْتُ فتاةً كبيرةً على الإطلاق ! وإن والدي أحياناً يريد معاقبتي _ بلا سبب واحد يوجب ذلك _ فيجعلني أقف أمام مصباحٍ ليقع ظلي على الجدار , ثم يقترب من الجدار الذي عليه ظلِّي , فيضرب ظلي فأبكي أنا من فرط رقَّتي وطفولتي "
فأجاهد لأمنعَ نفسي من الانخداع مرةً أخرى بعذوبة كلامها , وأقول :
- " إخاله لو تجرأ في إحدى المرات , وعاقَبَ صاحبةَ الظلِّ الشقيةَ بدلاً من الظل البريء , لما كانت تَجْلِسُ أمام معلمتها _وهي تهزأ بإشفاقها عليها _ لتقول : خدعْتُكِ "
ارتسمتْ على شفتها ابتسامة ماكرة _ يبدو أن المقلب لا زال وقعُهُ لذيذاً في نفسها _ وسرعان ما قالت :
- " ولكنها خدعة بارعة ! ... في الواقع إنها خدعة ساذجة , ولم تكنْ لتنطليَ على طفلٍ , ولكن أدائي التمثيلي الرفيع  _ بلا شكَّ _  هو ما تسبَّبَ في انخداعكِ بها "
- " حسناً ! فليكنْ ! لنرَ أدائكِ التمثيلي الرفيع ؛ تصوري أنك طالبة شقية وأن معلمتكِ قد قرَّرَتْ معاقبتكِ برفع تنورتكِ هذه حتى يبدو ما تحتها من الملابس "
- " ليس تحتها ملابس لِتَبْدو ! "
أحاول ألا أشهق بصوت مسموع , وأضيف بصوت أحاول أن يكون مسموعاً :
- " .. ليبدوَ ما تحتها من جلدٍ , ثم استعملتْ هذه المسطرة على الجلْد المكشوف حديثاً .."
قاطعتْني قائلةً :
- " هل بإمكاني أن أتمعنً النظرَ في هذه المسطرة رجاءً, لأتمكن من استيعاب المشهد ؟ "
فأناولُها المسطرةَ فتمسكُ بها في يدها , ثم تقوم مِنْ كرسيِّها , وتستديرَ لتكونَ مؤخرتُها في مقابل نظري , ثم ترفعُ تنورتَها لتؤكد صحةَ ما قالته عن عدم وجود ملابس تحتها , وأجدني أتمعَّنُ النظرَ في كل ما أمامي بلا خجل , ثم تَرْفَعُ المسطرة بإحدى يديها وتنزلُ بها على مؤخرتِها المكشوفةِ وتتألمُ بصوت مسموع , ثم تُتْبِعُ صوتَ التألم بصوتٍ لا يَصِحُّ أن تسمعَه معلمةٌ من طالبةٍ , فأقول :
- " لا أعتقد أن الطالبة _في المشهد الذي أريدكِ أن تتصوريه _ بهذا الاستمتاع بعقوبة معلمتها "
- " كل طالبة في هذه الدنيا كانتْ لِتَسْتَمْتِعَ بعقوبة معلمتها لو كانَتِ المعلمةُ في مثلِ جمالَكِ وكانَتْ مؤخرةُ الطالبة في مثل انكشاف مؤخرتي .. أنا أحترم حقَّكِ كمؤلفةٍ في رسم السيناريو كما ترغبين , ولكن _رجاءً _ كوني واقعية ! "
- " هلّا كرَّرْتِ الجزءَ الخاصَّ بجمالِ المعلمة ..فإني أحب أن أسمعكِ تذكرينه ! "
التفتَتْ فتاتي الشقيَّةُ لتواجهَني وبقدر ما سرَّني رؤيةُ وجهِهِا بقدر ما ساءني ابتعادُ ردفيها عن ناظري , ثم قالَتْ :
- " أتؤمنين يا معلمتي بالغيبياتِ "
استغربْتُ من السؤالِ وقلْتُ لها :
