الثلاثاء، 25 أكتوبر 2016

قصة : الهيراركية ، جنون السلطة ، وأشياء أخرى ( ف / ف )



قصة : الهيراركية ، جنون السلطة ، وأشياء أخرى ( ف / ف )  


- بضعة تنويهاتٍ :

تنويه 1 : هذه القصة تعمد في كثير من أجزائها إلى استخدام لغة قد تعد مرتفعة قليلاً عن عربية الجرائد والصحف ، فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك ، فقد  نوهنا به .

تنويه 2 : تصوِّرُ القصة في معظمها علاقةً ذات طابع جنسي بين أنثيين ، فإن كان هذا يسوؤك / يسوءك، فقد نوهنا به . 

تنويه 3 : مما تشمله تلك العلاقة ذات الطابع الجنسي _ وإنْ تلميحاً لا تصريحًا _ ما يقترب مما يعرف بالإنجليزية / بالإنكليزية بـ 

فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .

تنويه 4 : هذا العمل ضرب من الخيال لم يقع ولا أجزاؤه ،  ولا قَصَدَ إلى تصوير ما وقع بكليته أو بجزء منه ، وشخصياته ليست محاكاة لشخصيات واقعية وأي تشابه بينها وبين أي شخصية واقعية حية أو ميتة علمنا بها أو لم نعلم محض صدفة ، وأيُّ حثٍّ على فعل أو على الامتناع عن فعل بناءً على ما في القصة مما تُوُهِّم أنه مغزى فهو غيرُ مقصود من المؤلف ، وليس حثاً على الحقيقة ، ومتى وقع الفعل الذي تُوُهِّم أنه حُثَّ عليه فالفعل مسؤولية / مسئولية فاعله ولا يُسْألُ المؤلفُ عن ذلك .
فإن كان أيٌّ من هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .

 - القصة : 



1- تسارعٌ
-------------------------------------------------

الرجال .. تبًّا لهم ! .. لماذا لا يتركونني وشأني ؟!

- « صباحنا قشدة ! »

صباحك قطرانٌ يا ابن الفاعلة ، فليتَ ما تتمنى فعلَه بي يحل بأبيك !
لماذا لم تربِّهمْ أمهاتُهم  ؟! لقد كانَتْ هناك فرصة لتقويمهم قبل أن يصير الصلصال فخاراً .. أما الآنَ فهم حالة ميئوسٌ منها ..

- « لا ردَّ ؟ »
بل سيأتيك الردُّ بين عينيك ، لو استمرَرْتَ في تحرشك !

- « إن مشاعري خالصة يا بنتَ الناس ، أنا طامعٌ في الحلال »

تعليقٌ آخر ، وسأضطر للرد ؛ سأضطر للسب الفاحشِ ..

- « وهل للأنثى هدفٌ غيرُه ؟ بيتًا يؤويكِ ورجلاً يحميكِ .. فنريد أن نقرب المسائل من الأجوبة !  »

هذه هي ! لقد كنْتُ أمني النفسَ أن أصلَ إلى الطريقِ العام ، وأستقلّ الحافلة ، وأتخلص من سماجتِه ، ولكنْ إن كانتِ السماجةُ بهذه الكثافة ، فلْتشهدِ الحارةُ الوجهَ الآخرَ لي ، لا يهم أن يسمعني عم ( فلان ) ولا عم ( علان ) ..

ويراني السمج أتوقفُ عن سيري وألتفتُ إليه..  فيعلو وجهه المُشْعِرَ ابتسامةُ انتصارٍ ، ويهيئ نفسَه لجوابي ؛ لا يهم القبول أو الرفض ، التلطف أو الإغلاظ ، المدح أو الذم - هذا كله ستحوله شهوانيتُه الذكورية العفنة إلى موضع فتنة وتلذذ ؛ كل ما يصدر عن امرأة هو دليلٌ _ في عقله الدنيء_ على الرغبة الدفينة والشهوة المكبوتة ، والهدف هو استخراجُها على يديه ليتمتع بالجسد الرخص الذي استطاع فك طلاسمِه وعجز الآخرون عن ذلك ؛ هؤلاء الرجال الأقذار ..

- « أمك ! »

كلمة واحدة مختصرة ..

الابتسامة لا تزال على شفتيه ..

- « أمي ما لها ؟  »

- « كانتْ تمشي يومًا ما في طريقٍ كهذا مليءٍ برجال مثلك  »

أليس هذا هو ما ينهاهم في المعتاد ؟ ما ستفعله بأخوات الناس سيُفْعلُ بأختك ؟ من تتحرش بها ستكون يومًا ما أمًّا لمثلك ؟ لا كرامة للمرأة ؛ ولكنْ على الأقل فلتكرمها من أجل الذكور المرتبطين بها ، حتى يكرم الذكور الآخرون أمك وأختك من أجلك ؟ ..
أليس هذا ما ينجع في نهي هذه الكائنات الأنانية ؟

- « ولكنّ أمي لم تكن ترتدي ملابس كهذه ، إذًا لقتلها جدي- ألف رحمة ونورٍ عليه  »

المخرج الأخير لانتهاء هذا اليوم سلميًّا قد تجاهله اللعينُ ؛ الآن تراه

طااخ

- « آآه .. يا ابنةَ المجنونة  »

طاااخ .. طاااخ

نعم هذا نتج عنه دمٌ ؛ سيفكر ألفَ مرةٍ بعدَ ذلك قبلَ أن يتحرش بامرأة ؛ قبل أن يتحرش بامرأة ترتدي حذاءً ذا كعبٍ عالٍ على الأقل

- « أدركوني يا ناس ! اطلبوا الإسعافَ  »

ها هو الطفلُ الباكي المذعورُ يعود لفطرتِه ، متمددًا على الأرض في دمائه - لنرجُ ألا يموتَ ، وما دونَ ذلك فعقابٌ مستحقّ ..

أما أنا فماضية في طريقي - الذي خلا بمعجزةٍ ما من أي متحرش ؛ اليد أنجع من اللسان في تأديب هؤلاء !

*****

طرقٌ عنيفٌ على الباب !

أبي يتجه إليه ، وهو عازمٌ على البطش بالطارقِ ..

وما إن يفتحِ البابَ حتى تتحول العزيمة إلى خورٍ .. ثم إلى خوفٍ ..

- « هذا بيت (فارس موسى)  ؟ »

هؤلاء الضباط يتلقون دروسًا في الأداء الصوتيّ على ما يبدو ، تماماً كالممثلين !

- « نعم يا أفندم ! أهناك مشكلة ؟  »

صوتُ أنثويّ يتدخل ليرد عليه - أنثوي جنسًا ولكنه بنفس العنف :

- « معنا إذن من النيابة بإلقاء القبض على ابنتك ( وردة فارس موسى ) ؛ هل هي في البيتِ ؟ »

عينا أبي تتوجه إليّ في ذهولٍ .. وغضبٍ .. وشفقة.. وغيظ .. كيف تجمع عينا إنسان كل هذا في لحظةٍ واحدةٍ ؟

ثم يعود للضابط الذكر والضابط الأنثى :

- « هل من الممكن أن أعرف سبب ...  »

يقاطعه الضابط الذي اعتاد _على الذي يظهر_ أن يقتحم البيوتَ بلا استئذانٍ :

- « في ظروف أخرى كان الجوابُ ليكون بـ (لا) ، ولكنْ بالنظرِ إلى أنها امرأة ؛ فهاك إذنَ النيابة  »

تجري عيناه على أسطر الورقة ، ثم يقول في وجل :

- « ولكنّ ابنتي لا يمكن أن تكـ... »

- « نحن نسمع هذا كثيرًا ؛ كل المجرمين لهم آباء وأمهات وأبناء .... هل هذه هي ؟  »

كنْتُ قد اقترَبْتُ من البابِ لأزيلَ على والدي عناءَ التردد بين تسليم "المتهمة" ، وبين المحاربة دون " أخذ ابنته " ، وأهمس له قبل أن أنصرف معهم ..

- « آسفة ! »

وعيناه لا زالتا مشدوهتَين ، وهو يرقبُ ابنتَه الصغيرة في سيارة الشرطة التي تعوي في جنونٍ في طريقِها إلى قسم الشرطة ..

أما أنا .. فكان الخوفُ قد أغلق كل شيءٍ فيّ عندما أمسكَتْ تلك الضابط بي كأنها تخاف أن أضيع منها في زحامٍ .. ولم أعد أعقلُ شيئًا مما حولي ..

*****

- « هل أنتِ مقرة بضربك للمجني عليه ؟  »

- « لقد كان يتحرش بي ! »

- « ما الذي فعله بالضبط ؟  »

- « لقد قال الكثيرَ من ..  »

- « "قال" ؟ لقد ضربْتِه بطرف حذائك المدبب ، وأحدثتِ جرحًا استدعى عشر غرزٍ ؛ لأنه "قال" ؟  »

- « هل يمكن أن أرى محاميّ ؟ »

الضحكة تجلجل في الغرفة المغلقة ، وتستدعي جلجلتُها مشاركة الشرطي الواقف خلفي في الضحك ؛ لئلا يكون ضحك سعادة وكيل النيابة على شيءٍ لا يضحك ..

- « أتريدين أن أتلو عليك قانون (بيبسي) بالمرة ؟ .. هذه الأفلام الأمريكية قد أفسدَتْ عقولَ النشء ! »

صوتُ لغطٍ يقطع عليه استهزاءَه ، وقبل أن يطلبَ من الشرطيّ أنْ يستكشف الأمرَ ، يدخل إلى الغرفة وجهٌ مألوفٌ ترتدي صاحبتُه بذلة كاملة شديدة الأناقة :

- « لقد سحبَ المجني عليه الدعوى يا أفندم ، ومن ثمّ فإن ...  »

وكيل النيابة يقاطعها في استياءٍ بالغٍ :

- « كلا ! إنه لم يفعلْ ، لم يسحبْ أحدٌ شيئًا ، ثم من أنتِ على أية حال ؟  »

- « المعذرة ؛ ما عنيْتُه هو أنه على وشك أن يسحبَها فهو ينتظر في الخارج .. »


- « مــن أنـــتِ ؟! »

- « أنا أختُ المتهمة .. وأيضًا محامية ، في الواقع لعل سيادتكم يتذكرني ، فقد كنا زميلَينِ في الدفعة نفسِها ؛ أنا من كتب مذكرة مادة القانون المدني التي ذاكر منها معظم الدفعة لعل سيادتكم يتذكر ذلك ؛ مذكرة م  ف م ( منى فارس موسى ) ، لقد كانَـ ...   »

تبدو معالم الاستحياء على وجهه ، ويقاطع أختي :

- « حسنًا ، حسنًا ، أنا أذكر شيئًا من هذا القبيل ،  لا داعي للخوض في هذا الموضوع ، أين المجني عليه ؟  »

- « إنه في الخارج ، الشرطي لم يسمح له بالدخول ، ولا لي في الواقع ؛ فقد تسربْتُ منه بعد جهدٍ .. »

أشار وكيل النيابة إلى الشرطي ليُدْخِلَ " المجني عليه " ، ففعل ..

ودخل المتحرش وهو يضع يدَه على مكان الغرز كالمتألم مما أصابه ؛ عليه اللعنة .. إنه لا يزال على سماجتِه .. وسأله وكيل النيابة :

- « أنت متنازلٌ عن الدعوى ؟ »

- « لقد كانَتْ ضرباتٍ موجعةً يا سعادة البيه ، وأنا لم أفعل لها شيئًا .... »

- « ( عبده ) !! »

كان هذا صوتُ أختي المعترض على مرثيته لنفسه ..