- " لماذا تسألينني هذا السؤال "
- " لأنه في هذه اللحظة بالذات سيرنُّ هاتفُ منزلكم فترفعين السماعة مسرعةً _ إذ والداك نائمان في هذا الوقت المتأخر من الليل _ فنكملَ حوارَنا "
نظرْتُ إليها في دهشة ليغيبَ وجهُها فجأة عن ناظري ثم أستيقظ على رنين الهاتف ..في الثالثة فجراً ! . وأهرع مهرولةً للهاتف وأرفع السماعة فيفاجئني صوتُ المجندة :
- " المعذرة على الاتصال في وقت متأخر , ولكنني لم أستطِع النومَ وأنا أفكر في شيءٍ قلتِه لي .. "
كان النومُ لا يزال مخيِّمًا على أجزاء من دماغي , فقلْتُ :
- " من أين عثرتِ على رقم هاتفي ؟ "
- " إنني أعرف أين تسكنين .. الأمر ليس بهذه الصعوبة ! "
- " إمم .. لأنكِ كنتِ قبل قليل تخبرينني _في الحلم_ أنك ستتصلين , وكنت أتساءل ما إذا كان هذا نوعاً من أحلام المنبه أم أنكِ بالفعل كنتِ في منامي "
هنا قرَّر النومُ أن بقاءَه في ساحة الجريمة التي تسبَّبَ بها للتوِّ مما لا يحمد عقباه , فولى هارباً , وتركني _ كاملةَ الاستيقاظِ_ أفكِّرُ فيما قلْتُه للتوّ , وجاءني صوتُ المجندة :
- " هل كنْتِ تَحْلُمِينَ بي ؟ "
حاولْتُ أن أجيب , ولمَّا لم أستطِعْ , وجدتُني أسألها :
- " بعيداً عن هذا .. ما الذي قلْتُهُ ومنعكِ من النومِ حتى تتصلي بي في مثل هذه الساعة ؟ "
- " لا شيءَ في الواقع , لقد كان عذراً أخرقَ ؛ مبرِّراً حتى أسمع صوتكِ لأنني لا زلْتُ أفكرُ فيكِ منذ التقينا , أمَّا الآن فلم تَعُدْ بي إليه حاجةٌ بعد اعترافكِ بأنني فتاةُ أحلامكِ _حرفياً_ "
شعرْتُ أنني أدينُ للنوم الذي خدَّر عقلي فحملني على هذا الاعتراف , ولكنني وجدْتُني لا أزال خَجْلَى من التسليم بما حدث , فسألتُها :
- " ولكن ما الذي كانَهُ العذرُ الأخرق ؟ " 
- " سأخبركِ به إن أخبرتِني بما كانَهُ الحلمُ الذي كنتُ فيه ! "
وجدْتُ أن هذا بيعُ غُبْنٍ , ولكنَّ الفضولَ غلبني لأعرف ما المبرر الذي فكَّرَتْ فيه فتاتي لتتصل بي , فقلْتُ :
- " موافقة ! "
- " حسناً !  لقد قلتِ لي أن قصور الخلفاء لا تكون في البصرة , ولكن من الممكن أن نكون واقفين في المكان الذي  كان منزل (إلجاهث) , فلما أعدْتُ تَذَكُّرَ حوارِنا في ذهني _ للمرة الألف _ قرَّرْتُ أن أبحث في الإنترنت عن (إلجاهث) هذا فلم أجد عنه شيئاً , فقرَّرْت أن أجعل السؤالَ عنه هو المبرِّر لاتصالي  ؟ "
- " كيف تهجَّأْتِ اسمَه ؟ "
- "  إ ل ج ا ه ث ! "
- " أعتقد أن الصورة الإنجليزية لاسمه أقرب إلى (ألجاهز ) , فلا عجبَ أنكِ لم تجدي عنه شيئاً ! "
- " من هو على أية حالٍ ؟ "
- " إنه أديبٌ صاحب يدٍ بيضاء عليّ إذ كان السبب في اتصالكِ بي "
صحَّحَتْ المجندةُ لي قولي :
- " كان السببَ الظاهريَّ المُدَّعَى أما السببُ الحقيقيُّ فأنْتِ أعلم به "
ثم تذكَّرَتْ فأضافتْ :
- " دوركِ ! "
ترددْتُ قليلاً ثم قرَّرْتُ أن أقصَّ عليها الخبرَ بتمامِه , فلما فرغْتُ منه , قالتْ :
- " من لقاءٍ واحد ! "
- " من لقاء واحدٍ ماذا ؟ "
- " من لقاءٍ واحدٍ علمْتِ بكل خفايا عقلي ورغباتي ! "
- " لقد كان الحلم عن رغباتي أنا , ولكن إن كانتْ هي ورغباتُكِ سواءً فلَعَلَّ هذا يعِينُ على انتقالِ أحداثِ الحلمِ إلى الواقع ! "
- " لقد تأخَّرَ انتقالُ هذه الأحلام إلى الواقع زمناً طويلاً , فلعلنا نبدأ في نقلها إلى الواقع في هذه اللحظة ! "
- " في الثالثة فجراً في البصرة ؟! "
- " في الثالثة فجراً في البصرة في منزل الجاحظ "
- " ولكن واحدةً منا فقط هي التي في " منزل الجاحظ " الآن , فكيف تنتقل الأحلام إلى الواقع "
- " انظري من النافذة ! "
لم أصدِّق أذنيّ ؛ إن وجودها في مثل هذا المكان منفردة في مثل هذا الوقت أمر بالغ الخطورة , ولكني تركْتُ سماعة الهاتف وصعدْتُ لغرفتي وفتحْتُ النافذة فلم أرَ أحداً ورجعْتُ لأمسك سماعة الهاتف وما إن بدأتُ أتكلم حتى فاجأتني ضحكتها وقالتْ :
- " خدعْتُكِ ! "
- " لا أصدق أن خدعةً كهذه انطلتْ عليّ "
قالتْ _وقد بدأتْ تلتقط أطراف الخيط _ :
- " إنها خدعة تافهة لا تنطلي على طفلٍ , ولكن أدائي التمثيلي الراقي وتلويني لدرجات صوتي بتمكُّنٍ هو _ بدون شك _ ما كان وراء تصديقكِ لها "
أحاول أن أتماسك , وأقول :
- " حسناً ! لنرَ أداءكِ التمثيلي ؛ تصوري مشهداً تريد فيه حبيبتُكِ .. "
قاطعني صوتُها في الهاتف :
- " أوووه ... (حبيبة) مرة واحدة ! "
- " لا تزيدي في الشقاوة , حتى لا تزيد في عقابكِ "
جاءني الصوتُ العذبُ في الهاتف :
- " آسفة "
- " حسناً إنها تريد عقابَكِ ولكنها لا تستطيع أن تنتظر حتى تقابلكِ ولا ... "
تقاطعني مرة أخرى :
- " ولكن لعلها تستطيع أن تقابلني بالفعل ! "
- " وكيف ذلك ؟! "
- " انظري من النافذة ! "
- " لقد خدعتِني مرةً _ مرتين , لو حَسَبْنَا مرَّةَ الحلم _ ولا أعتقد أني أنْخَدِعُ للمرة الثالثة "
- " أرجوكِ ! "