- « ولكنني من أجل سلامة النفوس يا سعادة البيه ، مستعد للتنازل عن الدعوى ، ولكن بشرط أن تضمن لي سعادتكم حسنَ سيرة المتهمة معي في المستقبل ، وأنْ تردّ عليّ بأدبٍ ، وأن تلين لي في التعامـ .. »

كان المسكينُ قد أخطأ في التمييز بين من يجوز معه التزيد ، ومن لا يجوز .. فعاجله وكيل النيابة :

- « يا شرطي ، خذه للحبس »

- « تـمــام يـا أفـنـدم ! »

- « لماذا .. لماذا .. الحبس .. سعادتكم .. لماذا ؟  »

- « أتريديني أن أعمل قوّادًا لديك يا ( عبده ) ؟ أنْ أضمنَ لك " تعاون " المتهمة في المستقبل ؟  »

- « إطلاقًا .. إطلاقًا .. يا سعادة البيه .. ألبتة .. »

- « حسنًا ، سأتظاهر أنك لم تفعلْ ؛ .. وقع هنا .. وهنا .. ثم انصرفْ  »

- « تحتَ أمرك يا أفندم .. تحت أمر معاليكم !  »

وعندما انصرف القميء ، نظر وكيل النيابة إلى أختي ثم قال :

- « في المرات القادمة ، انصحي أختك أن تكون أكثر حذرًا ؛ إن القانون يحوي عقوباتٍ على الضرب ، ولكنّ عقوبات التحرشَ موادها غير قابلة للتطبيق ! »

- « سأثقفها قانونيًّا بكل الوسائل المتاحة يا أفندمْ ! شكرًا على رحابة صدركم  »

وخرَجْنا من غرفتِه .. ثم من القسم ... وعندما ابتعدْنا عن مسمع الناسِ ، لهجْتُ بشكر منقذتي :

- « شكرًا يا (منى ) .. أنا مدينة لك بحياتي ؛ لقد ظنَنْتُ أنني سأسجَنُ بالفعل .. لقد كـ ..  »

- « الأمرُ لم ينتهِ بعد ، إن (بابا) يريدُ أن يطبخك على النار ويلقي بك مسلوقةً إلى الكلابِ .. كان عليكِ أن تسمعي صوتَه ، وهو يتصل بي !  »

- « لقد تحرش هذا الوغدُ بي ، فاضطررت لأن أفــ ...  »

- «  ليست هذه هي الرواية التي وصلت أبي »

- « رواية ؟ »

فأوقفَتْني على قارعة الطريق ، ووجهت بصرها إليّ وكأنها تحاول نقل ما تقوله بلسانها وعينيها جميعا :

- « عندما اتصل بي أبوكِ وكان صوته محطما ..هدأتُ من روعه ، وأخبرته أن الأمر أبسط من هذا .. فقط علينا أن نعرف من هو هذا الشخص الذي قرأ اسمَه في إذن النيابة لنقنعه بالتنازل .. ثم بحثْنا سريعًا عن رافع الدعوى - صاحبكِ ( عبده ) .. وزرناه في بيته .. وتكفّل هو بسرد الرواية من وجهة نظره ؛ ملابس فاضحة ... " نصيحة أخ لأخته " بأن ترجع إلى بيتِها حتى لا يتحرش بها أولاد الحرام .. مرتديةُ الملابس الفاضحة تنزل بطرف حذائها المدبب على جبهة "الأخ الناصح" ، وتكمل طريقَها في ملابسها الفاضحة.. لقد كاد أبوكِ يقبل يدَه وهو يرجوه أن يتنازل عن الدعوى ؛ لولا أن تدخلْتُ أنا وخلوْتُ بهذا الـ(عبده) ، وعرضْتُ عليه مئة جنيهٍ فوافق على سحب الدعوى بدون أن يريق والدُكِ ماء وجهه .. وجئتُ به إلى القسم ، وتوسلْتُ لأبيكِ أن ينتظر في المنزل ، حتى لا يرى صغيرتَه في الحبسِ ..  »

الآن تتضح الصورة المرعبة ؛ وأنا التي ظننْتُ أن الأسوأ قد انتهى :

- « هل صَدَّق ( بابا ) .. ؟  »

- « حبيبتي ، ربما يكون قسم الشرطة _ بمعنى من المعاني _ آمنُ لكِ الآن .. ولكننا سنعودُ إلى البيتِ على أية حالٍ ، وسأدافع عنكِ هناك كما دافعْتُ عنكِ هنا ، ولكني لا أضمن ألا يربط رجلَيكِ ، ويشرح لكِ عليهما شرحًا عمليًّا أساليبَ التعذيبِ التي برع فيها العثمانيون »

كانَتِ الصورةُ المرعبة تزداد وضوحًا ، وتدب فيها الحياةُ أمامَ عينيّ ، وامتقع لوني من الخوفِ ، فقالَتْ أختي الكبرى - مواساةً على ما أعتقد :

- « "علقة تفوت ، ولا حد يموت" ! »

يا لها طمأنةً !!  الآن ترتعد فرائصي !

********

بمجرد ولوج المفتاح في الثقبِ ، انفتح البابُ يدويًّا من الداخلِ ، وسحبَتْ أختي مفتاحَها في عجلٍ ، قبل أن يبتعد الباب عن متناول يدِها ، وكادَ العقابُ اللفظي يصل إلى أسماع الجيران ، لولا أن أدخلَتْني أختي بسرعةٍ , ودخلَتْ ورائي ، وأغلقَتْ البابَ :

- « يا أهلاً وسهلاً ، بالمجرمة الكبيرة ؛ آنسة العالم السفليّ ، التي أنجبْتُها ونمّيْتُها لتكون خزيًا وعاراً عليّ  »

أمي تبكي وهي تمسك بذراع أبي الذي يريد الانتقالَ من الكلام إلى الفعلِ ، والدموع تتسرب من عيني أمي إلى عينيّ بينما أتخذ أختي الكبرى حجاباً أستتر خلْفَه ..

- « ( بابا ) لا داعي للغضبِ .. اهدأ رجاءً !  »

- « انظري إلى أفعالِ أختِكِ أوّلًا .. ما الذي يبقى من الحِلْمِ بعدها ؟!  »

يده تحاولُ أن تصلَ إليّ فيتصاحبُ مع المحاولة ارتفاع عويلِ أمي ، وتحاول أختي أن تبعده عني :

- « ( بابا ) .. ما الذي تريد أن تفعله بها ؟  »

- « سأفتح رأسَها  »

- « هذه جريمة يعاقب عليها القانون بالإعدام ؛ أعني جدّيًّا : ما الذي تريد أن تفعله بها ؟  »

كان من الصعبِ على مَنْ وصل إلى هذه الدرجة من الغضب والغيظ ، أن يرد بعقلانية ، ولكنّ شيئًا من المنطق بقي في رأسه :

- « سأضربَها حتى تُشْفَى نفسي »

تنظرُ له أختي في معاتبةٍ ، بينما أنا وأمي غارقتان بالدموعِ :

- « حتى تشفى نفسُكَ ؟ .. لو كان الهدفُ تأديبَها ، أفلا ينبغي أن تُخْرِجَ نفسَك من المعادلة ؟  »

زمجرتُه الغاضبة تخفتُ قليلًا ، ويبدو أنه موشكٌ على الهدوءِ أو موشكٌ على الانفجار ، فهذا الهدوء قد يفضي إلى أيٍّ من النتيجتَين !

- « ما الذي تقترحينه ؟ »

- « سأؤدبها أنا ..  »

يدي الممسكة بظهر بذلتِها أمانًا بها من الخوف ، تشعر بالخيانة ؛ هل ستظاهِرُه عليّ ؟

- « أنا أعرف أنني أكبر منها بخمس سنواتٍ فقط ، ولكنّك غاضبٌ بتطرف الآن ، وقد تتسبب لها في عاهة مستديمة ، وأمي لن تضرب ابنتَها ، ولو قتلَتْ قيصرَ .. أعتقد أنني الأكثر مناسبةً لتأديبِها  »

إنها خيانةٌ كاملةٌ ! .. ولكنّ أختي تكمل عرضَها قبل أن يردّ أبي عليها :

- « ولكنْ ابتداءً _ ولأنني امرأة قانونٍ _ فأنا عازمة على أن نسمع منها دفاعَها عن نفسِها ، لقد سمعْنا ما قاله ( عبده ) ، وأعتقد أن سيادتك تتفق معي في أنه لم يبدُ رجلًا صالحًا .. وما رأيْتُه منه في القسم كان أشنعَ ، لقد هدده وكيل النيابة بالحبس حتى .. »

اتسعَتْ عينا والدي في استغرابٍ ، فأمّنْتُ على قولِ أختي :

- « أقسم أنه فعلَ »

كلُّ الهدوء الذي حضَّرَتْه أختي قد صرفْتُه أنا بمجرد أن سمع والدي صوتي ، وكاد يبطش بي ، فعدْتُ للاحتماء ببذلةِ منقذتي ..

- « ( بابا ) رجاءً !  »

ثم خاطبَتْني وأنا لا أزال مختبئةً خلفَها :

- « ( وردة ) .. لا أريد أن أسمع منكِ شيئًا حتى آذنَ لكِ  »

ازدَدْتُ التصاقاً بها وهمهمْتُ بشيءٍ ما ، ولكن ارتجافي في ظهرِها كان أبلغ في إيصال ما أريده .. وأكملَتْ عرضَها :

- « وبناءً عليه ، فأنا _ وأعتقد أن سيادتك تشاركني في ذلك _ لا أثق برواية هذا الـ ( عبده ) .. سنسمع من ( وردة ) .. وفي النهاية إن كان قرارك أنها تستحق أن تُضْرَبَ فسأضربها أنا  ..  »

من بين الغضبِ العاصفِ ، هزَّ رأسَه في شبه موافقة .. فأشارَتْ أختي له ولأمي حتى يجلسوا .. ولكنّ أبي ظل في مكانه حتى ابتدأتْ أمي في جره من يده ، فاستجاب بعد لأيٍ .. وجلسا على الأريكة ، وأجلسَتْني أختي على الكرسي المقابل لهما ، ووقفَتْ بيني وبين أبي ؛ كأنها تخاف أن أقول شيئًا يتسبب في هجومه عليّ .. ثم ابتدأتْ المحاكمة التي ظنَنْتُ أني نجوْتُ منها :

- « ابتداءً .. أريد أن أستوثق  _ وأنا أعلم أنه لا حق لي في ذلك كابنةٍ ، ولكنْ طلبًا لمنح الحق الكامل لأختي _ .. أريد أن أستوثق أنه سيسمح لها بعرض كل ما تريد عرضَه ، قبل أن نقرر ما سنصنعه بها .. أي أنه لن يبدأ عقابُها قبل أن تفرغ من سرد حججها ، هل هذا مقبولٌ يا ( بابا ) ؟ »

كان يتحاشى وقوع عينيه على وجهي ، فقال وهو مشيحٌ عني :

- « إن هذا الأمر يتحول إلى مهزلة ! »

- « ما المهزلة في هذا ؟ إن هذه هي نفس الإجراءات التي قد يتلوها أحكام الإعدامِ حتى ! .. فقط من حق كل إنسانٍ أن يدافع عن نفسِه ، هل هذا مقبولٌ يا ( بابا ) ؟  »

تعلو زمجرتُه التي قد تكون قبولًا ، وقد تكون رفضًا للإجابة ..

أختي تقرر أن تستمرَّ ما دامَتْ لا تملك خياراً آخرَ :

- « حسنًا .. ( وردة ) ! .. لا أريد تعللاتٍ ، ولا أريد كذبًا .. ستجيبين بصدقٍ ، وستؤخرين الاعتذاراتِ حتى آذنَ لكِ .. هل هذا مفهومٌ ؟ »

- « نعم  »

- « ما الذي كنْتِ ترتدينه عندما خرجْتِ البارحة ؟  »

الكثير من الاعتراضات لديّ على هذا السؤال ، وعلى ما فيه من عداءٍ للمرأةِ .. ما علاقة ما أرتديه بأي أحدٍ غيري ؟! .. ولكني لسْتُ في موطن قوةٍ :

- « قميصي الوردي ذاك أنتِ تعرفينه .. »

- « و .. ؟ »

- « وبنطال جينز اشتريْتُه مؤخرًا  »

- « ( بابا ) ! »

كان هذا التنبيه من أختي لأبي الذي أوشك أن يفقد حلمَه وأن يقوم من الأريكة .. ثم عاودَتِ السؤالَ :

- « هل كانتْ هناك ثقوبٌ في ذلك البنطالِ ؟  »

- « ربما ! »

- « ( وردة ) ! .. أنا أحاول أن أدافع عنكِ .. فلا تصعبي عليّ مهتمي  »

- « إنها موضة ! »

- « سأفتح رأسَها  »

كنْتُ أشبه بالفأر الذي تهجم عليه هرة .. ولكنّ أختي تدخلَتْ جسديًّا لتحول دون الانقضاضة الكاملة عليّ ، وبدأتْ في المعاتبة , وهي تزحزح أبي جهة الأريكة :

- « ( بابا ) ، لقد اتفقْنا على أن تهدأ حتى تنتهي من كلامِها .. أرجوك ! »

أمي تتشبث بيده وهي تحاول إقناعَه بالجلوسِ ، وبعد جهدٍ يجلسُ .. وتعود أختي لأسئلتِها :

- « هل ارتديْتِ شيئًا تحتَه ليستر مكان الثقوب؟  »

- « لا »

- « حسنًا ، ننتقلُ إلى موضوعٍ آخرَ ..  »

جاء صوتُ المقاطعة من أبي ، الذي لم تعجبْه إدارةُ ابنتِه للحوارِ أو للمحاكمة على وجه الدقة :

- « لماذا لا تسألين أختكِ عن مكان تلك " الثقوب" ؟  »

هل زفر لهبًا من منخريه أم أنني توهّمْتُ ذلك ؟

 أختي تبدو وكأنها قد قبض عليها متلبسة بالانحياز لأحد الطرفين ، ولكنها تتماسك ، وتحاول أن تستعيد ثقة طرفي النزاع :

- « ( وردة ) ، اذهبي إلى غرفتك ، وأحضري ذلك البنطالَ حتى نراه رأي العينِ  »

أحاولُ أن أغمزَ لها في رعبٍ حتى تنتبه إلى مدى المخاطرة في هذا الطلبِ ، ولكنها لا تعبأ بي ..

فأجرجر رجليّ إلى غرفتي ، وأفكر وأنا في طريقي إليها أن أثقبَ بنطالاً آخرَ وأدعي أنه هو الذي خرجْتُ مرتديةً إياه ، ولكنْ من أين لي بمقصٍّ في الطريق إلى غرفتي .. ربما إذا تسللْتُ للمطبخِ ؟ .. ولكن المطبخ في الجهة الأخرى من الشقة ... لم يكنْ هناك مخرجٌ .. وفي النهاية فقد عدْتُ بالتهمة إلى قاعة المحكمة , وسلمتُها لأختي .. التي نظرَتْ في عجالةٍ إلى موضع الثقوبِ ، ثم سلَّمَتْها لوالديّ وهي تقول:

- « حسنًا .. رجاءً يا ( بابا ) تمالكْ أعصابَكَ .. »

ولكنّ ( بابا ) لم يتمالكْ أعصابَه .. لقد أدخل قبضتَه بكاملِها ، في أعلى تلك الثقوبِ ، وعندما خرجَتْ من الجهة الأخرى ، وحاول تصوَّرَ كيف سيبدو منظري مرتديةً ذلك .. خرج اللهبُ حرفيًّا من منخريه !

- « ما الذي كانتْ ترتديه " داخليًّا " تحتَ هذه المرقّعة ؟ »

تدخلَتْ أختي في عجلةٍ :

- « رجاءً ! ( بابا ) ! .. لن نصل إلى هذه الدرجة  »

وجاء رده الزاعق :

- « ولماذا لم تفكر هي في الوصول إلى هذه الدرجة قبل أن تشتري هذا الـ"شيء" وترتديه في طريقِ الناسِ ؟!  »

ثم توجه ببصره إليّ ، لأول مرةٍ منذ عدْتُ من القِسْمِ :

- « ما الذي ارتدَيْتِه تحت هذا الهبائب ؟  »

لمْ أدرِ بما أجيبه .. ولكني قلْتُ في توسلٍ :

- « ( بابا ) ! أرجوكَ ! »

وتدخلَتْ أختي :

- « هل يمكننا أن نكمل ، ونعود لهذا السؤال فيما بعد .. ( وردة ) لقد قلْتِ إن هذا الرجل تحرّشَ بكِ ؛ ما الذي فعله ؟ »

- « لقد ظلّ يخاطبني بكلام سافلٍ ، وأنا لا أردّ بشيءٍ ، وأتجاهله .. ثم لما فاض بي الكيلُ قلْتُ له إن أمك كانتْ تمشي مثلي في طريقٍ فيه رجالٌ مثلك ... لكي يرعويَ ... فقال : لو خرجَتْ أمي في مثل هذه الملابس لقتلَها جدي .. أو شيئًا من هذا القبيلِ   »

- « ثم ؟ »

- « ثم خلعْتُ حذائي وضربْتُه به  »

لأول مرةٍ بدا على وجه أبي شيءٌ من الفخرِ - ذرة من الفخر ، في وسط غضبه العارم .. وفطنَتْ أختي لذلك أيضًا :

- « هل أنتِ نادمة على ما فعلْتِه ؟  »

- « على الملابس : نعم .. على ضربي لذلك الوغدِ : لا  »

في الواقع لم أكن نادمةً على أيٍّ منهما .. ولكن للضرورة أحكام .. ولما ذكرْتُ الوغدَ ارتبطَتْ ذرة الفخر بأخرى مكونة جزيئًا من الفخر على وجه أبي ، ولكنّ ذكرى الملابس كانَتْ لها المكانة الكبرى في تشكيل ردِّ فعلِه ، وعاد للسؤالِ :

- « ما الذي ارتديْتِه تحتَه ؟ »

الصدقُ خيرُ علاجٍ .. أليس كذلك ؟

- « لقد رأيْتُ أنه من غير اللائق أن تظهر .. ملابسي الداخلـ ... أن يظهر ما أرتديه تحته ، .. فلم .. أر.. أر.. أرتدِ .. شـ..شـ.. شيئًا ..تـ .. تحته »

حتى أختي نظرَتْ لي في لومٍ .. وفي ثانية كانتْ يدُ أبي تمسكُ بخناقي ، وترفعني من الكرسيّ ..

- « ( بابا ) ! .. ( بابا ) !.. ( بابا ) ! »

- « إنه لم يَعُدْ ( بابا ) .. لقد صار قفصَ تفاحٍ على يديكِ .. »

أختي تحاولُ محاولةً أخيرةٍ أن تخلصني من قبضتِه :

- « ( بابا ) .. لقد اتفقْنا على أنني أنا مَنْ سيعاقِبُها ..  »

كان الاتفاقُ _ ومعه كرامتي _ يوشك أنْ تُمْسَحَ به الأرضية .. ولم تكنْ يدُه تجرني .. لقد كان يحملني من عروة قميصي حمْلًا بيدٍ واحدةٍ .. ويتجه بي إلى غرفتي ..وركضَتْ أختي لتلحقَ بنا .. ولكنّ باب غرفتي كان قد فتِح ، وحُمِلْتُ إليها ، ثم أغلق .. قبل أن تلحق بنا أختي ومعها أمي اللتان ظلتا تطرقان البابَ ، وتتوسلان له أن يصفح عنّي ..

على الجهة الأخرى من البابِ ، كانَتْ كوابيسي كلّها تتجسد أمامي .. هذا الغضب الحيواني الذكوري .. سخطًا على ملابسي؟ .. وهذا التهديد بالعنف .. وهذا الخوف مما سيحدث لي بعد قليلٍ .. والخوف مما سأفعله بعدما يحدث لي ما سيحدث لي .. هل سأعتذر ؟ .. هل سأكفر بمبادئي تحت إقناع القوة ؟ .. أين ( راتشيل مادو ) لتدافع عنّا عندما نحتاجها ؟ 

- « ( بابا ) .. هل لي أن أقولَ شيئًا أخيرًا ؟  »

عيناه تلمعان بالغضبِ :

- « لن يدفع عنكِ ذرةً من عقابكِ  »

- « أنا فخورٌ بأنني امرأة .. وفخورٌ بأنني أدافع عن حقي في ارتداء ما أشاء في هذا المجتمع الرجعيّ  »

أعتقد أنه كان يهيِّئ نفسَه لتجاهل اعتذاري وتوسلي ، فلما سمع ما ليس اعتذاراً ولا توسلًا ، بل تحديًا وإصرارًا .. ارتبك للحظة .. ثم تمالك نفسَه .. فنزعَ غضبَه وسلّمه لجدول الضربِ .. وتسلمه من الجهة الأخرى مضاعَفًا مراتٍ ومراتٍ ... وأعاد ارتداءه ؛ الآن أرى كوابيسي وكوابيس الآخرين جميعاً ..

أعتقد أنني على بعد شعرةٍ من أن أتسبب له في سكتة قلبية ، فلأستمرَّ إذن :

- « وبالمناسبة فأنا مثلية الجنس ؛ أو ما يسميه المجتمع الرجعي شاذة أو سحاقية أو أيًّا يكن .. إنني أميل إلى النساء ، وليس إلى الذكورِ .. وبما أنك موشكٌ على قتلي ، فلا أقلَّ منْ أن تدركَ الحقيقةَ كاملةً : لا يوجد شيءٌ أبغضُ عندي مما تمثله أنت ؛ الذكورية الهمجية البطريركية المتخلفة  »

لماذا لم يبدأ في الهجومِ بعد ؟

هناك شيءٌ غيرُ منطقيّ فيما يجري ، من المفترض أن أكون ميتةً الآن ! فلماذا لا يحدثُ شيءٌ ؟

لم يستغرقِ الأمرُ كثيرًا حتى بدأتُ التفكيرَ فيما جرى ويجري ، وتكشف لي ما فيه من إغراقٍ .. ثم زال كلُّ شيءٍ ، وبدأ إحساسي بجسدي وبكل التفاصيل من حولي يعودُ لي :

العرقُ يغطي جسدي ، ويتسبب في التصاق عباءة النوم بي في لزوجة مقيتة.. صوتُ المروحةِ الرتيبِ يغري نبضاتِ قلبي بأن تهدأ وتجاريه ... ضوء الصالة المتسرب من تحت الباب يزيد من شعوري بظلمة الغرفة ... صياح الديكة المؤذنة يخترق خصاص النافذة نشيدًا وطنيًا للسلام والدعة...

يا له كابوسًا !

على الأقل لقد خرجْتُ من الخزانة _ كما يقول الرفاق في الولايات المتحدة _ واعترفْتُ لأبي بمثليتي الجنسية - في المنام .. بقي أن أفعلَ ذلك في اليقظة ، لأعرفَ كيف كان لينتهي الكابوسُ .. أعتقد أن أبي من النوع الذي يقتل باستخدام ماء النار ، وليس من هواة الضرب بالسيف أو الإلقاء من مبنى مرتفع ؛ هذا يستدعي قدرًا من الصراحةِ مع النفسِ ..لا يملكه في المعتاد مَنْ نشأ متقلقلاً بين الرجعية والتقدمية الزائفة ...

كانَ النومُ لا يزالُ في متناول يدي ، والليلة يليها يوم دراسة ، فلم أشأ أن أضيع فرصة العودة السريعة للنوم ، ثم أجاهد بعد ذلك لفترة طويلة حتى أنام .. فرجعْتُ للتمدد في فراشي .. ومحاولة تصفية ذهني من آثار ما بعد الكابوس  ؛ لا تفكري في شيءٍ .. لا تفكري في عدم التفكير في شيءٍ ... لا تفكري في لزوم الدورِ ...تبًّا ! الآن طار النومُ رسميًّا !

 سيكون الغدُ مُجْهِدًا !

******
2- تباطؤ
-------------------------------------------------

هذه الغرفة لم تصمم لتسع كل هذا العدد من الأشخاص ؛ مشاريع الدكاترة ! .. الكراسات تتأرجح في أيدي أصحابِها طلبًا لتحريك الهواء باتجاه الوجوه المحتقنة .. ولكنْ مع التهام ستين فردًا لهواء الحجرة الضيقة .. لا يبقى الكثيرُ من الهواء ليحرَّكَ !

- « متى ستأتي بسلامتِها ؟ »

إحدى الزميلات تسأل .. ولا يجيبها أحدٌ ... في المعتاد يكون هؤلاء المعيدون أكثر التزاماً بالمواعيد من الأساتذة الجامعيين ، بل من الطلاب أنفسهم .. ولكن لعله طرأ طارئٌ .. والنتيجة أننا بانتظار مجيء المعيدة لتبدأ الدرس العملي الذي يفصلنا عن العودة لبيوتِنا ..

وأنا لمْ أنمْ بما فيه الكفاية البارحة .. وجفناي يزدادان ثقلًا ثانية بعد ثانية .. لحسْنِ الحظ أننا في الصيف .. لو كان هذا شتاءً .. وكانتْ حرارةُ الغرفةِ دفئًا .. لغلبني النعاس رغم أنفي ..

متى ستأتي تلك المرأة ؟!

- « لو سمحتم يا دكاترة .. لو سمحتم .. فلننتبِهْ قليلًا »

من هذه الحسناء التي تأمرنا بالانتباه ؟ .. النوم يتزحزح .. ليفسح المجال أمام عيني للتحديق بالفتنة التي دخلَتْ للغرفة لتوِها ... إنها على وشك الكلام مرة أخرى بعد أن التفتَتْ إليها العيونُ :

- « الدكتورة (منال) تعتذر عن الحضور .. وكان من المفترض أن يلغى الدرس العملي .. ولكني سأحل محلّها حتى لا تتأخروا عن بقية زملائكم   »

الغمغمات الغاضبة ... حسنٌ قولُ (نعم) من بعد (لا) ، وقبيح قول (لا) بعد (نعم) .. وهي بدأتْ بذكر غياب ( منال ) .. فتمنت النفوس أنْ ينتهي العذاب سريعًا .. ثم قالَتْ ( لا ) للنفوس الطامحة للعودة لبيوتِها .. فوأدتِ الأملَ الوليد .. ليس بالنسبة لي على أية حالٍ .. فقد كنْتُ في شغلٍ بوجهها عن الدرس وعن العودة للمنزل .. بل وعن النوم نفسه الذي كان يلح عليّ إلحاح الدائن البخيل قبل قليلٍ ..

- « حسنًا .. أنتم لا تعرفونني .. أنا لست معيدة في قسم نظري .. ومن ثم فأنا لا أمارس التدريس ..   »

صوتُها يخفتُ في أذني بينما تتولى عيني إشغال عقلي برسائل متسارعة عن كل ذرةٍ من جسدها وملابسِها تطولها عيناي .. كانتْ تشرحُ للعيون المتضجرة .. وعيناها تقولان أنها أكثر استياءً منهم بسبب هذا الظرف الطارئ .. ولكنْ في النهاية هي في موضع القوة .. ويُنْظَرُ إليها على أنها هي من تجبر الحشد على البقاء بعدما ظنوا أنّ بوسعهم المغادرة ... ومن ثم فقد صارت البطلة الشريرة لهذا الفيلم رغم أنفها ..

 وقد أكسبَتْها هذه النظرات العدائية الموجهة إليها من "الدكاترة" الصغار سلوكًا عدائيًّا مقابلاً ؛ فلكل فعلٍ رد فعل مساو له في القوة ، مضادة له في الاتجاه ... وأواه  من الجمال الذي حل بها لما اكتسبَتْ تلك العدائية التي يبدو أنها ليسَتْ من طبيعتِها ؛ هذه المرأة فتاة أحلامٍ تجسدَتْ في دنيا اليقظة سهوًا .. ولكنها غاضبة وغضبُها موجه علينا ؛ لو كانَتْ مدرسة في المرحلة الابتدائية ، ورأتْ هذا التململ من طلابِها لكان رد فعلِها أن تعاقب أحد الطلاب لتنهى البقية عن هذه الغمغمات والاعتراضات الصامتة .. ويبدو أن كوننا في العشرين من عمرِنا ، وكونها طبيبة لا معلمة .. لم ينهَها عن استعمال أسلوب المرحلة الابتدائية ذلك ، وعلى مَنْ وقع عقابُها الذي أرادَتْ به أن يكف البقية عن لغطهم ؟ .. بالضبط ؛ عليّ أنا :

- « أنتِ في أقصى اليمين ، ما الذي قلْتُه قبلَ قليلٍ ؟  »

الأصابع تتطاير لتشير كل منها إلى صاحبتِها استفساراً عما إذا كانتْ هي المعنية بهذا السؤالِ ... ولكنّي أعلم أنّ هذه المحنة نازلةٌ بي أنا لا بهنّ :

- « لا ، الدكتورة التي لا ترتدي غطاءً للرأس  »

كانتْ الدفعةُ كلّها فيها اثنتان فقط ينطبق عليهما هذا الوصف ؛ وإحداهما في مجموعة أخرى !

- « المعذرة ، لم أكن منتبهة  »

لقد كنْتُ منتبهة ، ولكنْ ليس إلى ما تقولينه ، بل إلى كل شيءٍ آخر يتصل بكِ ؛ لقدْ كنتُ مفرطة الانتباه إليكِ حتى إني غفلْتُ عن كلامكِ .. هل هذا عذرٌ مقبولٌ ؟

- « حسنًا ؛ أنا أعرف أنكِ تريدين الانصراف ، أنا نفسي لستُ مستمتعةً بإعطاء هذا الدرس .. أنا لا أستمتع بضجركِ ، ولكنْ بقية زملائكم في المجموعات الأخرى سيشرح لهم هذا الدرس هذا الأسبوعَ ، ولو تأخرْتمْ عنهم فسيضطربُ جدولُ الدروس العملية في حقكم .. لذا رجاءً ركزي معي حتى نفرغ بسرعةٍ ، فتنصرفوا بسرعةٍ ..  »

لم يكنْ هذا الكلامُ موجهًا لي .. لقد كنتُ وسيطًا يمر من خلاله التقريعُ لبقية الزملاء .. ولمْ أدرِ كيف أجيبها ، ولكني غمغمْتُ في حياءٍ :

- « آسفة ! »

وخيل إليّ أنها شعرَتْ بالذنبِ لأنها خصتني دون البقية بدون سببٍ .. ولكنْ هذا ما يفعله المدرسون. أليس كذلك ؟ .. نكِّل بمنْ تتاح لك فرصة التنكيل به ليرعوي البقية ؟ .. على المستوى الشخصي فأنا كنْتُ أشعر بالذنب فعلًا ، ليس بسبب انشغالي عما تقوله ، بل بسبب ما دفعني للانشغال عما تقوله .. لو اطّلعَتْ على ما يجول في ذهني الآنَ ، لدفنَتْني حيّةً .. من حق كل إنسان ألا يفكر فيه أحدٌ بهذه الطريقة .. ولكني كنتُ أغالبُ النومَ .. وقدرتي على ضبط نفسي تتلاشى شيئًا فشيئًا ، وهي حسناء بعنف ؛ حسناء بتطرف ؛ جمالها هو ..

- « شيءٌ لا يطاق ! »

واو! .. العيونُ تحدق بي .. الغمغمات المؤيدة تتعالى من أفواه الزملاء .. لقد صرْتُ زعيمةً للثورةِ !! .. أنا التي لا تتمنى شيئًا أكثرَ من البقاء لأطول فترة ممكنة مع هذا الملاك ، يُظَنُّ بي أنني راغبة أكثر من غيري في الرحيل! .. ولكنني لا أستطيع البوح برغبتي في البقاء بدون ذكر أسباب تلك الرغبة ، ولا أستطيع ذكر أسبابها دون "الخروج من الخزانة " والدخول في السجن ، ربما !

- « ما الذي قلْتِه ؟! »

- « الحرارة مرتفعة للغاية ، إنها لا تطاق .. هل يمكن أن نفتح البابَ ! »

لم تبدُ مقتنعةً .. إنها تعلم أنني لا أعني الحرارةَ .. في الواقع أنا أعني الحرارة ، ولكنْ الحرارة التي تبقى في الشتاء كما هي في الصيفِ .. ما الذي سيفعله فتحُ البابِ بتلك الحرارة !

بدا أنها تزن خياراتِها ؛ هل تقرِّعُني ؟ .. هل تتجاوز الأمرَ وتقبلُ العذرَ الساذجَ الذي سقْتُه ؟.. هل تتجاهل ردي وتستمر في الشرحِ ؟.. ثم رأتْ أن تأخذ خيارًا راديكاليًّا ، إن السلطة تستخرج الأسوأ في الناس ، كما يقول السادة الأناركيون :

- « قفي لو سمحْتِ »

ماذا ؟ .. هل ستوقفني بقية الدرس العملي ؟! .. الهمسات والضحكات الخافتة تصلني وتزيد من شعوري بالخزي .. ليس الخزي بالضبط .. شيءٌ آخرُ لو وصل إلى نهايته لشعرْتُ بالخزي والعار .. والبلل !

وهأنذا واقفةً بين يديكِ .. على مرأى الناس ومسمعهم .. مقرّةً بخطيّتي .. أرقبُ عقوبتي التي توشك أن تتشكل كلماتٍ صادرةً عن فمكِ العذب .. لو طلبْتِ أن ألقي نفسي في النارِ لفعلْتُ .. لو أرَدْتَ أنْ -

- « اذهبي لنهاية الغرفة وقابلي الجدار وارفعي يديكِ فوق رأسكِ »

حسنًا .. ربما يكون الإلقاء في النار أفضل ! .. أعني إن الهمهمات الهازئة والنظرات الساخرة تكاد تسلقني حرارتُها .. ومع ذلك فالحرارة الكبرى ناشئة عن أسباب داخلية لا خارجية .. هذا بالضبط ما أحلم به .. جمالُكِ .. سيطرتُكِ .. عقابُكِ .. كيف لي أن أتمالك نفسي ..

- « هل أنتِ جادة ؟ »

- « أو ضعي بطاقتكِ الجامعية وانصرفي .. الخيارُ لكِ »

أيَّ خيارٍ يا سيدتي ومليكتي ! .. كل ما أتمناه قد جُمِع لي .. وأنتِ تهدديني حتى أقبلَه ؟ .. هذه الدنيا الهازلة !

أنحّي الكرسيّ لأتمكن من تنفيذ طلبِها .. فتواسيني زميلة أو زميلتان بعينيهما .. علام المواساة ؟ .. هذا ما أتمناه ..

ثمّ أزحزح قدميّ جهة نهاية الغرفة ..

واو ! .. هذه العملية تبدو أسهلَ بكثيرٍ متخيلةً عنها واقعيةً .. صوت الخطواتِ التي تتبرأ من صاحبتِها وكأنها خطواتِ شخصٍ آخرَ تطرق أذنيّ .. الشعور الحارق باختراق نظراتِ العيون لظهري ، أكاد أشعر بالوخز الناتج عن تلك النظرات ..
الجدار الذي لا يقترب على الرغم من المشي إليه .. الجدار الذي يهرول مسرعًا تجاهي ليعجل بالعقوبة .. الرغبة الحارقة في أن تنشق الأرض وتبلعني .. الرغبة الحارقة في ألا تفعل ! .. إن النفس الإنسانية متاهة ، وأنا ضائعة في متاهة نفسي ..

ماذا الآن ؟ .. الجدار يستقر أمامي أو أنني أنا مَنْ استقرَّ أمامَه .. إنه باردٌ بالنسبة لحرارة الغرفة .. هل ألتصق به بالكلية ؟ .. هذا سيظهر المزيد من الطاعة .. أنفي يلامس الطلاءَ .. من أجلكِ يا مليكتي .. الحرارة تزداد في أماكن لا يصح تسميتها .. على الأقل لا تصح تسميتها بالعربية .. إننا نذكر أسماءَها اللاتينية طيلة اليوم ! .. هل تتطلعين إلي يا فاتنةَ الحسنِ ؟ .. هل ترين جمال طاعتي ؟ .. أنا ملكُكِ .. أنا -

- « ويداكِ فوق رأسكِ ! »

هل هذه رنة استمتاعٍ في صوتِها ؟ .. هل هي مستمتعة بهذه السيطرة ؟ .. ثم صوتُ ضحكاتِ الزملاء يصلني ليردني إلى عالم الواقع .. هذه ليسَتْ غرفةً مغلقةً علينا ، ونحن حبيبتان نتبادل الألعاب الجنسية .. لا ، يا صغيرة .. هذه قاعة درسٍ علميٍّ له هيبته واحترامه .. وأنتِ تجاوزْتِ الأدبَ في خطابكِ لـ"مدرستكِ" ، والآن تعاقبين ، ويهزأ بكِ زملاؤكِ ..

هل يفترضُ أن يزيد هذا من شعوري بالأسف ؟ .. إن الحرارة تلتهب التهاباً في تلك الأماكن غير المسماة سالفة الذكرِ .. الحرارة سالفة الذكر تصنع ببروتينات مخي ما تصنعه الحمى ، فتذهب قدرتي على التفكير والتركيز والتمدن والتهذيب ! ... أووووه ؛ إنني أريد لمسَه .. هذا الشعور الحيواني المنحط يملك عليّ نفسي ؛ فأشعر بالخزي .. فيزداد الشعور الحيوانيّ قوةً .. فيزداد شعوري بالخزي .. هذه الدورة ستقضي على كل ما تبقى لديّ من احترامٍ لنفسي .. أووه ، ولكنْ ما ألذّ فقدانَ الاحترام للنفسِ .. على يد ذلك الملاك أسيل الخد مغضب الملامحِ ..

ثم بدأتُ أفطن إلى شيءٍ : لماذا لا يكملُ ذلك الملاك شرحَه .. ردني إلى الواقعِ صوتُ خطواتِ الملاكِ خلفي .. خلفي خلفي .. تكاد تلتصق صاحبتُها بي .. آه ، لقد نسيتُ رفعَ يديّ في خضم انشغالي برجليّ أو بما بينهما للدقة !

يداها الباردتان تقبضان على كفيّ وترفعان يديّ إلى الأعلى ، إنها أطول مني بسنتيمتراتٍ ، فتمتد ذراعاي المقبوضتان إلى منتهاهما ولا زال في ذراعيها القابضتَينِ بعضُ الانحناء .. لو كنْتُ أقابلُها ولا أدابرُها .. لبدا وكأنها موشكةٌ على تقبيلي وقد جمعَتْ يداي في يديها حتى تحولَ بيني وبين الحركة .. تمامًا كتلك الصورة الفاتنة التي صرْتُ أحفظها عن ظهر قلبٍ من فرط تكراري النظر فيها على حاسبي الشخصي .. ولكني أدابرُها .. ولذا فكل ما أراه هو لون الحائط .. ولكني أشعر بكفيها قابضَين على رسغَيّ .. وأشعرُ بأنفاسِها الحارة تهب على أذني فترفع درجة الحرارة وتزيد من الرطوبة وتنذر بهطول الأمطار .. أما تلك الرائحة التي تفعم أنفي فقد أتَتْ على ما تبقى فيّ من عقلٍ .. وعلى الرغم مني أهمسُ برغبتي في لمسها .. في تقبيلِها .. في أكلِها ! .. وفي آخر لحظةٍ أحذف المرجوّ وأبقي الرجاء  :

- « أرجوكِ ! أرجوكِ ! »

فتتصور أنني مستاءةٌ من " العقابِ " ، فتقول همسًا وقد اصطنعتِ القسوةَ :

- « أنتِ مَنْ جلبه على نفسكِ ، فتحملي نتيجة أفعالكِ ! »

فيتحول الترجي إلى صوتٍ لا يصح أن يصدر عن امرأة مهذبة ، ولكني أكظمه في اللحظة الأخيرة قبل أن يغادر شفتيّ ..
ثم يصل إلى أذني صوتُ خطواتِها عائدةً إلى مقدمة الغرفة وقد تركتْني ممدودة الذراعين إلى الأعلى مستدبرةً الجمع - أيقونةً للطاعة والخضوع ..
 ويعود إليّ بعضُ عقلي بعد أن انحسر تشبع الهواء بعطرها الطبيعي الجِبِلّيّ الأنثوي الأخاذ الذي لم يحتجْ إلى عطارٍ ؛ فليس الطبع كالتصنع .. وأفكر فيما أنا فيه .. ويصلني صوتُها العذبُ وهي تكمل شرحَها منغمسةً فيه .. وأنا أواصل تفكيري بها منغمسةً فيها .. إذا كانَ الطبُّ موضوعُه الإنسانُ ، فلماذا لا تشرح عليّ ما تريد شرحَه .. فينغمس كلانا في الآخر ؟ ..
وما عاد إليّ من بقية عقلٍ قد ذهبَتْ به هذه الخاطرة .. ولمْ يبقَ إلا أصواتٌ حيوانيةٌ تخور وتهرّ وتموء وتزمجر .. إنني أريد .. وأريد .. فأسعِفْ يا زمنُ ! .. ولكنّ الزمنَ ينظر إليّ بعينين ناعستين قبل أن يغمضّا ويستسلم لنومٍ عميقٍ .. فتطول الدقائق والثواني حتى تصل إلى اللانهاية.. ويطول وقوفي مشتعلةً بنار الرغبة .. أتمنى ولا أطول .. ثم يفتح الزمنُ عينيه .. ويتمطى .. ويبدأ في الحركة ، رويدًا رويدًا .. ثانيةً فثانيةً .. نقترب من نهاية هذا الدرس العمليّ .. وأخيرًا تصل إلى أذنيّ أصواتُ توقف الأقلام عن الكتابة وانغلاق الكراريس .. ثم صوتُها يصلني :

- « حسنًا ، يا دكتورة ، ارجعي إلى مقعدكِ »

هذا ما خطَّطْتُ له .. لن أرجع إلى مقعدي .. لن أرجع وحدي على الأقلّ ..

يبدو أنها تهمّ أن تنادي عليّ مرةً ثانيةً ، ولكنّ صوتَ أحد الزملاء يسألها عن أحد الأشياء يلهيها عني .. شكرًا لذلك الزميل المجتهد .. الآن تنشغل بالإجابة عليه ، حتى ينصرف الجمعُ ، ثم يشكرُها وينصرفُ .. فتخلو الغرفة لنا .. أو هكذا بدا الأمرُ لي سماعًا .. إذ الرؤية لا تزال مقصورةً على لونِ الجدارِ ..

- « يا دكتورة ، لقد أنهينا الدرسَ ، وانصرف زملاؤكِ ، بإمكانكِ الانصراف »

لعلها  هي أيضًا تريد الانصرافَ .. والعودةَ لبيتِها .. ولكني لن أتخلى عن هذه الفرصة .. وبالرغم من كرهي للكذب وللتظاهر .. فقدْ تظاهرْتُ بالبكاء ، وعلا صوتُ نحيبي المختلق ، وأنا أتظاهر أنني أحاول كبْتَه وخنْقَه .. لقد كنْتُ دائمًا ممثلةً بارعةً ، ولكنْ لاعتباراتٍ أخلاقية لم أكنْ أستغلَّ ذلك .. أما الآن فسأفعل كلّ ما بوسعي لأحظى بما أريد ..

صوتُ زفرتِها الموحية بالأسى ؛ إنها مستاءةٌ من تسببها في بكائي .. الخطة تسير كما أريد .. خطواتُها تقتربُ مني .. هذه المرة أنتظر حتى تكاد الخطواتُ تصلني ثم أبتعد عن الجدارِ بسرعةٍ ، وكأنني أفر منها ؛ خوفًا من أن تراني باكيةً .. وكما خطّطْتُ فإنها تمسك بي قبلَ أن أبتعد عنها .. وقد راعها منظرُ الدموع وصوتُ الشهقات الباكية .. يا لي ممثلةً عبقريةً ! .. ثم تسير الخطة أفضلَ مما توقعْتُه عندما تلقي بي في حضنِها معانِقةً مواسيةً ..

- « أنا آسفة .. أنا فعلاً آسفة .. لقد كان ما فعلْتُه مهينًا لكِ وأنا أعتذر  »

صراحتُها تحرقني .. المسكينة تشعر بالذنبِ .. بينما أنا المخططة لكل هذا - أمثل البكاءَ لأقتربَ منها وأستمتع برفقتِها ولو لدقائق .. الشعورُ بالذنبِ يعتريني ... أهِمُّ في لحظة ضعفٍ بأن أعترف بالحقيقة كاملةً - مثليتي .. جمالها الفائق .. تظاهري بالبكاء .. استمتاعي بهذه المعانقة البريئة من طرفِها .. ولكني أنهى نفسي عن هذا الاعتراف ؛ ليس إلى هذا الحدّ .. نعمْ أنا مذنبة لاستغلالي لهذا الملاك ، ولكنّ اعترافي بذلك لن يزيد الأمرَ إلا سوءًا ..

فلأصْلِحْ ما يمكنني إصلاحُه ، ولأشعرْ بالذنبِ فيما بعدُ .. وأول ما يجب إصلاحُه التخلي عن هذه المعانقة التي تكاد تخرجني من الآدمية وتقترب بي من الوحشية الجنسية الشبقية .. فلنفك هذا التشابك الجسدي أولًا .. ثم لأمسحْ دموعي وأطمئنها أن الأمور على ما يرام ، وأتعلل بأن بكائي هرمونيُّ السبب وليس لها يدٌ فيه - على الرغم من أن هذا عذرٌ ذكوريّ رجعيّ .. ولكنّ الأهمَّ هو تطييبُ خاطرِها ..

فلنفكَّ التشابك الجسدي إذن ! .. أحاول زحزحة ذراعيها لأبتعد عن صدرِها الريانِ - على الرغم من توقي لأن أقضي السنين الطويلة قريبةً منه .. ولكنّ ذراعيها لا يتزحزحان .. فألجأ لتطييب خاطرِها أولًا :

- « لا مشكلة ، إنني في تلك الفترة من الشهر .. لا علاقة لكِ ببكائـ - »

- « وأنا أيضًا ! »

وأنتِ أيضًا ماذا ؟ .. أوه ! .. أكاد أفكر في أن هذا يفسر إحكامها معانقتي ، وصوتَها الذي يقترب من البكاء هو الآخر .. ولكني أنهى نفسي عن الانخراط في تلك الفكرة الذكورية ..

حسنًا ، هذه المعانقة لا تزال قائمةً ، وقدرتي على ضبط نفسي تتناقص ثانيةً فثانيةً .. أحاول التفكيرَ في شيءٍ آخرَ :

- « لقد كان شرحًا رائعًا ما قمْتِ به .. من سوء حظنا أنكِ لستِ معيدةً في هذا القسـ  »

صوتُ بكائها يقاطعني .. وكأنها ترغب في بقاء الحوارِ حول اعتذاراتِها وتطميناتي .. فأعود للتطميناتِ :

- « بالفعل لا توجد مشكلة ، لا داعي للبكاء يا دكتورة ، لقد كانَتْ مبالغةً من قِبَلي ، إنني آسفة عليها »

صوتُها الباكي يردّ عليّ :

- « ولكنكِ كنْتِ تبكين ، لقد تسبَّبْتُ في بكاء شخصٍ بالغٍ بسبب جنون القوة أو جنون السلطة أو أيًّا يكنْ ما شعرْتُ به .. »

هل أصارحُها ؟ .. ربما ، ألمِّح مزاحًا :

- « إن البعض قد يرغب في التعرض لجنون السلطة هذا ؛ ما يدريكِ لعلي من هذا البعض ! الناس وغرائبياتهم ؛ مصائب قومٍ عند قومٍ فوائدُ »

التشابك الجسديّ ينفكّ ..
 هل أفرَطْتُ في التلميحِ ؟ ..
عيناها محدقتان بعينيّ .. وفيهما تساؤلٌ .. ولكني لا أعرف ماهيتَه ..
هل أفرَطْتُ في التلميح ؟ ..
 العينان تقتربان مني وكأنهما باقترابِهما يزدادان قدرةً على سبرِ أغواري .. وجهُها كله يطرح سؤالًا لا أدري كنْهه ..
 هل أفرَطْتُ في التلميحِ ؟ ..
العينان تقتربان بصورةٍ مخيفةٍ .. وانشغالي بهما ألهاني عن الشعور بشفتيّ المنضغطتَين .. كأنّ أحدًا قد وضع إصبعه عليهما .. هذا ليس إصبعًا ! ..هذان هما شفتاها ..
 أوووه ، لقد أفرطْتُ في التلميحِ ! ..

الشفتان تنفرجان هنا فتنفرج الشفتان هناك ..
اللسان يستكشف الفم الجديد الذي لم يرَه من قبلُ ، فيرد اللسان الآخر المعاملةَ بالمثلِ ..
العيون الأربعة تغمضّ لتتيح لسائر الأعضاء المزيدَ من الخصوصية  .. فتنزع سائر الأعضاء رداءَ الحياء وتعربد في مائدة الجسد الآخر .. مسحًا وعركًا وفركًا وقبضًا واحتكاكاً .. ما هي الـ " فنكشن " من هذه العملية ؟ .. لنرجُ أن تكون جزئية الـ " فنكشن " هذه عليها القدر الأقل من الدرجة ، لأنه لا يبدو أنني أعرف لها جواباً .. بل حتى المعيدة نفسها لا تعرف كيف تجيب عليها !

فجأة يبدو أننا قررْنا جميعًا أن نبطئ الرتم قليلًا .. لنمرّ على عجلةٍ على أمورٍ فائقة الأهمية ، وبدأتُ أنا _ من بين القبلات والقبضات _ :

- « أنا لم أحصلْ على موافقة صريحةٍ .. هل أنتِ موافقةٌ - »

- « نعم ، وأنتِ ؟ »

- « نعم ! »

تقبلني قبلةً عميقةً ، وكأنها مسرورة بهذه الموافقة الشفهية التي هي في الواقع تحصيل حاصلٍ بعد كل تلك القبلاتِ .. ثم يأتي دورُها لتتحدث عن شيءٍ أهمّ من الموافقة حتى بالنسبة لمجتمعنا هذا :

- « إن العاملَ على وشكِ أن يأتي -  »

- « نعم ، مكان آمن ؟ »

- « لا أدري ، إن شقتـ - »

- « الحمامات أقرب .. دعيْنا نذهبْ هناك »

أحاولُ تقبيلَها ، ولكنَّ اقترابَ صوتِ الخطواتِ التي لا بد أنها خطواتُ العاملِ يوقفني في مكاني .. ثم يأتي صوتُ صاحبِ الخطواتِ :

- « هناك أحدٌ هنا ؟ .. أوه المعذرة يا دكتورة ، هل لا يزال الدرسُ مستمرًّا ؟  »

- « لا ، لقد كنْتُ أجيب على سؤالٍ طويلٍ للدكتورة ، وانشغلْنا عن الوقتِ .. سننصرفُ الآن  »

كانتْ عينا العامل لا تزال معلقتَينِ بنا ، ثم فطنْتُ أنَّ يدها لا تزال محيطةً بخصري ! .. تبًا ! .. عليّ أنْ أقولَ شيئًا :

- « هذا هو المكان الذي كانَ يشكو من آلامه ، ليس من المحتمل أن تكون العلة هي الـ " كيدني " أليس كذلك ؟  »

فطَنَتْ المعيدة لما يحدثُ من إمساكها خصري ، فسألَتْ في تلقائية :

- « هل كان الألم مرتبطًا بوجعٍ في الـ " تستكلز " ؟  »

كدْتُ أقهقه رغمًا عني ، ولكنّ العاملَ لحسنِ الحظّ كان قد أشاح بوجهه عنا ، وبدأ يغلق النوافذ ويطفئ المصابيح والمراوح .. فكاتمْتُ الضحكة ، ونظرَتْ هي إليّ في تظاهرٍ بالتهديدِ ؛ إياكِ أن تضحكي ، فتفضحينا ..

- « لا ، لم يكنْ للألم علاقةٌ بالـ ..  »

كان من الصعبِ ألا أضحك ، ولكنّ نظرةَ النهي والتهديد في عينيها العسليتين الفاتنتين ، قد حوّلَتْ مشاعري من الضحكِ إلى شيءٍ غير لائقٍ أن يحدث أمام العاملِ .. الذي كان قد أنهى ما يفعله ولمْ يبقَ سوى إغلاقِ البابِ ، فسأل :

- « شيءٌ آخرُ يا دكتورة ؟  »

- « لا ، سننصرف حالًا .. حقيبتكِ ؟ »

- « آه ، سآتي بها ! »

كنْتُ قد انشغلْتُ تماماً عن حقيبتي وعن كتبي .. من يهتمّ بالكتبِ عندما يكون الدرسُ عمليًّا ؟ .. وفي ثوانٍ كنْتُ قد ذهبْتُ لمقدمة الغرفة وأدخلْتُ ما يخصني في جوف الحقيبة ، وعدْتُ مسرعةً للباب .. حتى يغلقه العاملُ ورائي .. وبدا وكأنه يستجمع شجاعتَه قبل أن يسأل الدكتورة في حياءٍ :

- « لا مؤاخذة يا دكتورة ، ولكن السؤال الذي سألَتْه الدكتورة لكِ في المعمل .. أنا أيضًا أشعرُ بآلامٍ في تلك المنطقة ، هل هذه مشكلة في الكلى ؟  »

لم يكنْ يعبثُ قطعًا .. ملامحه شديدة الجدّ .. ولكنْ من الصعبِ أن تتجاهل السؤال التالي ، ومن الصعبِ عليّ أنا أنْ أمسكَ نفسي ، وعندما سألَتْه :

- « هل الألم يرتبط به وجعٌ في الـ - »

كنْتُ قد انفجرْتُ ضاحكةً على الرغم مني .. ثم فطَنْتُ للألم الصادر من عيني العاملِ البسيطِ .. لقد شعر أنني أهزأ به .. فأقبلْتُ أعتذرُ :

- « أنا آسفة .. أنا آسـ - »

- « انتظريني خارج القسم لو سمحْتِ يا دكتورة »

كان صوتُها صارمًا .. لا مزاحَ في الاستهزاء بالبسطاء بالطبع .. ولكني لمْ أتعمَّدْ ذلك .. ثم رأيْتُ أن أطيعَها ، فانصرفْتُ .. وصوتُها وهي تعتذر من العامل وتجيب عليه يخفتُ شيئًا فشيئًا بينما بابُ القسم يقترب مني .. ويوازيني .. ثم يبتعد لخطواتٍ .. قبل أنْ أتوقفَ وأنتظرَها في مكاني .. وخاطرةٌ تشغل عليّ ذهني : هل ستعاقبني على ما فعلْتُه قبلَ قليلٍ ؟ ..
كانَتْ قد فرغَتْ من ردِّها على العاملِ ، وبدأتْ في السيرِ نحوي .. هل ستعاقبني ؟ .. كم أتمنى أنْ تفعلَ

***********

عندما وازَتْني غمغمْتُ :

- « أنا آسفة لم أقصد أن أسيء إليه »

- « لا مشكلة .. أنتِ لم تقصدي ، وأنا لسْتُ مصابةً بـ"جنون السلطة" حتى أعاقبكِ على شيءٍ لم تتعمديه ! »

أوه ، هكذا إذن ؟ .. كلانا عالمٌ بما يحدث هنا :

- « وماذا إذا كنْتُ متعمدةً ؟  »

ابتسامتُها هي أجملُ شيءٍ على ظهر الأرضِ ، وفي بطن السماء ، وفي الكون الواسعِ بأرضه وسمائه .. وهي تبتسم على ردي العابث ! .. يا ما أحسنَ حظي .. وأسعد طالعي .. ثم جاء ردُّها ليزداد حسنُ حظي أضعافًا :

- « ربما نكون قد انغمسْنا في اللحظة ، فتجاهلْنا المقدماتِ .. أنا لا أعرف اسمكِ حتى ! .. ولا أريد أن يكون هذا .. »

بدأتْ تحرك يديها ، وكأنها تبحث عن كلمة مناسبة ، وتمنَّيْتُ أن أسمع كلمةً بعينِها ، فجاءتْني :

- « شيئًا عابرًا ! .. إلا إذا كان هذا ما ترغبين فيه  »

- « هل تمزحين ؟ إنني أرغب في العيش معكِ الآن إذا أمكن ! ... أعني أنا لسْتُ من هؤلاء المجنوناتِ بالطبع .. ما عنَيْتُه أنني أرغبُ في .. في .. إعطاء هذا الأمر فرصةً ليكون شيئًا أكبرَ .. إذا .. إذا رغب الأطراف في ذلك »

ابتسَمَتْ لتلعثمي ، فازددْتُ هويًّا في بحرِ عشْقِها .. لقد انتهى الأمرُ بالنسبة لي .. معها برضاها .. أو معها في خيالي .. لن يشغل أحدٌ غيرها مكانًا من قلبي .. ولكنْ عليّ أن ألعبَ دورَ الراسخة المتئدة .. كذلك علمَتْنا الأفلام الأمريكية ! ..
 ثم قالَتْ همسًا .. وكأنها تستحي من إخباري بسقطتي التي توشك أن تخبرني بها :

- « لا زلْتِ لم تخبريني باسمكِ ..  »

- «  أوه .. (وردة) .. و .. وأنتِ ؟»

كنْتُ لا زلْتُ مترددةً في خطابِها بالضمائر - بدون حضرتكِ أو ( يا دكتورة ) .. ولكنّي تذكرْتُ ما دار بيننا قبل قليلٍ فتغلبْتُ على هذا التردد  .. وقابلَتْني بملامح مرحبة بهذا التبسط ، ولكنْ فيها شبح معابثة توشك أن توقعها بي :

- « ألم أخبرْكِ وزملاءَكِ قبل قليلٍ باسمي ؟  »

عاودني الحياءُ ، وقلْتُ في خفرٍ أعلم عن تجربةٍ أنه يذيب القلوب القاسية :

- « لم أكنْ منصتةً .. آسفة ! »

- « أووه ، إنك تبدين فاتنةً يا صغيرتي ، ولكنّ هذا لن يمرّ بدون عقابٍ أيضًا .. على أية حالٍ : اسمي ( هند )  »

ظل الحوارُ واقفًا بعد ذلك لفترةٍ وهو يبتسم على ابتساماتِنا التي نتبادلُها ، ثم شعر بأنّ مشاعرِ هاتين الفتاتين العاشقتين فوق قدرتِه على التحمل ، فعاد للعمل :

- « هل .. موضوع .. الحمام هذا ..   »

كنْتُ أعلم أنّ هذا سيكلفني عقاباً ثالثًا .. ولكني لم أجدْ شيئًا آخرَ أسأله ..

- « هناك نوعان من الفتيات .. نوعٌ تعاقبه حبيبته عندما يخطئ _ كما فعل للتو _ في غرفة نومٍ .. وينتهي الأمرُ بالمعاقِبةِ والمعاقَبةِ مستغلتَين لإمكاناتِ غرفة النومِ .. والنوع الآخر يكتفي بالحماماتِ  »

كانَتْ ابتسامتُها العذبةُ فوق قدرتي على الاحتمالِ .. إن ما أريده عاجلٌ وملحٌّ وغيرُ قابلٍ للتأجيلِ .. ولكني أرغبُ في أن أكونَ من النوعِ الأولِ :

- « حسنًا سأكون فتاةً مؤدبةً وأصبرَ ، وسأتلهى بشيءٍ آخر في الوقتِ الراهنِ  »

كان التلميح أقربَ إلى التصريحِ ، فجاءني صوتُها العابثُ :

- « " أتلهى بشيءٍ آخرَ " ؟  »

عاودني الخجلُ رغمَ أنفي .. فاحمرّ خداي ، وعلى الرغمِ من خلوّ الممر الذي نقف فيه من الناسِ ، فقد شعرْتُ بالخوفِ من أن يطلع علينا أحدٌ عندما مالَتْ على خديّ وقبَّلَتْهما ، وقالَتْ :

- « صدقيني لو وضعْتِ نفسكِ مكاني لكان الصبرُ أشقَّ وأصعبَ عليكِ ، أنتِ لم تري جمالكِ من منظورٍ خارجيٍّ من قبلُ .. وبالمناسبة : غير مسموحٍ التلهي بأي شيءٍ بدون إذني ؛ لا يدكِ ولا يدُ غيركِ مسموحٌ لها بأن تقترب من هذا .. هذا ملكي أنا وحدي !  »

كانَتْ قد قبضَتْ على "هذا" بيدها بينما ترسم لي حدودَ ما يجوز وما لا يجوز في غيبتِها .. فكدْتُ أن أفقد قدرتي على ضبط نفسي ، وأعاود اختيارَ الحمام ، وليكنْ ما يكونُ .. ولكني لجأتُ للتوسلِ :

- « أرجوكِ ، أنا لا أعرف متى سألقاكِ مرةً أخرى ، على الأقل حددي لي عددًا لا أتخطاه »

ابتسمَتْ في معابثةٍ .. يبدو أنّ جنون السلطة هذا سيصل أبعدَ مما خطَّطْتُ له :

- « عددًا لا تتخطينه ؟ .. إنكِ لا تدركين ما أنتِ مقدمةٌ عليه يا صغيرة ..   »

ثم بدأتْ في رفعِ أصابع يدِها لتعدّدَ لي المحظوراتِ :

- « واحد : لا "تلهٍ" بأي شكل تحت أي ظرفٍ بدون إذني .. وإذا أذنْتُ لكِ فعلى الأغلب سيكون ذلك بيدي أنا ... اثنان : يوميًّا ، قبل أن تنامي سيتوجب عليكِ أن تتلقي اتصالاً مني سأوسعكِ فيه وعودًا تفصيلية بكل ما أنوي فعلَه بكِ .. بتفاصيل التفاصيل .. وبدون حياءٍ ولا تورياتٍ .. ثم بعد ذلك ستكون مسئوليتَك أنتِ أن تنامي بدون أن تجدي " شيئًا تتلهين به " .. ثلاثة : لا أحدَ غيري .. وأنا أعني ذلك حرفيًّا .. لو كنْتِ تشاهدين مسلسلاً في التلفاز أو مرَّتْ بكِ فتاةٌ في الطريقِ وراقكِ حسنُها .. مباشرةً ستغلقين عينيكِ أو تشيحين ببصركِ عن تلك الفتاة الحسناء .. وإنْ جال بخيالكِ خاطرةٌ أو فكرةٌ عن أحدٍ غيري ستمتنعين مباشرةً عن التفكيرِ فيها   »

وجدْتُ أنّ علي مقاطعتَها لأستفسر .. ولكنْ بالدرجة الأولى لتكفّ عما تقوله قبل أن أصلَ إلى نقطة اللاعودة ، وألجأ للحمام - بيدي أو بيد عمرو .. :

- « من أينَ ستعرفين أنني فكَّرْتُ في غيركِ ؟ »

- « أنتِ ستخبرينني ، لا تتوهمي أنّ نفسَكِ ستناصرُكِ وتخفي سرَّكِ عني ، إذا طلبْتُ منكِ شيئًا فستجدين نفسَكِ عونًا لي عليكِ ..  »

كان هذا كبرًا مقيتًا في غير هذا الموضع .. ولكنْ في الحقيقة إنها محقة : أنا لا أجرؤ على الكذبِ عليها .. ليس بعدَ ما بدا لي منها ؛ إنها منْيتي من الدنيا ، وقد أتيحَتْ لي في اليقظة لا في الخيالِ ، فكيف أعصي لها أمرًا ؟

ثم لما رأتْ ذهولي عما حولي ، وأنا أفكر في صدقِ ما قالَتْه ، أخرجَتْ من حقيبتِها ورقةً وقلمًا ، ففطِنْتُ لما تنوي صنْعَه ، فأخرجْتُ هاتفي المحمولَ ، ولكنها قالَتْ :

- « إنني أرغبُ في الصورة التقليدية للأمور ، قبل اختراع الهواتف المحمولة ، كانَتْ الأرقام تتبادل في صورة ورقية ، وتخفيها الفتاة في تجاويف الحقيبة ، أو في طيات الملابس خوفًا من انكشاف أمرِها ، ثم تتسلل خفيةً إلى هاتف بيتهم لتهاتف حبيب القلبِ - أو في هذا السياق حبيبة القلب .. وهي تخشى أعينَ أهلها وآذانَهم في كل لحظةٍ .. هذا ما أرغب فيه »

- « هل تريدين أن أتصلَ بكِ من الهاتف الأرضي ؟   »

نظرَتْ إليّ في معاتبةٍ ، وقالَتْ :

- « فقط تظاهري بأن هذا ما يحدث .. وأنّ الورقة التي فيها رقمي مظنة أن تفضح أمركِ عند والديكِ ..  »

- « آه ، سيناريو إذن .. حسنًا ، لا بأسَ  »

نظرَتْ إليّ وهي تسلمني الورقة المحرمة .. ثم قالَتْ وكأنها تخاطبُ نفسَها :

- « ستقضين عليّ بجمالكِ هذا في يومٍ من الأيام  »

واو ! .. الواقع أنني لو كنْتُ مكروهةً منبوذةً من هذه الحسناء لظللْتُ مع ذلك أحلم بها ليلَ نهارٍ ، فكيف وهي تقول في حقي مثل هذه الكلمة ؟ ..
أنا أسعد الناسِ حظًّا !

ثم استدارَتْ وانصرفَتْ ، ولم تخطُ خطواتٍ يسيرةٍ ، حتى كان هاتفُها المحمولُ قد بدأ في الرنين ، فأخرجَتْه وضغطَتْ زر الرد ، وعندما قالَتْ :

- « صباح الخير ؟  من هذا ؟  »

جاءها الصوتُ مضاعفًا من سماعة هاتفِي ، فالتفتَتْ جهتي ، وهي تهزّ رأسَها في عدم تصديقٍ .. ورفعْتُ الهاتف لفمي ثم قلْتُ :

- « المعذرة على الاتصال في وقتٍ غير مناسبٍ ، ولكنّ والدي في الحمام ووالدتي في المطبخِ ، وأردْتُ استغلال فرصة -  »

ضحكَتْ ذاتُ الغمازتين في عتابٍ ، ثم قالَتْ في هاتفِها أيضًا :

- « هذه أربع عقوبات بانتظاركِ يا صغيرتي .. استمتعي بالجلوس في الفترة القادمة فعندما تقع يدي عليكِ في غرفة نومي ، لن تجلسي بعدَها لفترةٍ طويلةٍ »

كان هذا هو الزرّ الأخير الذي يؤدي الضغطُ عليه إلى الانفجار الأعظم ؛ أنا بحاجةٍ إلى هذا الآن :

- « أرجوكِ ! »

- « ماذا ؟  »

- « هل يمكنُ أن تقع يدُكِ عليّ في غرفة نومكِ الآن ؟ أرجوك ؟  »

أنْهَتِ ( هند )  المكالمة ، لتوجه كلامَها إليّ مباشرةً ، وبدا وكأنها تزنُ خياراتِها ، وعندما نحَّيْتُ خوفي من أن أكون نرجسية جانبًا .. فطِنْتُ إلى أنها بالفعلِ تتمالك نفسَها بصعوبةٍ وهي تنظر إليّ .. ثم قالَتْ :

- « لا أريد أن أتسبب لكِ في مشاكل ، إن أسرتَكِ بانتظاركِ  »

قلْتُ في عجلةٍ :

- « إنّ هناك " كورسًا " بعد ساعتين، وفي المعتاد أعود للبيتِ ، وآكل على عجلٍ ، ثم أنزل مرةً أخرى له ، وهذا " الكورس " سيستمر لساعتين ، هذه أربع ساعاتٍ لن يسألوا فيها عني ! »

كانَتْ المشكلة الفعلية هي في غرفة نومِها تلك .. كيف سنذهب إلى هناك بدون علمِ أسرتِها ؟ .. ولكنْ يبدو أنّها واثقة من قدرتِها على تجاوز تلك المشكلة ، فقد أشرق وجهُها عندما قلْتُ ذلك ، وقالَتْ :

- « لا مشكلة إذن ! وإنْ كنْتُ أشكّ في كفاية الأربع ساعاتٍ لفعل كل ما أرغب فيه بكِ ، ولكنّي سأحاولُ ضبط نفسي في الوقت المتاحِ »

ثم أشارَتْ إليّ لأماشيَها .. ففعلْتُ .. كان السيرُ إلى جوارِها ، ونحن مقدمتان على ما نحن مقدمتان عليه .. هو ألذّ شعورٍ مرَرْتُ به في حياتي .. هذا الإحساس بالأمان والسعادة .. بإمكانِ من شاء أن ينظر نحونا ، ولن يفكرَ في أكثر من أننا أختان .. أو صديقتان .. في الواقع نحن أقرب إلى أن نكون زوجتَينِ ؛ بما أنّ القانون يجرم أيَّ ممارسة جنسية خارج الزواج !

- « أنتِ تسكنين مع والدَيكِ ؟ »

كان عليّ أنْ أسألَ , فأجابَتْ مبتسمةً :

- « إنّ أسرتي من محافظة بعيدة .. جاء تنسيقي إلى هذه الكلية قبل عشر سنواتٍ ، وكنْتُ متفوقةً فيها .. فجاء تعييني فيها .. بحكم الأمر الواقع فأنا أسكنْ مع معيدة أخرى مغتربة في شقة صغيرة !  »

هكذا إذن ! .. لأول مرة يبدو أن هناك مكسبًا ما من تفاوت التنسيق للكلية نفسِها في الجامعات المختلفة .. ولكنْ ماذا عن تلك المعيدة الأخرى ؟

- « ماذا عن المعيدة الأخرى المغتربة ؟ »

- «  هذه هي الرواية التي قلْتُها لوالديّ .. في الواقع إنها ليسَتْ كاذبةً تماماً ، لقد كنا نسكنْ معًا لفترة بسيطة في البداية ، ثم تزوجَتْ بعد ذلك ، وبقيْتُ وحدي في تلك الشقة  »

هل ما أشعرُ به هو غيرةٌ ؟ بالطبع لا ؟ ولكنْ ما هذا الشعورُ الممضّ إذن ؟

- « نسكن معاً .. »

كان هذا همسًا ، لا أدري إن وصلَ إلى أذنيها ، ولكنّ ابتسامتَها الواسعة أخبرَتني أنه بلغها ، وقالَتْ في تلذذ بغضبي :

- « لا يمكنكِ تصورَ الأفعالَ التي قمْنا بها سويًّا أنا وتلك المعيدة .. واو ! »

كنتُ أعرف أنها تمزح وتهزل ! ولكنّ ملامحَ وجهي قد قررَتْ أن ما تقوله جدٌّ ، وتشكلَتْ على هذا الأساس ، لا بد أن منظري بدا مرعبًا ، لأن ( هندًا) تداركَتْ بسرعةٍ ، وإن ظلّ في صوتِها بقيةٌ من استمتاعها بغيرتي :

- « أنا أمزح بالطبع ، لم يكنْ بيننا شيءٌ إطلاقًا .. لا أعتقد أنها تفهم معنى المثلية أصلًا  »

لا زالَتْ ملامحُ وجهي على شكِّها ، وأسرَّتْ تلك الملامحُ إليّ أنْ أسألَها شيئًا ، فسألْتُها :

- « ولمْ يكنْ هناك شيءٌ من طرفك ؟ أو أشياء ظاهرها البراءة ؟ .. على غرار : " أنا أشعر بالإعياء ، هلا دلكْتِ لي ظهري " أو : " كيف أبدو في هذه المنامة ؟ " أو غيرها من السلوكيات المنحرفة ؟  »

سلوكيات منحرفة ؟ .. يبدو أنني من النوع الذي يغار فيفقد قدرتَه على التفكير بعقلانية .. ولكنْ بدا أنها مستمتعة بهذه الغيرة الغاضبة ، فقالَتْ وهي تضحكُ :

- « مرةً واحدةً أصيبَتْ بنزلة بردٍ ، وبدا لي منظرُها جالبًا للشفقة ، ولكنها شفقة صديقتين ، لا حبيبتين .. لا تخافي أنتِ أولُ فتاةٍ واقعيةٍ تثير اهتمامي .. عندما قلْتُ في شروطي قبل قليلٍ أنه : لا أحدَ غيري .. كان هذا اشتراطًا يلتزم به الطرفان  »

كان هذا مطَمْئنًا ، ثم أرَدْتُ أن أكسبَ شيئًا من وراءِ هذا الحوارِ :

- « ماذا عن شرط " عدم التلهي بشيءٍ " ذاك ، هل هو مما يلتزم به الطرفانِ ؟ »

نظرَتْ إليّ وقد عاودها " جنون السلطة " إياه ، وقالَتْ  :

- « لكِ عندي ألا أشرك معكِ غيركِ في ملكية قلبي .. ثم ليس لكِ أكثرُ من هذا .. والعكس غير صحيحٍ .. كل شيءٍ فيكِ لي أنْ أقضي فيه بما أشاء .. ما لمْ ترفضي بالطبعِ ، ولكني لا أعتقد أنكِ سترفضين  »

لنْ أرفضَ .. هي تعلم أنني لن أرفض .. وأنا أعلم أنني لن أرفض.. فلنرجُ أن تكون بي رفيقةً ، وألا تقسو عليّ ، ولكنّ " عدم التلهي " هذا هو قسوةٌ في حد ذاتِه ..

وقبلَ أن أعيد الإلحاح في هذه النقطة ، جاءني صوتُ انفتاح مغاليق أبواب السيارة الواقفة المجاورة لنا ، ونظرْتُ في يدِها فوجدْتُها تمسكُ مفتاحَها .. آه ، هذا ما كنا نمشي إليه .. لقد ظنَنْتُ أننا سنركب سيارة أجرة ..

- « هذه سيارتُكِ ؟ إنها فخمة ! »

قالَتْ في تواضعٍ :

- « تقسيط ! .»

- « ولو ! .. بالمناسبة .. ما تخصصكِ بالضبط ؟ »

- « ألمْ تسمعي شيئًا من ذلك الدرس ؟ .. أنا من الإناث القليلات التي انضمَمْنَ لقسم طب وجراحة العيون .. أنا جراحة عيون »

- « جراحة عيون ! .. عندما قلْتِ أنكِ متفوقة فقد عنَيْتِ ذلك ! »

كانَتْ قد فتحَتِ البابَ ، وانحنَتْ لتدخلَ ، فألقَتْ نحوي ابتسامةً متواضعةً قل أن يغيبَ وجهُها في السيارة ، وسرني أنها ليسَتْ مغرورةً بتفوقِها وبمالِها .. إن غرورَها مقتصرٌ على فخرِها بحبي وتمكنِها من قلبي ..ما الذي تتمناه الفتاة أكثر من هذا ! ..

 ثم دخلْتُ أنا الأخرى في السيارة ، وأغلقْتُ البابَ ..
ولثوانٍ بدا أنّها عازفةٌ عن تشغيل المحرك ، وكأنها تفكر في شيءٍ ما ، ثم بدأتْ في الضغطِ على ذلك الزر الذي تضغط عليه في السيارات الحديثة فيغنيك عن المفتاحِ ..

وكنْتُ أنا أتأملها متمعنةً في قسماتِ وجهها الفاتن وجسدِها الرشيقِ .. هذا الجمالُ هو ما أنتج الحربَ على المرأة ؛ الحرب على تعليم المرأة .. على قبول عمل المرأة كطبيبة .. على قيادة المرأة للسيارة .. على حب المرأة لمن شاءَتْ وإن رفض أهلُها ذلك الحبيبَ.. أو وإن رفض المجتمع تلك الحبيبة .. كل هذه الحروبُ نتجَتْ عن جمال هذا الوجه وملاحة هذا الجسم .. وكل هذه الحروبُ قد انتصرَتْ فيها المرأة على أعدائها .. وكل هذه الانتصارات قد تمثلَتْ أمامي في هذه المرأة بالذات ؛ وكان شعوري بالفخرِ وأنا أتأملها أكبرَ من أن يبقى حديثَ نفسٍ :  

- « إنني أشعر بالفخر عندما أنظر إليكِ  »

لم يكنْ ردُّها محفليًّا ؛.لم تلقِ خطبةً عصماءَ عن معاناتِها حتى تصلَ إلى ما وصلَتْ إليه .. لم يظهرْ عليها فخرٌ ولا كِبْرٌ .. فقط اكتفَتْ برفع يدي إلى شفتيها ، وتقبيلِها ، ثم قالَتْ في هدوءٍ  :

- « وأنا يكفيني من الدنيا أن تشعري بالفخر عندما تنظرين إليّ  »

..ثم سارَتْ بنا السيارة إلى وجهَتِها ..

وإن لم يكنْ يقينًا من قبلُ أنني ملكٌ لهذه الجراحةِ الحسناء .. فقد صار يقينًا الآن ؛ افعلي بي ما تشائين يا سيدتي ؛ لقد أضناني مجتمعٌ يعاديني على أساسٍ كروموزوميّ ، وأنتِ كل شيءٍ يلتجأ إليه من صحراء ذلك المجتمع !


***************



2- الزمن يساوي صفرًا
-------------------------------------------------

متى سأعتاد هذا كله ؟ ..
هذه هي المرة العاشرة التي أقف فيها هذا الموقف ..
هذه هي المرة العاشرة التي يصلني فيها صوتُ قرع المعلقة لحواف الكوب بينما تدير ما فيه من شايٍ لتذيب فيه السكرَ .. هذا الصوتُ شديد العادية والنمطية يصل أذني فتاة عارية مودعة زاوية غرفة نوم حبيبتِها .. التناقض بين الصوت العادي والوقفة الاستثنائية يلهب مشاعري التهابًا ..  ويبدو أن هذا التناقض متعمدٌ من قِبَلِها .. وإلا لما واظبَتْ عليه ..

صوتُ خطواتها الحافية تخرج من المطبخ الضيق وتقطع المسافة القصيرة بينه وبين غرفة النوم ثم تنتهي الخطوات عند ما أعرف أنه كرسيها الذي هيأتْه ليواجهَني .. ليواجهني لو كنْتُ أواجهه ؛ أما الآن فهو يدابرني ويتيح للجالسة عليه أن تكون عيناها في نفس مستوى مؤخرتي .. العارية .. المرتقبة لما تفعله بها حبيبة قلبها .. قلب المؤخرة ؟ .. نعم ، فلو كانَ لمؤخرتي قلبٌ لكانَ ملكًا لهذه الحسناء ؛ تمامًا كقلبِ الجسد الذي منه المؤخرة ..

صوتُ رشفاتِ الشاي ..

صوتُ كوب الشاي وهو يستقر على الطاولة المجاورة لها ..

الوقتُ يسير بطيئًا ، ولكني أعلم أنها تتطلع في جسدي العاري .. فأعض على شفتي ، وأبدأ في زحزحة قدمي انفراجاً .. ببطءٍ .. ببطءٍ .. أعلم أنها لا بد مبتسمة الآن وهي ترى ما أصنعه .. ربما تهز رأسَها وتدير عينيها في محجريهما .. كما تفعل عندما أعابثها .. آهٍ ، يا حبيبتي .. إن ذكرى ملامح وجهك الأقمر الذي لم تمض أكثر من عشر دقائق على رؤيتي لها تثير جنوني .. إني أريد أن ألتفت حتى أراكِ .. أزحزح قدميّ أكثرَ .. وأنا أعلم أن ما ينكشف لها من جسمي سيعجبها .. هذه هي بضاعتي .. أريد استبدالَها بقبلةٍ أو عضةٍ أو حتى نظرةٍ إلى وجهكِ المليحِ ..

- « استديري يا حلوة ! »

أخيرًا ..

أقابلُ حبيبة القلبِ ، في ابتسامتها المسيطرة .. فأبتسم لها ، قبلَ أن أفطنَ إلى ما يستقر على الطاولة إلى جوارِ كوب الشاي .. فيعتريني الفزعُ .. وترى نظرتي الفزعة .. فتربت يمناها على ما أنظر ، وتقول :

- « لا تخافي ، إنها لا تعضّ !  »

إنها لا تعضّ ؟ .. ما الذي فعلْتُه حتى أعاقبَ بهذه الآلة الشيطانية ؟ .. إن عليّ أن أعترضَ ..

- « إمم هممففف همف ! »

الحسناءُ تزداد ابتسامتها الحسناء اتساعاً على اعتراضي المكتوم .. وتقوم من قعدتِها .. وتخطو نحوي ، ثم تزيل ما يكتم اعتراضي ، وقبل أن أفصح عما أعجمت عنه ، تقبل فمي المكشوف حديثًا ، وأذوب في القبلة .. وعندما تبتعد شفتاها عني .. تعيد يداها حشوَ فمي بما يمنعني من الكلام .. والصراخ فيما بعد !

- « سأمددكِ على سريري .. وسأضربكِ نفْضَ سجاد العيدِ ، وإذا زاد العرض على قدرة السوقٍ على الاستيعابِ ، فاضربي برجليكِ جميعًا ثلاث مراتٍ على المرتبة ، وسأتوقف .... ربما ! »

لماذا يزيد هذا من شهوتي ورغبتي فيها ؟ ..
ولا تمنحني فرصةً لأستغرق في تفكيري فيما قالَتْه قبل أن تسوقني من يدي إلى السرير .. وعندما أستلقي عليه .. تعود لالتقاط عصا الخيزران تلك من فوق الطاولة .. ثم تشق بها الهواءَ .. فأبث شكواي لما يحشو فمي فحيحًا غيرَ ذي معنى ..

- « ذكريني بما قلتِه لي في الهاتف البارحة ! »

آه ، هذا هو سبب هذا ... لقد كنْتُ أمزح في مكالمة البارحة تلك ! .. ولكنها لا تحب المزاح في هذه الأمور ..
أرفع ذراعيّ فوق رأسي ، وألصق راحتيّ ببعضهما البعض كالمعتذرة .. لا بد  أن منظر حبيبتِها مستلقيةً على السريرِ .. عاجزةً عن الكلامِ بدافع خارجي .. عاجزة عن الحركة بدافع داخلي .. رافعة كفيها في اعتذارٍ أقرب إلى التوسل - لا بد أن هذا مما يثير فيها الشفقة عليّ .. ثم إنه كان مزاحًا !

- « مشكلتي أنني لا أقوى على تأديبكِ بجمالكِ ودلالكِ هذا .. حسنًا سأعفيكِ من الخيزرانة هذه المرة .. ولكنْ في المرة القادمة. إن تكرر منكِ ذلك- جدًّا أو هزلاً .. فستنامين على بطنكِ لأيامٍ . هذا مفهوم ؟ »

- « إمف إمف ! »

- « ولكن هذا لن يعفيكِ من العقابِ بالكلية ، هل أتيتِ بفرشاة شعركِ ؟ »

كانَتْ هذه هي عادتُنا في هذه اللقاءات الأسبوعية ؛ إنها تفضل معاقبتي بفرشاة شعري أنا .. لتبقى معي أداة عقابي بقية الأسبوع .. رمزًا لسيطرتِها لا يغيب عني في غيبتِها ..

- « إههمف ! »

- « "إههمف"  نعم ، أم "إههمف " لا ؟»

لو لم أكنْ معقودة اللسان لردَدْتُ ردًّا يكلفني مزيدًا من الصفعاتِ ، لكنْ لحسنِ حظي أن ما أفكر فيه لا ينقله لساني لسمْعِها ..

- « وهذه الفكرة التي خطرَتْ لكِ الآن ، ستكلفكِ مزيدًا من الصفعاتِ .. لا تحسبي أني لم "أسمَعْها" ! »

تبًّا ! .. يفْترضُ أنْ نبقى معًا لسنين قبل أن تتمكن من قراءةِ أفكاري !

- « لسْتُ بحاجةٍ لأن أعرفكِ لسنين حتى أستطيع قراءةِ أفكاركِ ! »

طوية نفسي مكشوفة أمام العينين الحبيبتين فما الداعي للكلام إذن ؟ .. كأني أستطيع الكلامَ على أية حالٍ ! .. رأسي تستشعر وثارة الوسادة لثوانٍ .. فأتغافل عما يوشك أن يقع .. فيقع !

- « آهفف »    

لقد كانَتْ هذه ضربةً موجعةً .. والذنبُ ذنبي ؛ من بين كل فرشات الشعر لم أخترْ سوى هذه الفرشاة الخشبية العتيقة ، فلما صارَتْ أداة عقابي أدَّتْ بامتيازٍ

صفعة أخرى على الردف الآخر لينال حظه من الاحمرار ، فلا يحسد أخاه على حمرتِه !

- « آآهففم »

- « دعينا نتذكرْ مرةً أخرى فعلكِ الأسودَ في مكالمة البارحة .. الآن وقد صارَ ردفاكِ الحبيبان في مرمى فرشاة شعركِ  »

ثم بدأتْ تقلد صوتي ، ولكنتي , ومواضع نبراتي .. فكدْتُ أذوب عشقًا :

- « " آه ، بالمناسبة يا ( هند ) ، هل أخبرتكِ عن ذاك الفتى الوسيم الذي ناولني كتابي عندما سقط مني في الجامعة ... أووووه يا ( هند ) ما أجملَه ، أوووه " »

كانَتْ هذه مبالغة .. كلّ ما قلْته أنه وسيم ؛ بدون كل هذه التنهيداتِ .. ولكنْ إحقاقاً للحق فقد قلْتُ ذلك عمدًا لأغيظها ، وقد اغتاظَتْ !

طقْ ! طقْ ! طقْ !

طقْ ! طقْ ! طقْ !

طقْ ! طقْ ! طقْ !


الثلاثيات تتوالى على جلدي البض ، فتتجمع الدموع في عينيّ .. إنها في المعتاد رفيقة بي .. كأنها هي التي تتألم من وقع الضربات لا أنا .. ولكنّ غيرتَها تفقدها رقتَها .. ومع ذلك فغيرتها وغضبها وحبها لي كل هذه تزيدها جمالًا في عينيّ ..

- « لا فتيان ولا فتيات غيري .. مفهوم ؟  »

كأنكِ بحاجة إلى ضماناتٍ ! .. أنا لكِ وحدَكِ للأبد .. ولكنّ المعابثة طبعٌ !

- « إمهم إمهم إمممهم »

أعلم أن الإلحاح في إظهار الطاعة والأسف على ما بدر مني سيرقق قلبَها عليّ .. في الواقع أنا لا أدري أينا أجدر بالشفقة ؛ أنا المعاقَبة المنبطحة على بطنِها في خضوع يحسبها الناظر لا حول لها ولا قوة .. أم هي المعاقِبة رقيقة القلبِ شديدة الحبّ لي والخوف عليّ فهي طوعُ بناني ، وإن لم يبدُ للناظرِ هذا إلا بعد تدقيقٍ ! ..

صوتُها العذبُ يصلني وفيه رنة ندمٍ ؛ ندمٍ على ما تسببْتُ أنا فيه ؟  آه يا حبيبتي كم أعشق عشقَكِ لي !

- « حسنًا ، أنا لا أريد أنْ أؤلمكِ - على الأقل ليس هذا النوع من "الألم" ؛ أنا أحبكِ .. ولكنْ بسبب حبي لكِ .. فلا أريد أن أسمع عن آخرين غيري ، إنني شديدة السخاء في غير هذا المجال ، فيما يتعلق بحبكِ وإعجابكِ فأنا أبخل الناس ، ولا علاج لبخلي فأطلبَه ، ولا أريد أن أعالج منه حتى لو كان له علاجٌ »

أووه ! فكّي هذا الذي يمنعني عن الكلام حتى أشكركِ كما يليق !

- « حسْنًا ، سأحل "عقدةَ لسانكِ " »

كأنها تقرأ خواطري !

وعندما حَلَّتْ " عقدة لساني " أوسعها ذلك اللسانُ شكرًا ، ومع ذلك فهو لمْ يتكلم ! .. وإن شفتيها هما ألذ ما ذاقَتْه حلماتُ ذلك اللسان المحرر حديثًا ؛ تشريحيًّا لا بد أن هناك مصدرًا للـ(سكروز) تفرزه غددٌ ما إلى سطح هاتين الشفتين الحبيبتين ..
 الرغبة الجامحة في تقبيلِها تدفعني بجنونٍ إلى إحكامِ شفتي على شفتيها ولسانِها .. وكلما ازدادا إحكامًا ازدادَتْ الرغبةُ جموحًا .. طالب الجمال كطالب العلم لا يرتوي .. والفكرةُ التي تخطر لي ؛ أنه لا يزال الكثيرُ من جسد حبيبتي _غير الشفتين والفم _ يعدني بمتع لا تعد ولا تحصى .. يلهبُ فيّ العواطف المتلاحقة .. فأشاغب تلك الفكرة ، وأرجئ استمتاعي بسائر جسد محبوبتي إلى أطول فترةٍ ممكنةٍ .. إني أجد في تقبيلها منتهى اللذة ، وأعلم أن الآتي سيجعل "منتهى اللذة" تلك نقطةً في بحرٍ .. كل هذا لي ؟!
 لو كنْتُ سأصابُ يومًا بسكتة قلبية من شدة الفرح ، فهذا موضعُها !

ثم طغَتِ العاطفةُ على العقلِ ، فانتقلْتُ _ لا إراديًّا _ إلى بقية محاسنِها .. شفتاي تتحسسان طريقَهما سفلاً إلى أخدودٍ بين رمانتين ، ويضيق الأخدودُ فتلامس الرمانتان خديّ .. هذه النعومة وهذا التماسك ؛ هذه الشدة وهذه الرقة .. لا يطيق الخدُّ نقلَ كل هذا الكمالِ ؛ لتتولَّ حلماتُ اللسان اكتشاف حلمات الرمان .. ثم أنتقل كالمجنونة من هذا الثدي أطيش في صفحته بلساني فيتوق اللسان للثدي الآخر ؛ فأقنعه أنهما سواءٌ فلا يقتنع .. ويطير إلى الآخر .. ثم يشتاق للأول .. فلا يمهلني أن أجيبه إلى طلبِه حتى يسير من تلقائه إلى غايتِه ثم يعود إلى منطلقه الأول .. وتضحك صاحبةُ الرمانِ :

- « حددي هدفكِ ! »

ويبتعد لساني بقدر ما يسمح له بقرع مخارج الحروف ليقول على عجلٍ :

- « الكلام أسهل من التنفيذ »

ثم يرجع لحيرتِه وتنقله بين الحسْنَيين ! ..

ثم تكفيني حبيبتي حيرتي ، بأنْ ترد عليّ بعضَ ما منحْتُها ، وبدلاً من أن أقرر الخطوة التالية تتولى هي الهجومَ وأستمتع أنا بالتلقي .. فأصيرَ تحتَها وهي فوقي ، وتقبض بفيها على ما أمكن من ثديي ، ثم يدور اللسان بمحتويات الفم ، حتى إذا شبع من الدوران انسحب الفمُ من احتلاله للأرضي الصدرية ، وقبل أن يزول الاستعمارُ الفموي بالكلية ينغز حلمة ثديي نغزةً بأسنانِه ، ثم يبتعد .. فأتخلى طوعًا عن الاستقلال وأندفع بصدري إلى فم المستعمر طلبًا للمزيدِ ! .. هذه المرة .. الدورُ على الثدي الآخرِ ، حتى ينال كلٌّ نصيبَه .. ولا يقع "نيرُ" الاحتلال على مكونٍ من مكونات الصدر دون الآخر فيقع بينهما التحاسد ! أمَا وقد وقع عليهما جميعًا القدرُ نفسُه من اللعق والعض والشفطِ .. والمتعة ، فهذا أوان الشد فاشتدي (زيم) !

و(زيم) ترقب من مكانِها ما يحدث في الأعلى ، وتتمنى أن تنتقل إلى مسرح الأحداثِ ، فينتقلُ إليها مسرحُ الأحداثِ .. وحقّ ( زيم ) أنْ تكون في الختام ، ليكون الختامُ مسكًا ، أو لينتج عن الختامِ " مسكٌ " .. وعندما نقلَ الفمُ جبهة عملياته إلى الأسفلِ ، كانتْ ( زيم ) في استقباله مفتوحة الذراعين - حرفيًّا ! .. فعرّج عليها حتى إذا مسها أو كاد حادَ عنها فقبّلَ أعلى الفخذِ هذا .. ثم قبّلَ أعلى الفخذِ ذاك .. حتى إذا كادَتْ ( زيم ) تفصح _على عجمتِها_ عما تعاني من لاعج الأشواق ، أتاها عذرُ اللسانِ فروى غلَّتَها ، وسقى عطشَها .. ثم اشتط فخاض في أعماقِها خوضًا .. تاركًا السطحَ للشفتين تمتصان ما لعله بلل اللعاب أو بلل ( زيم ) أو بلل كليهما .. وقد انغرسَتْ اليدان مقلمتا الأظفار في جانبي فخذيّ المحيطتين برأسِها الحبيبِ ..
لطالما خلب لبي هذا المنظرُ ؛ منظرُ الرأس المدفون بين الرجلين المنفرجتين ليتاح الكنزُ لطالبتِه ، خلب لي هذا المنظر وهو صورٌ لا حياةَ فيها أحدق فيها على شاشة الحاسب ، وأمني النفسَ أنْ أنالَ يومًا .. فقد نلْتُ ؛ لقد دبَّتْ في تلك الصورِ الحياةُ ، وشتان ما بين الصورة والأصل ... ولقد زاد في إحساسي بعظمة هذا الموقف اشتراك البصر والشم والسمع ومغرس يديها في فخذيّ ومدفن لسانِها في أعماقي .. والتهابُ جسدي الذي تراكمَتْ عليه كلُّ تلك الحواسِ ، تظمئه وتسقيه ، وتعده وتوفيه .. والقلْبُ راضٍ عن شهوة الجسدِ ، فالتي تبلغ الجسدَ شهوتَه هي حبيبة القلبِ ! فلا اعتراضَ من السامي ولا اعتراض من الشهوانيّ .. كلاهما قد ارتبط في هذه اللحظة الحميمية بما تفعله بي ساكنة القلب وملهبة الجسدِ ...
ثم انزلق الجسد الولهانُ إلى منجرفٍ جليل خطرٍ ، فارتعد وحق له أن يرتعد ، فواساه القلبُ فسري عنه .. وخلص من رعداتِه إلى مثل ما يخلص إليه الراهبُ أسالَتْ دموعَه الرهبةُ والرغبةُ .. فآبَ نقيّ السريرةِ صافيَ النفسِ ..
وابتسمْتُ لساكنة القلب وملهبة الجسدِ وقد نهضَتْ من محرابِها بعد أن أوسعَتْه عنايةً ورعايةً ، ولعقَتْ شفتيها لتزيل ما بقي عليهما من آثار تلك العناية والرعاية .. فتحرك في جسدي ما كان سكَنَ .. ووضعَتْها في حيث كانتْ وضعَتْني وفعلْتُ بها ما كانتْ فعلَتْه بي .. وذبْتُ فيها كما لا شك أنها ذابَتْ في .. وارتعدَتْ كما ارتعدْتُ .. ثم سكنَتْ ، فأودعْتُ ما كنْتُ منشغلةً به قبلةً أخيرةً .. ثم ارتقيْتُ لتقابلَ عيناي عينيها .. وقطعتِ العيونُ وعودًا لا سبيل للسانِ إلى إدراكِ كنهها .. وانغرسَتْ سهامُ الحبّ أعمق في قلبَينا ، وكنتُ حسبْتُها بلغَتْ القعرَ ، ثم قلْتُ لها شيئًا فسمعْتُه من شفتيها في الوقتِ نفسِه :

- « سيقضي عليّ حبُّكِ يومًا ما يا أميرتي »

- « سيقضي عليّ حبُّكِ يومًا ما يا أميرتي  »

ابتسامتانا تتسعان ، ونذوب في قبلةٍ لاهبةٍ ...

ولو كان لي أن أرسم نهاية مثالية لهذه الحياة ، فلتكنْ في مثل هذا الموقفِ ؛ بين ذراعيها .. شفتاي على شفتيها .. هذه التي قد استوطنَتْ قلبي تسرح فيه وتمرح ؛ ليس فوق هذا مزيدٌ !

--------- ( تـمَّــت ) -----------