فأقرر منْحَهَا فرصةً أخيرةً , ولكنني أٌقول لنفسي :  ( لو كان هذا أيضاً مقلباً ... فسأسير رأساً للقاعدة العسكرية التي هي فيها _ وليكن ما يكون _ وسأعاقبها على الملأ _ لا أدري كيف _ , فلا أنهي عقابَها حتى أستيقن أنها تعلمتْ درسَها ! ) وأفتح النافذة ... فأراها .. وتلوح بيدها لي محيِّيةً وتشير إلى بابِ بيتنا وكأنها تطلب مني أن أفتَحَه لها .. وعندما أتبيِّن خطورةَ ما صنعَتْه يسقطُ قلبي في قدميّ ؛ إنها مجندة تقف وحيدةً بلا عون خارجي في قلبِ الليل في مكانٍ غير آمن ... ماذا لو خطفها أحدٌ ؟.. وأكاد أراها بعين الخيال وقد صارتْ بطلةَ  إحدى هذه الفيديوهات الشنيعة وأحدهم يتلو " تهمتَها " ثم ينفذ " العقوبة " بلا ذرة من إنسانية ! ويسقط قلبي إلى هوة أعمق ! وأجدني أهرول مذعورة نحو الباب فأفتحه وأُدْخِلَها وقبل أن تنبس ببنت شفة أحتدُّ قائلةً :
- " لا شيء .. لا شيء على ظهر هذه الأرض .. سيدفعكِ لتكرارِ مثل هذا الفعلِ أبداً .. سلامتكِ مقدمة على كل ما عداها .. لن أستطيع التنفسَ لو انتهى بكِ الحالُ.... " وتعودُ صورة الرهينةِ معصوبةَ العينين _والسكينُ تقترب من عنقها_ لتطارد ذهني فيغتص حلقي وتغرورق عيناي , فَتَضَعُ الفتاةُ التي لا زلْتُ لم أعْرِفِ اسمَها بعْدُ ولكني مستعدة أن أفْدَيَهَا بنفسي .. تضع وجهي بين كفَّيها وتقابل عينيّ بعينيها , وتقول :
- " لا شيء في هذا الكون سيستطيع أن يفرق بيننا .. لا شيء من عالمي ... ولا شيء من عالمكِ ... هل تؤمنين بالغيبيات ؟ "
خفق قلبي ... هذا الجزءُ لم أقصَّه عليها من الحلم ... وأرمقها بنظرة متسائلة , فتضيف :
- " لقد شعرْتُ شعوراً غريباً ؛ شيئاً لا أقدر على وصفِه عندما دنوتُ من منزلكم للمرة الأولى في ذلك اليوم ... كأن هذا المكان " وابتسمَتْ مضيفةً " (بيتَ الجاحظ ) .. كأنه يخبرني أنَّه سيعينني على التغلب على كل ما ربطْتُ نفسي به من قيود ... كل ما حال بيني وبين ما أرِيدُ الوصولَ إليه ؛ .. مَنْ أرِيدُ الوصولَ إليه ... فلما تمكنَ ذلك الشعورُ من نفسي قابلْتُكِ فلمْ أشكَّ للحظةٍ أن مصيرينا قد ارتبطا للأبد "
- " هذا النوع بالذاتِ من الغيبيات لا مانعَ لديّ أن أؤمنَ به ! "
ابتسمتْ " المجندةُ " وسألتْني :
- " ولماذا هذا النوع بالذات ؟ "
- " لأنني أعلم أنني على استعدادٍ كاملٍ لنَذْرِ نفسي لتحقيقِه , وعلى استعدادٍ كاملٍ لغض الطرف عن أي " حقيقةٍ " تقدحُ فيه وتشكِّك في أولويته ! "
ازدادَتْ ابتسامتُها اتساعاً , ودنتْ من أذني وهمستْ :
- " مشروع إرهابيّ ! "
- " إرهابيّ في الحبِّ ! هذه عملة نادرة هذه الأيام ! "
وأميل على شفتيها لأقبلَهما ؛ لأغرق بكليَّتي فيهما , فتردّ قبلاتي بمثلها , ويخيَّل إليَّ أنني أسمع صوتَ أبي أو أمي ينزلان الدرجَ ...
ولكنّني أستمر في لثم شفتَيْ حبيبتي _ التي لا زلْتُ لا أعرف اسمها _  ..
 ولا أبالي بمن سواها  !!

***********







ليست هناك تعليقات: