الثلاثاء، 23 أغسطس 2016

قصة : السَّتِهُ ! ( م / ف )



قصة : السَّتِهُ !  ( م / ف )

- بضعة تنويهات :
تنويه 1 : هذه القصة تعمد في كثير من أجزائها إلى استخدام لغة قد تعد مرتفعة قليلاً عن عربية الجرائد والصحف , فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك , فقد  نوهنا به .
تنويه 2 : تصوِّرُ القصة في معظمها علاقةً ذات طابع جنسي بين رجال ونساء , فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك , فقد  نوهنا به .

تنويه 3 : مما تشمله تلك العلاقة ذات الطابع الجنسي ما يقترب من أن يكون ما يعرف بالإنجليزية / بالإنكليزية بـ
فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به . 
تنويه 4 : هذا العمل ضرب من الخيال لم يقع ولا أجزاؤه ,  ولا قَصَدَ إلى تصوير ما وقع بكليته أو بجزء منه , وشخصياته ليست محاكاة لشخصيات واقعية وأي تشابه بينها وبين أي شخصية واقعية حية أو ميتة علمنا بها أو لم نعلم محض صدفة , وأي حثٍّ على فعل أو على الامتناع عن فعل بناءً على ما في القصة مما تُوُهِّم أنه مغزى فهو غيرُ مقصود من المؤلف , وليس حثاً على الحقيقة , ومتى وقع الفعل الذي تُوُهِّم أنه حُثَّ عليه فالفعل مسؤولية / مسئولية فاعله ولا يسأل المؤلف عن ذلك .
فإن كان أيٌّ من هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .

- اقتباسان :

الاقتباس الأول : مِنْ قاموس (لسان العرب) لابن منظور ( 1232 - 1311 م )  في مادّة (س ت ه) :

( ...

 والسَّتَهُ: عِظَمُ الاسْتِ.

والسَّتَهُ: مصدر الأَسْتَهِ، وهوالضَّخْمُ الاسْتِ.

ورجل أَسْتَهُ: عظيم الاسْتِ

بَيِّنُ السَّتَهِ إذا كان كبير العَجُز، والسُّتاهِيُّ والسُّتْهُم مثله.

( وقال ) الجوهري: والمرأَة سَتْهاءُ وسُتْهُمٌ، والميم زائدة،

وإذا نسبْتَ إلى الاسْتِ قلْتَ : سَتَهِيٌّ، بالتحريك، وإن شئت اسْتِيٌّ ؛ ترَكْتَه على حاله ،

وسَتِهٌ أَيضاً_ بكسر التاء_ كما قالوا حَرِحٌ. قال ابن بري: رجل

حَرِحٌ أَي مُلازمٌ للأَحْراحِ ( جَمْعُ حِرٍ : فَرْجُ المرأة ) ، وسَتِهٌ : مُلازم للأَسْتاهِ.

قال ( الجوهريّ ) : والسَّيْتَهِيُّ الذي يتخلَّفُ خَلْفَ القومِ فينظرَ في أَسْتاهِهم؛ قالت العامرية:

لقد رأَيتُ رجلاً دُهْرِيًّا   ||      يَمْشِي وَراءَ القومِ سَيْتَهِيًّا

ودُهْرِيٌّ: منسوب إلى بني دَهْرٍ بَطْن من كلب.

والسَّتِهُ: الطالبُ للاسْتِ، وهو على النسب، كما يقال رجل حَرِحٌ. قال ابن سيده: التمثيل لسيبويه.

.....

وسَتَهْتُه أَسْتَهُه سَتْهاً: ضَرَبْتُ اسْتَه.

 .... )



 الاقتباس الثاني : من كتاب (الساق على الساق في ما هو الفارياق ) طبعة سنة 1855 ميلاديًا بباريس , لمؤلفه فارس يوسف الشدياق ( 1804 - 1887 م ) :



 ( .... فلمّا حانَ الرقادُ , اضطجَعَتْ في الفراش , وأدارَتْ وجْهَها إلى وجه الحائط ؛ وهذا هو المقصود من هذا الفصل ؛ تنبيهًا للناس على أن هذه العادة هي من جملة العادات التي أخطأوا استعمالَها ؛ إذ ليس في الإدبارِ شيءٌ يدُلّ على الغيظ , بل الإقبال هو المظنّة له ؛ فإنّ المرأة إذا واجهَتْ زوجَها عند الاضطجاع , وقطّبت وجهها في

وجهه وزوت ما بين حاجبيها، أو شمخت , أو سدّت منخريها أو غمضت عينيها كيلا تشمّ رائحتَه  وتبْصِرَ سحنتَه , أو غطّتهما بيدها أو بكمها أو منديل كان ذلك إشارةً إلى غيظٍ .



فأمّا في تولية الدبر فلا علامة تدل عليه . فإن قلْتَ : ( إنها إذا واجهَتْه ربما غثَتْ نفسُها من نَفَسِه ؛ إذ الرائحةُ الكريهة لا بدّ وأنْ تُفْعِمَ المناخِرَ _وإن سُدَّتْ_  فلا محيصَ عنه إلا بالإدبار) , قُلْتُ :

(الأولى أن تستلقي فيندفع المحذور ).



 وبعدُ , فإنّ الدُّبُرَ هي من الأشياء التي طالما عُنِيَ الناسُ بتفخيمها وتكبيرها وتعظيمها حسًّا ومعنى :



أمّا حسًّا فلأنهم اتخذوا لها الزناجب والمنافج والمرافد والرفائع والأعاجيز والغلائل والمرافق والعُظامات والحشايا والأضاخيم والمصادغ ؛ اجتذاباً لقلوب الناظرين وفتنة لعقول العاشقين. فكيف يكون شيء واحد مستعملاً وسيلة للرضا والغضب معاً ؟! فهو خُلْفٌ بيِّنٌ..



وأمّا معنى , فلأن العلماء والأدباء وسادتَنا الشعراء ما زالوا يتغزلون بها ويتنافسون في عَرْضِها وسِعَتِها، حتى إن بعضَهم قال :



من رأى مثل حِبّتي   ||      تُشْبِهُ البدْرَ إذ بدا

يدخلُ _اليومَ_ خِصْرُها     ||    ثمّ أردافُها غدًا



وقال عمر بن كلثوم :



ومأكمةً يَضِيقُ البابُ عنها    |||     وخِصْرًا قد جُننْتُ به جنونا



ولقائلٍ هنا أن يقول : إن الشاعرَ لم يصِفِ الخصْرَ إلا بكونه مُوجِباً لجنونه. وإن الإشارة إلى كونه نحيلاً _بناءً على جنون الناس به إذا كان كذلك _ غيرُ ناصّةٍ .وأحرى أن يكون هذا المفهوم الضمنيّ جاريًا على وصف كل عضو. إذ لو قال : "ومأكمةٍ جنِنْتُ بها جنونًا"  لعُلِمَ بالبديهة أنها تملأ الباب ويفضْلُ منها شيءٌ , ويا ليت شعري هل الألف واللام للعهد الجنسي أو الذهني؟ وهل الإمام الزوزنيّ تعرّض لشرح ذلك ؟



 ثم إنه من أهّم ما يشْغَلُ بالَ المرأة ويُسْهِرُها الليالي هو أن تَفْتِنَ ناظِرَها ؛ بتفخيم ذلك الموضع الرفيع العالي.



وربّما لهِيَتْ عن وجهها وسائر جسدها وغادرَتْهُ بلا زينةٍ من فَرْطِ اشتغالِها به , ولو تضمّرَ وجهُهَا , وذَوَتْ غضاضةُ بدَنِها لِمَرَضٍ أو كَبَرٍ فقلّ اعتمادُها على محاسنِها لم تبرَحْ معتمدةً عليه ومتعهدةً له.



فهو رأسُ مال الخلْبِ والتشويقِ . وما من امرأة إلا وتتمنى أن يكون لها عينٌ في قفاها لتكونَ ناظرةً إليه ومتعهدةً له دائمًا.



ولقد يهونُ عليها أن تقف ساعة أو تمشي ساعتين أو ترقص ثلاثاً ولا أن تقعد هنيهةً خشيةً مِنْ أن يخْشَانَّ أو يضمر.



وإنها حين تنظر إلى عِطْفِها وهي ماشيةٌ أو راقصةٌ فما هو إلا رمْزٌ إلى ما ورائه.



وإنّ تَهَدْكُرَها وتَبَهْكُنَها هما أنشَبُ مصلاةٍ يعلَقُ بها قلبُ الرجل.



وذلك لأنها تعلم أن الحكمة الخالقية رسَمَتْ _من الأزل_ بأن تكون كثْرةُ اللحم والشحم في ذلك الموضع _ بالنسبة إلى سائر البدن لا بالنسبة إلى دكاكين اللحامين_ شائقةً للملوك والسلاطين والأمراء والقضاة والأئمة والقسيسين والأحبار والموابذة والهرابذة

والعلماء والبلغاء والخطباء والأدباء والشعراء والعطارين والصيادلة والعازفين بآلات الطرب ولسائر الناس , لا لأنهم يتخذون من لحمِه كبابًا أو من شحمه إِهالة, أو يستصبحون عليه,

أو يتخذون من جلده كُوْبة. ولكن ملْأً لعيونهم وشرحاً لصدورهم. فإن عين ابن آدم _ مع كونِها ضيّقةً_ لا يملؤها ما هو أوسع منها وأكبر بألف مرة. وإشعارا لهم بأن حكمتهم في هذه الدنيا وتنطّسَهم وعزهم ومجدهم _ وإن علَتْ على الأطواد الشامخة والجبال الشاهقة _ فما هي إلا سافلة عن حضيض هذا الموضع .



ألاَ وإنها تعلم إنك إذا أجْلَسْتَ _ مثلًا_ أحدَ هؤلاء الأعزة الكرام أمام بعض المناصع على سرير مذهب, وضرَبْتَ عليه قبّة ممّوهة

مزخرفة منمنمة منقشة مزوقة مكسوة بالحرير والديباج ومكللة بالزهور والرياحين , استنكف أن يقعد هناك نصْفَ ساعة , على أنه لا يستنكف أن يقعد عامّةَ نهارِه وليلِه لذلك المقام المنيف _ وهو حاسرُ الرأسِ، مشعث الشعر، حافي الرجل، فاغر الفم , مندلع

اللسان، سائل اللعاب, محملق العينين، مشمر الذيل، شابح الذراعين معوجّ العنق , مؤلّل الأذنين، في أقبح هيئة يمكن للإنسان أن يتصورها في حق ذي مقام_ , حتى لو سمع نأمة من هناك لظن أن السلطان قد بعث إليه بآلات الملاهي يهنئه على هذا الفوز العظيم، والمغنم العميم، وتصوّرَ في باله أن صوت العود لم يكن بأشجى من غيره إلا لكون هذه الآلة قد صنعت على مثال شطر ذلك الموضع ولو كان كالشطرين لسُمع له منطقٌ بإعراب. وأنَّ شكل القبة مأخوذ منه. ورائحة الندّ تروى عنه، وأنّ العرَبَ من زيادة شغفهم به ألحقوا

حروفه بالأفعال السداسية الدالّة على طلب الفعل أو التي يعتبر فيها الشيء كونه على حالٍ مَا من الأحوال. وأن فردسة صدور الرجال وعرض ظهورهم لا تجدي نفعاً مع عرضه. وأنّ المعالي في السَّراة متى تلُحْ لهم ذاتُ تأكيمٍ يَعُدْنَ مسافلًا، وأنّ هذه الحقيبة _مع ثقلها ,

سواءً كانتْ حاملةً كما ذهب إليه بعض الشعراء، أو كانت محمولة كما هو في الواقع _ فليس ثقْلُها إلا كثقل كيسِ ذهبٍ على حامله. وأنها أسخن الأعضاء جميعاً في الشتاء إذ لا تحتاج إلى تدفئة وأبردُها في الصيف. وأنّها _مع كونِها أوّلَ ماسٍّ للأرض عند القعود _ فلا تزالُ أنْعَمَ من الخدين , وأملس من اللديدين، فلهذا كانَتْ لذّةُ تقبيلِها للمقبّل العذريّ أعظمَ من لذّةِ تقبيل الذقن والأنف والعين والجبين. وأنّ الناس يبتذلون لها أسماءَ الملوك والسلاطين، وذوي السيادة والمعالي وأئمة الدين. وعند قومٍ _أقول وأستغفر الله_ تذالُ لها الأسماءُ الحسنى، على أنَّ تسبيحَهم كل يوم أن يقولوا ربنا تقدّس اسمك.



ألا وإنها تعلم أن كثيراً من البهائم أعقل من الناس أو أسعد حالاً من أصل الفطرة ؛ فإنّ الذَّكَرَ من الحيوان غير الناطق لا يهيج على

هبرتين من اللحم في أنثاه _ مع احتوائهما على القبل والدبر_ إلا في وقت معلوم, وهذا الذكر من الحيوان الناطق لا يزال هائجاً عليهما مزبداً لاغماً راغياً متزغّماً هادراً محمحماً مبقبقاً مقبقبًا زاغداً مُلْعباً جالباً لاجباً وربما جنّ أيضاً. وما ذلك إلا لمجرد وَهْمٍ ؛ أنهما

بأهدافهما تعينانه على خسق الهدف من قُبُلٍ . وإلا فما سبب هذا الجنون؟



 نعم , وتعلم أيضاً أن هذا الموضع _ مع كونه في حيّز الجسم الأسفل _ فهو موازٍ لخط الرأس ارتفاعاً ؛ إشارةً إلى أنّ تسَفُّلَه لا يحُطُّ من قدره ورفعته. حتى لو فُرِضَ أنه جُعِلَ عند الرِّجْلَينِ لبقيت له هذه المنزلةُ والاعتبارُ بعينه.



حتى إنّ بعض النساء يرين أن كشفه أوْلى من كشف الفم لأنه أقلُّ أذىً منه ؛ إذْ لم يُعْلَمْ _إلى الآن_ أنّ أحداً قُتل بفَلْتَةٍ منه , فأمّا فلتاتُ اللسان القتّالة فلا تعدُّ ولا تحصى.



وبُناءً على ذلك كنَّ يتعمّدن الخروج في اليوم الراحِ ( يومٌ راحٌ : شديد الريح )  , وهو عندهنَّ من الأعياد المباركة.



وبعضُهُنَّ يرَيْنَ أنه جديرٌ بالحلي والزينة والتنقيشِ _ سواءً كان ظاهرًا أو مستورًا_ .



قال بعض السّتاهيين :



يا سائلي عن أيِّ جزْ         ءٍ في المليحِ أجملُ

لقد روى أستاذُنا :        (نِصْفُ الجَمَال الكَفَلُ )



قال : وذلك لاشتماله على أشكال كثيرة، لأنك إذا اعتبرت ذروة الرانفة وَحْدَها ظَهَرَ لك الشكلُ المخروطُ ، وإذا اعتبرْتَها مزدوجة بالأخرى تبيَّنَ لك نصْفُ دائرة أو شكلٌ هلاليّ ، وإذا نظرْتَ مِن نقطة العيسب إلى غاية ما يوازيها من سطح الشق الواحد بدا لك المستوى أو المسَطَّحُ، أو منه إلى ما دون ذلك قابلك المقبّبُ والخطّ المنحني، وإذا اعتبرته مع الأكباب واجهَك المجوَّف وهلمّ جرًّا. وليس من سائر أعضاء البدن من الأشكال ما لهذا.



 قلْتُ :  ما أشْوقَ قولَ الشيخ ناصيف اليازجيّ الأديبَ المشهورَ :



وتموّجَتْ أردافُها فأخو الهوى   ||      بين اضطراب الموجتَينِ غريقُ



ثم إنّ الظاهِرَ مِنْ وجودِ اسْمِ المرفدِ في لغتنا هذه الجليلة ، ومِن قول صاحب القاموس : ( المخدّم : رباط السراويل عند أسفل رجل المرأة) أنَّ لباسَ نساء العرب قديماً كان كلباس نساء الشام الآن. أو لعلّه كان خاصّاً بالحواريات ، غير أن قول المتنبي : (وأعِفّ عمّا في

سراويلاتها) يفيدُ التعميم ، بناءً على تغزّلَه بالبادياتِ , كما أشار إليه بقوله : ( وفي البداوة حسْنٌ غيرُ مجلوبِ ) _ وقد تقدَّم _ .



 قال القاموس : ( الدُّبُرُ _بالضم وبضمتين_ : نقيض القُبُل , ومِن كلِّ شيءٍ عقبُه ومؤخِّرُه - والاست والظهر ) قلْتُ : أسماء حروف هذه اللفظة لها معانٍ . وهذه الحروف كيفما قلّبْتَهَا ظَهَرَ لك منها أيضاً معنى ، وكذا إذا جمعْتَ بين كل حرفين منها، وعدُدُها بحساب الجُمّلِ مزدوجٌ ؛ إشارةً إلى ازدواج الجهتين ، كما أن الضمتين إشارة إلى الثقل والرزانة. ومادتها من أغرز الموادّ، وهل وضْعُها مؤخّرٌ عن المؤخّر أو متقدمٌ عليه ؟ أو اشتقاقُها من قولهم جئتُك دُبُرَ الشهرِ أيْ آخرَه أو اشتقاق هذا منها ؟ خلافٌ . والظاهِرُ أنّ الأمور المعنوية الاعتبارية مشْتقةٌ من الحسِّية , وبَقِيَ الخلافُ في اشتقاقها من عَقِبِ الشيء، وقد ورد في القرآن  ولّوا الأدبار ، وأنْكَرَها المُطْرانُ أتاسيوس التوتنجي في كتاب الحكّاكّة في الركاكة .



واعلمْ أنّ العرب قد وضعت للدبر ما ينيف على تسعين لفظة ما بين اسم ولقب وكنية. فمن أسمائها ما تقدم في ( إثارة الرياح  ) ومن بعْضِ كُناها أمّ سُوَيد وأمّ العِزْم وأمّ خنَّوْر. فلولا أنهم أنزلوها منزل الأسد والسيف والخمر في البأس الفتك والإسكار لما خصّوها بذلك.

لا يَرِدُ هنا ما قاله ذلك الأعرابي في السنّور : ( لعنه الله ما أكثر أسماءه وأقّل ثمنه) ,  فإنّا نقول : إنّ قلة ثمن الحيوان لكثرة

وجوده لا يقدح في قيمته ومنافعه. وإن كثرة أسمائه هي مِنْ حَمْلِ النظيرِ على النظير لحصول المشابهة بينه وبين أمّ أمّ سويد ؛ من جهة أن السنّور هو من الحيوانات الكثيرة النتاج , ومِنْ

طبعِه اللعبُ والهِراش , وإن يكُنْ يعْقُبُه _غيرَ مرّةٍ_ خدْشٌ وإدماء ,  وخمش وإصماء , وحمش وإعماء. وله تحمّلٌ على المكاره والأذى حتى قيل إن له سبعة أرواح . ولا يعجزه صعود شرف ولا هبوط , هوة. وإنه إذا شمّ رائحة شيء أعجبه من الطعام تسلَّقَ على الجدار

ودَخَلَ أضْيَقَ مكانٍ حتى يظفر به. وأنه إذا مرَّتْ عليه يدٌ نفَّش ذنبه واخذ في خرخرة وهينمة تُفْصِحُ عن رضاه باللمس. ومن طبعه أيضاً النظافة والأكل خفوة ؛ حياءً أو خوفاً .



فإن أبَيْتَ إلّا المشاحّة _ كما هو دأبك من أول هذا الكتاب_ بأنْ قُلْتَ : ما بال أسماء الداهية والعجوز إذاً كثيرةً وأسماءِ الشمس والقمر قليلةً إذا كانت التسمية مبنيّة على جلالة المسمى أو نفعه ؟  قلْتُ : أما كثرة أسماء العجوز فباعتبار أنها كانت صبيّة أو أنها تكون

ذريعةً لها. وأما الداهية فباعتبار خشْيَتِها. والإجلال قد يكون عن خشية كما يكون عن مِقَةٍ. فأما الشمس والقمر فأسماؤها كثيرة جداً غير إنها لم تشتهر عندنا وليس ذلك بأوّل ظلم فعله الناس في حق اللغة _ كما بيَّنْتُه في كتاب آخر_ .



ثم هذه جملة الأسماء والصفات التي وُضِعَتْ لأمّ أمّ سويد . وقد بذلْتُ الجُهْدَ في استقرائها , وهي:



 الأثيثة الخبنْداة الراجح الرَّجاح الرَّداح الدُلَخة البهَيْر الشَوْترة العَجِزة العَجْزاء والمُعجَّزة الدَّهاس الدَهساء البَوْصاء اللفَّاء

الركراكة الزكزاكة الوكواكة الضِبرك الضنَّاك العَضنَّك الوَرْكاء الوَركانة الثَّقال الجزلة السجلاء المكفال الهركولة المؤكَّمة الألياء الأليانة .



ومن الغريب أن صاحب القاموس ذَكَرَ الأستهَ والسّتاهي ولم يتكرم علينا بمؤنثهما فأنا أثبَتُّهما هنا عن إذنه .



ومن ذلك : نفج الحقيبة , ذات الأهداف , ذات التأكيم , ذات الرضراض , مِنْ نِسْوَةٍ بلاخٍ , ولك أن تقول بَلخاء ؛ وإن لم يذكرْها

الفيروز أبادي إلا بمعنى الحمقاء.



هذا ما عدا ما يشير إلى هذه الغبطة والسعادة من الألفاظ إشارةً صريحةً نحو :



الجعباء : الضخمة الكبيرة.

الجَلَنْباء : السمينة وكذا الخُنضبة والخَضْعَبة والكبْكابة والحوثاء والوَعثة.

الخِدَبّة : الضخمة.

الدِخْدبة : المكتنزة.

السَرْهَبَة : الجسيمة.

الطُباخيَّة : الشابة المكتنزة.

اللبُاخيَّة : اللحمية وكذا الدعِكاية.

المُبرْندة : الكثيرة اللحم ومثلها الهُدكورة.

الثَأدة : المكتنزة الكثيرة اللحم.

الثَهْمَد : السمينة العظيمة.

الرَجْراجة : التي يترجرج عليها لحمها.

الضَّمْعَج : المرأة الضخمة التامة.

البَيْدَج : البادن وكذا البَلْدج.

الدَّحوح : العظيمة.

الدُمْلحة : الضخمة التارة.

الصَلدحة : العريضة.

البيدحة : التارّة.

المُرمورة : الناعمة الرجراجة.

الدخوص : الممتلئة شحما.

الرَّضراضة : الرجراجة.

البلِز : الضخمة.

الدَحملة : الضخمة التارة.

الدُمحلة : السمينة ومثلها الجَمُول.

الرَّبلة : العظيمة الرَبَلات.

القِصاف : العظيمة.

المُزنَّرة : الطويلة الجسيمة.

المُلعَّظة : السمينة الطويلة الجسيمة.

الهَيْكَلة : العظيمة.

الضُناكة : الصُلبة المغصوبة اللحم.

الكِناز : الكثيرة اللحم الصلبة.

المُنِزّزة : المتصلبة المتشددة.

المُلزّزة : المجتمعة الخلق الشديدة الأسر.

الخَنْضَرف : الضخمة اللحيمة الكبيرة الثديين.

القَهْبَلِس : المرأة الضخمة ومثلها المُثْخنة.

الشخيصة : الجسيمة.

الدَّيَّاصة : اللحيمة القصيرة.

العانك : السمينة.

العَبِيلة : الغليظة.

المألة : السمينة الضخمة.

الوَرِهة : وَرِهَتِ المرأةُ : كَثُرَ شحْمُها.

وخَظية بظية : سمينة مكتنزة.



وغيرُ ذلك مما لا يمكن استقصاؤه. فهل لِجنابِ مولانا القاضي المكرّم ولأميرنا المعظّم نِصْفُ هذه الأسماء والنعوت؟!



 انتهى البرهان على الخطأ في استعمال هذه العادة. )



*************

- القصة :

مقدمة

يقول السادةُ الأطباء إنّ كلَّ ما يشعر به الإنسان وما يفكّر فيه وما يعلمه عن نفسه وعما سواه يمكن ترجمتُه إلى تسلسل من النبضات العصبية ( الكهربائية ) وما ينتج عنها من أثرٍ في البروتينات التي تقع في خلايا المخ ...

تخيّل عالَماً لا تحتاج فيه إلى قضاء آلاف الساعات في استظهار المعلومات التي تحتاجها لإتقان عملٍ ما أو لاستيعاب مجال علميّ ما ... تخيَّلْ عالماً تكون فيه هذه المعلومات قابلة للنقل بكلّيّتِها في ثوانٍ معدودةٍ لتستقرّ في ذهنك كما لو كنْتَ قد قضيْتَ أعواماً في تحصيلِها ...

تخيّل عالماً يمكن فيه أن تعيش تجربةً ما _ تستغرق عُمْراً أو أعماراً _ في أيام معدوداتٍ  ؛... بإمكانك أن تكون عالمَ ذرّة اليوم وذوّاقة في شركة نبيذٍ غداً , وجرّاح أعصابٍ في اليومِ الذي يليه , ومصمم برمجياتٍ بعد ذلك ...

تخيّلْ أن هذه الخيارات المتاحة ليسَتْ سمة " عالَمٍ " بأكمله , وإنما هي خياراتٌ متاحةُ لقلة قليلة تعيش في عالمِك الذي لا تزال هذه الفكرةُ خيالاً علميًّا بالنسبة لأهله ...

تخيَّل أن هذه القلة القليلة قد استأثرَتْ بتلك التكنولوجيا ... قلةٌ من سكان هذا العالم بإمكانهم أن يعيشوا أي تجربة وأن يدركوا أي معرفة وأن يمحوا أي ذكرى سيئة وأن يحظَوا بأي ذكرى سعيدة ....

قلّةٌ قليلةٌ لديها كلُّ شيءٍ في عالمٍ لا تحظى فيه الأغلبية بأي شيءٍ ؛ بإمكانِك أن تتخيل نظرية المؤامرة التي سيغوص فيها الشخص العاديّ لو ألمّ بأطراف تلك القصة  !

*************





(1)
 أنت نجيبٌ , يا ( نجيب )

لمْ يَكُنْ قد نَطَقَ بالسؤال بعْدُ ...

كان يعرض المعلومة , وبدأتْ ابتسامتُه في الظهورِ ... فحزرْتُ في جزءٍ من الثانية أنه ينوي سؤالَنا في شيءٍ ما ويستبعد أن يجيب أحدُنا إجابةً صحيحة , ثم لم أكتفِ بذلك حتى حزرْتُ ماهية السؤال , ثم لم أكتفِ بذلك حتى أعددْتُ إجابةً وافية شافيةً في ذهني ؛ كل ذلك في أقلَّ من ثانية ..

وعندها بدا الغضبُ واضحاً على ملامحه ؛ لأنني رفعْتُ يدي وهو لا يزال يشرح , ولم يسأل عن شيءٍ ( بعدُ ) ... فعلى الأغلب ما أريده هو مقاطعتُه أو أنني أطلب الذهابَ لدورة المياه أو شيئاً من هذا القبيل ....

ثم رأى أن يشير إليّ بالحديثِ , فقمْتُ من مكاني كأني كنْتُ على زنبركٍ منضغطٍ .. فما إن أشار إليّ حتى قمْتُ وتحدثْتُ وأجبْتُ على السؤال الذي لمّا يطرحْ بعدُ ..

وحلَّتْ ملامحُ الرضا والإعجاب محلّ ملامح الغضب على وجهه ؛ وكأنه لا يصدِّق أن يكون أحد طلّابه بهذا الذكاء ؛ أن يكون مستعداً لحمل الشعلة في هذا السن المبكِّر ؛ هكذا هم أساتذة الجامعات ؛ إن أخطأتَ فلجهلك وغبائك , وإن أحسنْتَ فلعبقريّته وذكائه ...أما ( زملاء الفرقة ) فقد بدا الحسدُ والحقدُ جليًّا عليهم ؛ هذا بالضبط هو ما أرغب فيه أكثر من أيّ شيءٍ آخر ؛ إعجاب الرئيسِ وحقدُ المرءوسِ : هذه هي خلطة السعادة !

أشار إليّ لأجلسَ ثم تذكَّر شيئاً :

- "ما هو اسمك ؟"

أجبْتُ والسرور بادٍ على محيّاي _ هذا ليس من نوعية الدكاترة التي تسأل عن اسم زملائها , بله طلابها _ :

- "( نجيب ) يا دكتور ! "

- "صفّقوا لزميلكم ( نجيب ) , يا أولاد ! "

هذا كثيرٌ , هذا كثيرٌ جداً ؛ هذه ليسَتْ مدرسة ابتدائية ... ثمّ إن هذا شخصٌ لن أستغرب إن لم يكنْ يعلم أسماء أحفاده , بل ربما لا يعلم أسماء أبنائه أيضاً ... أن يسألني عن اسمي ثم يطلب أن يصَفَّق لي !!

ثمّ ... هل سمعْتَ تصفيقاً حاقداً من قبل , كُلُّ ارتطامِ كفٍّ بكفٍّ يحكي صوتَ شخصٍ يفرغ شحنة غضبه وحِقْدِه في يديه ؛ هؤلاء الأوغاد يوشك أن يخضرّ لونهم حسداً ؛ إنني في الجنة !

وكأنّ هذا لا يكفي فقد طلبَ مني أن ألقاه بعد المحاضرة في مكتبِه ؛ لماذا ؟

وعندما انتهَتِ المحاضرةُ وسار دكتور ( سلمان ) خارجاً من القاعة _ دون أن يلتفتَ إليّ_ بدأتْ أقلق ؛ هل كان يهزأ بي عندما طلب التصفيق لي وواعدني أن ألقاه في مكتبِه ؛ في النهاية لقد قاطعْتُه _ تقريبًا _ حتى أجيب على سؤالٍ لم يسألْه بعدُ , أو لعلّه لم يكنْ ينوي أن يسألَه أصلاً  وصوّرَتْ لي نفسي أنه يريد سؤالَه وأنه معجبٌ بي لإجابتي على السؤال قبل أن يُسْأل ... غزاني الرعْبُ عندما طرأتْ لي تلك الفكرة ؛ أن يكون _ هو والطلابُ _ قد هزأوا بي وأنا _ من فرط كبريائي _ لم أفطنْ لذلك !

ثمّ حاولْتُ أن أكون عقلانيًّا , وأن أفسّر الأمر منطقيًّا : إنني أرغبُ في أن يعرفَ الناسُ لي عبقريّتي واجتهادي , هذه حقيقة . ولكني في المعتاد أطلب هذا الاعتراف فلا أناله , لذا فقد اعتدْتُ أن أطلبَ أكثر مما يمنح لي .. والآن لمّا بدا أن الأمر انعكس , وأن هذا الرجل _ هذا العبقريّ _ يريد أن يمنحني أكثر مما طلبْتُ ... تصوَّرْتُ أن هناك شيئاً ليس في مكانِه , وأن هذه لا بدّ أن تكون مزحة , وأنه يهزأ بي ؛ ولكن لنكنْ واقعيِّين : لو كانتْ هناك شبهةٌ ... مجرّد شبهة .. في أنني أسأْتُ إلى ذلك الدكتور لعلمْتُ ذلك في التوّ واللحظة , لقد سبّ ابنة أحد الدكاترة سباباً سوقيًّا في يومٍ ما لأنها جرؤتْ وقالتْ له أنها لم تفهم شرْحَه , هذا ليس من نوعيّة الأشخاص الذين (يعرّضون) باستيائهم ...

رجعَتْ إليّ ثقتي في نفسي , وقلْت : أنت نجيب , يا ( نجيب ) ... إذا اعتاد الناسُ تجاهلَ ذكائك بسبب سنِّك أو بسبب (اسمِك) فإن هذا خطأ _حتى لو كان شائعاً _, فإذا فطن أحدُهم _ متأخرًا _ إلى ذكائك , فهذا هو الصوابُ ؛ إن إدمان الخطأ لا يجعله صواباً , فكفَّ عن الوسوسة  ...

عادَتْ إليّ بعضُ الثقة في نفسي وانطلقْتُ لأقابلَه في مكتبِه , فوجدْتُه في انتظاري ... أشار إليّ لأجلسَ ثم فطنَ إلى أن الباب مفتوحٌ فطلبَ مني إغلاقَه أولاً ثم أن أجلسَ فيما بعد ...

داخلني شيءٌ من الخوفِ ؛ إن هذه الأبوابَ نادراً ما تغلقُ ... على أيّة حالٍ أغلقْتُ البابَ وجلسْتُ على الكرسيّ المقابل له , فقال :

- " أنت شخص ذكيّ , بعيداً عن كونِك طالباً مجتهداً أم لا ..."

قاطعْتُه :

- " إنني أولُ الدفعة ! "

قال _ وهو لا يخفي تململه _ :

- " أنا لم أقابلْ أوّل دفعةٍ ليس حماراً من قبل , وأنت استثناءٌ يثبتُ القاعدة , ما أردْتُ قولَه أنني مهتمّ بذكائك وليس بـ" تحصيلِك العلميّ " , على أيّة حالٍ , حتى لا أطيل : هل تؤمن بنظرية المؤامرة ؟ "

نظرْتُ إليه في استغرابٍ ؛ إنه يبدو أكثر ذكاءً من أن يؤمن بنظريات المؤامرة , وحاولْتُ أن أكون دبلوماسيًّا فقلْتُ :

- " إن وجود مصالح متعارضة لأشخاص ذوي أموال طائلة ومنظمات ذات إمكانات ضخمة قد ينتج عنه إلى حدٍّ ما ... "

قاطعَني ,وهو يحاول جاهداً _على ما يظهر_ ألّا يسبّني :

- " لو كان المطلوبُ أن تستحمق لطلبْتُ منك أن تستحمق ؛ إنما كان سؤالي تمهيدٌ لما بعده عندما تجيب عليه بـ ( لا ) "

ابتسَمْتُ رغماً عني , وقلْتُ :
- " فالجوابُ هو (لا) إذن ؛ أنا لا أؤمن بنظريات المؤامرة ! "

- " بالطبع إنك لا تفعل , وكذلك أنا لا أفعل , ولكنّ بعض الأغنياء الحمقى الذين يؤمنون بها , يرغبون في " تجنيد " من هم أمثالُنا من الأذكياء ؛ أنا لسْتُ بحاجة إلى مالِهم كما أنني لا أحتمل أن أخضع لاختباراتٍ لـ (قياس ذكائي ) ؛ إن مَنْ هو مثلي لا يُخْتَبَرُ . على أيّة حالٍ عندما رأوا رفضي للتعاون معهم طلبوا منّي بدلاً من ذلك أن أوصي طلابي فائقي الذكاء بالذهاب إليهم , وهو ما هزأْتُ به ؛ لأن طلابي فائقو الغباء أولاً ... ثمّ حتى لو كانوا أذكياءَ , فلماذا أتعاون معهم ... كان هذا قبْلَ أن أكتشف أن بإمكانِهم التدخّل في أشياء كثيرة مهمة بالنسبة لي ؛ على سبيل المثال : رئاسة القسم التي حصلْتُ عليها هذا العامَ ... هذا ليس موضوعَنا : المهمّ أنني " وافقْتُ " على أن أدلّ مَن ألتمس فيه مخايلَ العبقرية من طلابي عليهم ؛ وأنت مِنْ هؤلاء .. في الواقع : أنت هؤلاء ؛ إن البقيّة حمير ... هذه هي بطاقتُهم .. "

- " ولكنْ أليسَ في هذا تسليمٌ بنظرية المؤامرة إلى حدٍّ ما ؛ تدخّلهم في اختيار رئيس قسم ؟ "

نظر إليّ , وكأنه ندم على أن منحني وقتَه , ثمّ قال :

- " إن فرّاشَ الكلية يساهم في اختيار رؤساء الأقسام , لو كانتْ هذه هي نظريّات المؤامرة لكان أيّ موظف مصري في أي مصلحة حكومية هو ضابطَ مخابراتٍ   ... على أية حالٍ ما أريد قوله هو أن تذهب إليهم  "

كان هذا طردًا صريحًا , ولكنّي كنْتُ لا أزال مبتسمًا من كلامِه ... عميقاً _ في حيث لا يطّلع على سرّي أحدٌ _ أنا معجبٌ بهذا الرجل ... شكرْتُه فتمتم بشيءٍ ما في مللٍ , فازدادَتْ ابتسامتي اتساعاً وغادرْتُ مكتبَه ...

ثمّ بدأْتُ أفكِّرُ في كلامِه .... "لا أحتمل أن أخضع لاختباراتٍ لقياس ذكائي "... لم أكنْ قد خضعْتُ لاختبار قياس ذكاءٍ من قبل , على الأقل لا شيءَ رسميًا ... ثم نظرْتُ في البطاقة فوجدْتُ العنوانَ غريباً أيضاً ... هذا حيٌّ شعبيٌّ .. هل بلغ ولَعُ هؤلاء الحمقى بنظريّات المؤامرة إلى درجة وضعِ مقرِّهم في حيٍّ شعبيٍّ من أجل التمويه ؟

ولا أدري لماذا , ولكني عزمْتُ على التوجّه لـ ( مقرّهم ) بمجرد انتهاء المحاضرات , لماذا أؤخّر الأمر إلى الغد , وهم لم يحدّدوا موعداً ؟ فلنفرغْ من هذا بأسرع ما يمكن...

***********





(2)
هذا غريب !

وصلْتُ إلى العنوان ؛ هذا ليس مقرًّا لمنظمة مؤامراتيّة تجنّد العباقرة وتغيّر تاريخ العالم ؛ هذا بيتٌ من لبِنٍ وقش !

أكاد أقسم أنني سمعْتُ صوتَ داجنٍ من داخل تلك العشة ... ولم يكن ذلك وهماً , فسرعان ما خرجَ ديكٌ تتبعه دجاجاتٌ من الباب المفتوح لتركض حول قدميّ ... ثم تبِعها رجلٌ أربعينيّ يظهر من ملابسِه أنه من سكّان العشّة ...

نظر تجاهي مستغرباً من منظري .. ثم قال في هدوءٍ _ كأنه فطِن إلى أمري _  :

- " إنهم بانتظارِك ! "

ثم سار في طريقِه , وكأنّ الأمر لا يعنيه ...

ظللْتُ متسمِّرًا في مكاني لثوانٍ أفكّر فيما قاله , ثمّ عزمْتُ على الدخولِ ... فوجدْتُ الداخل كما تصوَّرْتُه من الخارج ؛ مجموعة من الحجرات الطينية وأرضية غير مستوية ودجاجات تتناثر هنا وهناك ؛ عشّة... واسعة بشكلٍ مريبٍ ... ولكنّها عشّة ...

لذلك فقد جفلْتُ عندما جاء الصوتُ من لا مكانٍ يقول :

- " الحجرة المقابلة لك , افتح بابَها ! "

حاولْتُ أن أخمّن مصدر الصوتِ , ولكني لم أجد مكاناً مناسبًا لزرع مايكرفون ... ثم إن الصوتَ كان عديمَ المصدرِ , وكأنه صادر عن سماعة أذنٍ ...

توجَّهْتُ إلى الحجرة , وحرَّكْتُ بابَها الخشبيّ , فانفتح ...

كانَتِ الحجرةُ خاليةً من أي شيءٍ سوى مقبضٍ مثبّتٍ في الأرض .. كأنه مُعَدٌّ ليُرْبَطَ به حبلٌ أو ما يشبه ... أو أنه _ كما خمَّنْتُ _ يفتح طاقةً إلى ممرّ سريّ تحت الأرض ... هذا يبدو تفسيرًا عقلانيًّا للأمر كلِّه ...

كان الصوتُ على وشْكِ إعطاء الأمر التالي , ولكنّه انقطع بعد بدئه بثانية :

- " هناك مقبـ ... حسناً ! "

كنْتُ قد رفعْتُ المقبض فارتفع ... وبدَتْ لي درجاتُ سلّمٍ شبه بلّوريّ .. لا تتناسبُ فخامتُه مع صوتُ الدجاجاتِ الذي لا يزال يصلني من خارج الحجرة ... إن كان هؤلاء يريدون إبهاري فقد نجحوا !

نزلْتُ السلّم , وبدأتْ معالم الطابق الأرضيّ تتضح لي ... ممرّاتٍ شديدة الفخامة ... شديدة الضيق ... تتقاطع كأنها متاهة ...

سرْتُ على غير هدى متوقعًا أن أصل إلى شيءٍ , ولكن بعد لحظاتٍ فطنْتُ إلى أنني قد تهْتُ , فتوقفْتُ مكاني , ثم ارتفع صوتُ قَرْعِ حذاءٍ في أحد الممرات خلفي .. فيمَّمْتُ وجهي شطر الصوتِ لأجد صاحبتَه مقبلةً عليّ ..حسناء في مقتبل الشباب ترتدي بزة كاملةً , وقد أسبلَتْ شعرَها وراءها , فبدَتْ كأنها خارجة من إعلان تلفازيّ لشركة توظيف ... إلا أنها _ خلافاً لفتيات الإعلانات _ لم تكن تبتسم .. بل كانتْ أقرب إلى العبوس , أو الجدّيّة ....

مدَّتْ يدَها إليّ , فصافحْتُها , ثم قالتْ :

- " لقد كنّا بانتظارِك ! "

- " إنّ الدكتور لم يسمِّ موعداً , لقد كان من الممكن أن أرجئ المجيء للغد .. فلماذا كنتم بانتظاري ؟ "

ابتسمَتْ ابتسامةً خفيفةً , ثم أشارَتْ بيدِها لأتبعها , فسرْتُ إلى جوارِها بدلاً من أن أمشي خلفَها , ولكنّ ضيق الممرّ قد جعل ذلك مستحيلاً تقريباً , فقالتْ في ضيق :

- " إن كنْتَ تعرف إلى أين نتّجه , فتقدَّمْني ! "

- " أنا لا أسير خلفَ نساءٍ ! "

- " عداءً للمرأة ؟ "

- " بل على النقيض من ذلك ! "

كانتْ إجابتُها مخيفةً :

- " نحن نعلم ذلك , على أيّة حالٍ إن كنْتَ لن تزيد على النظر , فأنا لا أبالي .. "

ثم سارَتْ أمامي ...

وكأنني كنْتُ مخدَّراً وأعادتْني جملتُها تلك إلى الواقع , فبدأتُ أفكّر : كيف استطاع هؤلاء بناءَ كلِّ هذا في هذا الحيّ الشعبي , كيف علموا بمجيئي وانتظروني , كيف علموا بـ" ذلك " ... لوهلةٍ بدا لي أن الأمر لا يزيد على محاولة إبهارٍ منهم ؛ تتطلّبُ أموالاً طائلةً , ولكن ليس وراءَها شيءٌ أعمقُ من ذلك ... أمّا الآن فيبدو أنهم _ بالفعل _ يملكون شيئاً يجعل منهم جماعةً مختارةً متمايزةً عن بقية الناس ؛ كان هذا مخيفاً ...

ألهاني استغراقي في تلك الأفكار عن اتّباعها ؛ بل حتى عن " النظر " , وانتبهْتُ إلى فرقعة أصابعِها _ وقد التفتَتْ نحوي _ , ثم قالتْ :

- " سنجيب على أسئلتِكَ هذه كلّها فيما بعد , ولكن عليكَ أن تتبعني أوّلاً "

خطرَتْ لي خاطرةٌ كنتُ لأعدّها سخيفةً في غير هذا الموطن , ولكن بعد ما رأيْتُه وما سمعْتُه للتوّ بدَتْ واقعيّةً للغاية , فسألْتُها :

- " هل تعلمون فيم أفكر ؟ "

هذه المرّة ابتسَمَتْ ابتسامةً عريضةً , ثم قالتْ :

- " هل تعتقد أنني من الذكاء بحيث أتوقع بنسبة مئة في المئة ما تفكر فيه ؟  "

- " ليس هذا ما قصدْتُه ! "

- " فالجواب إذن هو : لا ! أنا لا أعرف ما تفكّر فيه ... ولكنّنا نأملُ أن تساعدَنا في ذلك "

- " بأن أخبرَكم بما أفكّر فيه ؟ "

- " حسناً , دعْنا لا نستبقْ الأحداثَ .. هلّا سرْتَ معي رجاءً "

هذه المرّة تبعْتُها ... وبذلْتُ جهداً خرافيًّا _ كنْتُ معتاداً على بذلِه _ حتى أبقي نظري معلّقاً بالسقفِ ...

كانتْ كل الممراتِ متشابهةً , ولكنّها وقفَتْ أمام إحدى اللوحاتِ المتماثلة التي تزدان بها جنباتُ الممرّات , ووضعَتْ كفَّها عليها ... فتحرّك ضوءٌ تحت يدها وكأنه جهازٌ لمسح البصماتِ ... ثم رفعَتْ يدَها عن اللوحة ... فبدأَ الجدار المقابلُ للوحة في الانزياح إلى الداخل قليلاً ثم الانسياب جانبيًّا , كاشفاً عن حجرةٍ واسعةٍ خلفَه ...

كان المشهد في تلك الحجرة أقربَ إلى ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن جماعة سريّة نخبويّة تستحوذْ على تكنولوجيا متقدمة ؛ عشرة أفراد بينهم امرأتان ... جميعُهم طاعنٌ في السنّ ... يرتدون ثياباً ناصعة البياض , مطرزة بنقوش ذهبيّة , أشْبَهَ شيءٍ بما كان يرتديه أثرياءُ الفراعنة في إحدى الأسر ..وهم جالسون إلى طاولة يبدو أنها تحتوي شاشاتٍ تحت زجاج سطحها , أو أنها كلّها جهاز حاسبٍ ضخم فهي تحلّل المعلومات وتعرضها على الجالسين ...

رفع أحدُهم عينَه إلى الفتاة التي قادتني إلى الحجرة , وأشارَ إليها فانصرفَتْ , وانغلق البابُ وراءها .. 

عادَ الصمْتُ ليخيّم على الجلوس .. ولم يبدُ أن أحدَهم يستشعر الحاجةَ لأن يقول شيئاً , وكأنهم اعتادوا أن يجلسوا ساكتين في حضرةِ بعضهم البعض ... ولكني لم أعتَدْ ذلك , فبادرْتُ بالقول :

- " لقد كنْتُ أتوقّع أن تكون هناك اختبارات ما ... لِيُبْنَى عليها ما إذا كنْتُم ستضمونني إليكم "

ظلوا صامتين لثوانٍ قبل أن تجيبَ إحدى المرأتين, ويبدو أنها كبيرتُهم ( لأنها بمجرّد أن بدأتْ في الكلام توجَّهَتْ أبصارُهم إليها في مهابة , وكأنها كاهنة في معبد وثني )  :

- " لا حاجةَ للاختبارات "

حسناً ؛ إذا لم تكنْ هناك حاجة لاختباراتٍ فإما  أنني قد قُبِلْتُ بالفعل , أو أنني قد رُفِضْتُ بالفعل , فليخبروني بقرارِهم إذاً ... ظلَلْتُ أنتظر أن يضيف أحدُهم شيئاً , ولكن الصمتَ كان سيّد الموقف , فاضطررْتُ مرةً أخرى للكلام :

- " هل يعني هذا أنني أصبَحْتُ عضواً ؟ "

ظلّوا على صمْتِهم , فبدأتُ أضيق ذرعاً , وقلْتُ :

- " حسناً , أعتذر على إضاعة وقتِكم , هلّا سمحتم لي بالمغادرة , رجاءً ! "

هنا جاءَتْ الإجابة مباشرةً من الكبيرة, قالَتْ :

- " لا يُسْمَحُ لأحدٍ بالمغادرة وهو يعلم مَنْ نحن "

آه .. هكذا إذاً , هذا الأمر سينتهي بقتلي حفاظاً على سريّة هويّتِهم أو أيًّا يكن , ولكني لا أعلم عنهم شيئاً سوى ملامحِهم , ولكن منْ يهتمّ ؟  .... كان أولُ ما تبادر إلى ذهني أن أركض هارباً , ولكن إلى أين ؟ لقد اختفى الباب , وأنا لا أعرف كيف فتحَتْه تلك الفتاة عندما غادرَتْ , بدا لي حينَها أنه فُتِحَ من تلقاء نفسه , أو لعلّ هذه الطاولة/ الحاسوب فيها خيارٌ يسمح بفتح الباب ...

عادَتْ زعيمتُهم للكلام :

- " لا داعي للخوف , ما عنيْتُه هو أنّ مَن يرانا إما أن يكون عضواً , وفي تلك الحالة فهو يعيش هنا . وإما ألا يكون  عضواً , وفي تلك الحالة فإننا نضمن قبل مغادرتِه أن ينسى كلَّ ما رآه ! "

- " كيف تضمنون أنه سينسى كلّ ما رآه ؟ "

تجاهلَتْ سؤالي , وقالتْ :

- " عندما قلْتُ أنه لا حاجة للاختباراتِ فإنني كنْتُ أشيرُ إلى أن كل ما نحتاجه هو أن تضع تلك الخوذة على رأسِك لبضعة ثوانٍ , ثم سنخبرُك بعدها إن كنْتَ ستقبلُ أم لا "

خوذة ؟ ... نظرْتُ إلى اتجاه يدِها فلمْ أرَ خوذة .. بل وجدْتُ غطاء رأسٍ جلديّ موضوع على طاولة صغيرة في زاوية الحجرة , وليس موصولاً به أي أسلاكٍ ... نظرْتُ إليها في عدم تصديقٍ , ولكنّ ملامحَها لم تشِ بأي رغبةٍ في الهزل , فقررْتُ أن أجرّبَ حظي ..

سرْتُ إلى الطاولةِ الصغيرة ووضعْتُ غطاء الرأس على رأسي , فأحاط برأسي وغطى عيني حتى أرنبة أنفي , وأذني حتى جانب عنقي ؛ أنا لا أعتقد أن رأسي بهذا الصغر , بل على النقيض من ذلك ؛ لقد كان حجم جمجتي ضخماً للغاية , حتى إن أحد الأطباء أراد التأكد من أنها ليسَتْ حالة مرضية... فهذه " الخوذة " صمّمَتْ لتغطي العينين والأذنين إذاً ...

قبل أن يحدث أي شيءٍ جاءني صوتُ المرأة مرةً أخرى :

- " هذا كافٍ ؛ انزع الخوذة ! "

لو كان هذا أحد برامج الكاميرا الخفيّة , فسأنفجر غيظاً ... ولكنّي لم أتصوّرْ أن برنامجاً ما يدفع كلّ هذه الأموال ويمتلك كل هذه التكنولوجيا من أجل خداع الناس ... ولذلك فقد أطعْتُها , ونزعْتُ " الخوذة " .... ابتسمتْ لي ( كان هذا حدثًا على الذي يظهر , فقد نظر إليها أحد زملائها/ أتباعِها في دهشة ) , ثم قالَتْ :

- " مسرورون بانضمامك إلينا , ستعود ( نور ) لتريَك غرفتَك , وستفسّر لك ما حدث وماهيّة ما أنت فيه "

كنْتُ بحاجة إلى تفسير ما حدث , ولكني لم أكنْ أرغبُ في أن تفعلَ ( نور ) ذلك , إن لديّ مشكلة قديمة في التعامل مع الفتيات الحسناوات ؛ نقطة ضعف إن صحَّتِ العبارة ...

لم تمهلْني ( نور ) كثيراً حتى فتحَتِ البابَ _ أو الجدار , أو أيًّا يكن _ , وانحنَتْ للجالسين على الطاولة , وأشارَتْ إليّ لأتبعهَا , وما إن خرجْنا من الحجرة حتى بادرْتُها بالسؤال :

- " لقد ذكرَتْ تلك السيدة التي يبدو أنها الكبيرة ...."

- " ( واحد ) "

- " واحد ماذا ؟ "

- " اسم تلك السيدة ( واحد ) , إن الجميع يسمّى حسبَ مكانتِه في الترتيب الهرمي هنا , بما أنك قد صرْتَ منّا الآن , فعليكَ أن تعرفَ ذلك .. "

- " ولماذا اسمُكِ ( نور) إذًا ؟ "

- " من حق ( واحد ) أن تسمينا بأسماء ميلادِنا إن شاءَتْ , ولكننا لا نسمي أنفسَنا بها ؛ إن اسمي _ بالنسبة لك _ هو ( اثنان وتسعون ) "

- " هذا يبدو سخيفاً , على أية حال ... ( واحد ) قالَتْ إن مَنْ يُقْبَل كعضوٍ لا يخرج للخارج , ما الذي عنَتْه بذلك ؟ هل يُطْلبُ مني التخلي عن دراستي وأسرتي من أجل الانضمام إلى هذا الشيء ؟! " 

- " يبدو أنك لم تستوعبْ بعدُ حجم هذه المنظمة التي صرْتَ جزءاً منها .. "

كنّا قد وصلْنا إلى إحدى اللوحاتِ المتماثلة في أحد الممرّات المتماثلة , ولكن ( نور) قد وقفَتْ أمامَها , فتوقَّعْتُ أن تكون غرفتي خلف هذا الجدار أو ذاك , وبالفعل فقد وضعَتْ يدها على اللوحة فمر المستشعر الضوئي تحت أصابِعها , ولكن الجدار لم يتحرك , فأشارَتْ إليّ أن أضع يدي على اللوحة كذلك , ففعلْتُ , وهنا بدأ الجدار في الانزياح والانسياب ليكشف لي عما يبدو أنه غرفتي ...

دخلَتْ ( نور) أولاً , وجلسَتْ على حافّة السرير الوثير الذي يتوسّط الحجرة , وأشارَتْ إليّ لأجلس على الأريكة المقابلة لها , ففعلْتُ , ثم التقطَتْ نفسًا عميقاً , وكأنها تهيّئ نفسَها لما توشك أن تقوله :

- " حسناً , فلنبدأ من البداية : قبل سنين طويلة , حدث أنْ أسِّسَتْ جمعيةٌ غير ربحية تهدف إلى توفير التمويل اللازم للأبحاث غير التقليدية في الذكاء الاصطناعي ... كانَتْ الأبحاث التقليدية في ذلك المجال نادرة وعسيرة في تلك الفترة, فكانتْ مقصورةً على كبريات المراكز البحثية في العالم , كما أنها تتطلب تمويلاً ضخماً , لذا فقد رأى القائمون على هذه المنظمة _ مراعاةً للإمكانيات المحدودة , وطلباً للتميز عن تلك المراكز الكبرى _ أن يموّلوا الأبحاث غير التقليدية ....

وبالطبع فقد كانَتْ هذه فكرة فاشلة إلى حدٍّ بعيدٍ , وفقدَتْ المنظمة مصداقيّتَها لدى المتبرّعين والمساهمين , وكانتْ على وشك إيقافِ نشاطِها ...ثم تغيّر كل شيءٍ عندما دخلَتْ ( واحد ) في الصورة , كخريجة علوم شابة.. "

- " شابّة ؟ لا بد أن هذا كان قبل الحرب العالمية الثانية ! "

ابتسمَتْ ( نور) , وقالَتْ :

- " على أية حالٍ ... استطاعَتْ ( واحد ) الوصول إلى نتائج مبهرة , ولكنّ المتخصصين في مجال الحاسب ( وكان مجالاً وليدًا آنذاك ) لم يقتنعوا بأهميّة ما وصلَتْ إليه , وفي النهاية فقد أعلَنَتْ المنظمة وقف نشاطِها ... واضطرَتْ ( واحد ) إلى البحث عن مموّلين جدد ... ولكنّها لم تنتهِ إلى شيءٍ ... كانَتْ هذه هي السبعينات , ومن المستحيل أن تحصل شابّة في منتصف العشرينات على تمويل أو اعتراف من أي جهة , في الواقع لقد كانتْ الضغوطُ عليها لتتزوج وتتفرغ إلى أسرتِها أكبرَ من قدرتِها على التحمّل , لذا فقد قرَّرَتْ أن تهاجر إلى الولايات المتحدة... وكان ذلك من حسن حظ الجميع , فسرعان ما استطاعَتْ الحصول على وظيفة جيدة في شركة مرموقة , ثم عرضَتْ نتائج أبحاثِها على بعض زملائها فقرروا أن يشاركوها بحثَها , وأن يكون تمويلهم ذاتيًّا ؛ عشرة أفراد ؛ ثمانية شباب وشابّتان ... لقد رأيْتَهم قبل قليل في تلك الحجرة "

هذا يفسّر لماذا ظل البقيّة صامتين كأنهم لا يفهمون ما أقوله ...
عادَتْ ( نور ) للسرد :

- " وحتى لا نخوض في التفاصيل ... فبعد عقودٍ من العمل المضني وصلوا إلى ما يمكن أن نقول إنه نقطة فاصلة في تاريخ الحضارة البشريّة , ولكن خوفهم من أن يُسَاءَ استغلالُ اختراعَهم حملَهم على الحفاظ على سرّيّتِه , هذا صعبٌ في الولايات المتحدة . ولكن في مصر , من السهل _ عندما ترشو الأشخاص المناسبين _ أن تُبْقي أيَّ شيءٍ بعيداً عن الأوراق الرسمية , ولذلك فقد عادَتْ ( واحد ) قبل بضعة سنين إلى بلدها الأم , وبدأتْ في تحويل هذه الجماعة البحثية إلى منظمة سرّية ذات مصالح متشعبة , ونظام سرّي يذكّر بصورة الجماعات الماسونيّة في فكر أصحاب نظرية المؤامرة "

- " ما هو هذا الاختراع الذي سيغير تاريخ البشرية , والتي تخشى ( واحد ) من استغلاله ؟ "

- " لقد سألْتني : إذا كنْتُ أعرف ما تفّكر فيه . أنا لا أفعل , ولكنّ هذا الاختراع يفعل ... لقد كان الهدف النهائيّ لأبحاث ( واحد ) هو الوصول إلى ذكاء اصطناعي يفوق قدرةَ البشر الذهنية ... ولكن ما وصلَتْ إليه كان استغلال الذكاء البشريّ بدلاً من محاكاته أو التفوق عليه .. "

- " استغلال ؟ "

- " تماماً كما يحدثُ في الغش في الامتحانات , بدلاً من إجهاد نفسك في المذاكرة , تستغل مذاكرة شخص آخر ... أو أشخاص آخرين للدقة "

- " ما الذي يفعله هذا الاختراع بالضبط ؟ "

- " إنه يعرف ما تختزنه ذاكرتُك _ حتى لو كنْتَ على مستوى وعيِكَ قد نسيتَه _ , ثم إنه يعرف كيف ينقل هذه الأفكار المختزنة بنفس هيئتِها إلى عقل شخصٍ آخر ... وكيف يمحو فكرة ما أو يثبتها بنفس الكيفية التي تحدث بها في العالم الواقعي ؛ لنفرضْ أنّك تريد نقلَ الخبرةِ اللغويّة لمتحدّثٍ بالفرنسية كلغةٍ أمٍّ إليك , وأنت لا تفقه حرفاً من الفرنسية , فإن هذا الجهاز _ في لحظة واحدة _ سيجعلك تفهم كلَّ شيءٍ يُقَال بتلك اللغة , بنفس قدرة الشخص الأول , بل بنفس أخطائه كذلك "

بدأتْ معالمُ الفكرة بالاتضاح في ذهني :

- " بدلاً من بذل سنين في إدراك معارفَ ما ثم استغلالها في الوصول إلى حلول علمية للمشاكل المطروحة , فإن هذه المعارفَ ستنتقل في زمن ضئيلٍ للغاية , ولا يبقى إلا التفكير في الحل ؟ " 

- " بالضبط , ولكنّ الأمر أكبر من ذلك : الشخص العادي يبذل جهداً فائقاً لإدراك المعارف المختلفة , ولكنّ أحدَ الأسباب التي تجعل هذا الجهدَ فائقاً هو أنه منشغل في الوقتِ نفسِه بإشباعِ رغباته الجسدية والجنسية والعقلية والفنيّة ... ومنشغلٌ بالحصول على إعجاب الآخرين ورضاهم عنه ومنشغلٌ بانتمائه لمجموعةٍ ما , والتوفيق بين ذلك وبين علاقتِه بالآخر , وهو منشغلٌ بمساهمتِه في حلِّ مشاكل مجتمعِه ودولتِه وإقليمِه وكرتِه الأرضية ... إنه يستخدم العلمَ ليتغلبَ على كلِّ هذه المشاكل , ولكنه في الوقتِ نفسِه لا تتاح له الفرصة لتلقي العلوم _ بل لا تتاح له الفرصة للحياة _بالصورة الأمثل بسبب كل هذه المشاكل .. " 

هذه هي العقدة ! قاطعْتُها قائلاً  :

- " مخدّرات ! تريدون خلق واقع افتراضي يتلهى به الشخص عن مشاكله الفعليّة ! "

- " ليس بالضبط .... نعم , نحن نخلق واقعاً "افتراضيًّا" يتسبب في إطلاق هرمونات السعادة في المخ , ويجعل الشخص يرجئ _ وليس ينشغل_ عن الحل " الفعليّ " لتلك المشاكل ... ولكنْ فكِّرْ في الأمر من زاوية عقلانية : كل المشاكل التي نعاني منها سببُها رغبتُنا في الاستمرار في الحياة , نحن نخشى أن تقف هذه المشاكل عائقاً يحول دون استمرار الجنس البشريّ , ومن ثم فإن العقل يفرز هرمونات السعادة عند تغلّبنا على تلك المشاكل , ويفرز هرمونات للكآبة عند تعرّضنا لها ... ولكنّ هذا العقلَ غيرُ مقدّس , إنه جزء من الجسد ؛ الجسد الذي تهاجم خلاياه المناعية خلاياه السليمة وتدمّرها ؛ الجسد الذي تتحوّل خلاياه إلى خلايا سرطانية وتقتل الجسم ؛ الجسد الذي يرفع درجة حرارتِه ليتغلّب على الجراثيم فيقتل نفسَه ... إن علينَا أن نكفّ عن تصديق مثاليّة ذلك الجسد وذلك العقل , وأن نتولى كتابة مستقبلِنا بأنفسِنا "

- " ولكنّ ما الدافع إلى إيجاد تلك الحلول , وإلى كتابة ذلك المستقبل ؟ عندما تضع الجائزة قبل المسابقة , فمن الذي سيتسابق ؟ الشخص الذي تطلب منه أن يساهم في التغلب على المشاكل التي تحاصره , بينما أبخرة الأفيون قد وصلَتْ به _ بالفعل _ إلى قمة درجات السعادة , هذا الشخص لن يهتم بما تطرحه عليه ! "

- " لا أعتقد أنك تستوعب تماماً مشكلة المخدرات تلك ؛ أزمة المخدرات تكمن في ثلاثة أشياء : الأول هو الإدمان وأعراض الانسحاب , الثاني هو الضرر الجسدي أثناء تناولِها , ثم الثالث والأخطر هو ما تشير إليه . وما نعرضه نحن يختلف عن المخدرات في كل تلك الجهات : أولاً : لا توجد أعراض انسحاب من أي نوع ؛ عند رؤية ما ترغب فيه " افتراضيًّا "  فإن عقلُك لا تتوقف قدرتُه على إفراز كافة الهرمونات التي يفرزها في الظروف الطبيعية ؛ فلا توجد أعراض انسحاب . ثانياً : لا يوجد ضرر جسدي من أي نوع على المخ أو سائر الجسد . ثالثاً _وهو الأهم_ : إن ما نعرضه ليس انشغالاً عن الواقع , وإنما تحجيم لأثر الواقع على الشخص حتى يستطيع أن يفعل ما يشاء دون ضغوط ؛ حتى يتولى هو بنفسه تحديد الأولويات , والبدء بما يراه مناسباً .. الأمر يشبه معالجة نزلات البرد ؛ عندما يمنحك الطبيب ما يضعف المناعة  التي تسبَّبَتْ في الأعراض , وفي نفسِ الوقت  يمنحك ما يقضي على مسبّب المرض ... نحن نفعل هذا : نتيح لك أن تعيش أحلامَك وتتغلب على مخاوفك وذكرياتك السيئة , وفي الوقت نفسه نمنحك المعرفة الكافية لتجعل هذه الأحلام واقعاً وتتغلب على المشاكل الواقعية التي أضنَتِ الناسَ وناءَتْ بها البشرية ... الفكرة ليست في الهروب إلى الواقع الافتراضي وترك مشاكل الحياة الواقعية كما هي ... وإنما الفكرة في استغلال هذا الواقع الافتراضي للتقوّي على مواجهة تلك المشاكل "

لم أكنْ مقتنعاً , من الصعب أن تقنعني بشيءٍ كهذا ؛ ويبدو أنّ ( نور ) قد فطنَتْ إلى سبب اعتراضي , فقالَتْ في حذرٍ :

- " ما هو توجهك السياسي ؟ "

- " أعتقد أنكِ من الذكاء بحيث تتوقعين ذلك ! "

- " أقصى اليسار ؟ "

- " لا زالَتْ هناك خطوتان أو ثلاث حتى أصل إلى أقصى اليسار , ولكنني يساريّ بما يكفي لأستشعر الخوفَ البالغ مما تعرضونه "

- " هل يبدو لك أن ما "نعرضه " هو تنويعٌ على : من عاش معذّبًا مسكينًا تتداعى عليه الكوارث ولكنه متفانٍ في إيمانه فسيحوز السعادة الأبديّة ؟ "

- " هناك وجه شبه لا يُنْكَرُ ؛ من عاش معذَّبًا مسكينًا تتداعى عليه الكوارث ولكنه مستغرقٌ في واقعه الافتراضي , فلن يشعر بأي دافع يدفعه لتغيير ما تسبَّبَ في كونه معذّبًا مسكيناً , ومن ثم فلْيَتْرُكِ المستغِلِّينَ وشأنَهم !  "

- " حسناً , دعْنا نضعِ الأمرَ هكذا : أنت لسْتَ ملزَماً بأن تعيشَ (تجربةَ الواقع الافتراضيّ) تلك , وإذا شعرْتَ أن ما نقوم به لن ينتج عنه تحقيق الرفاهية لجموع البشرية _ في المستقبل البعيد على الأقل _ فبإمكانك أن تنسحب من المنظمة , سنمحو ذكرياتِك عنها , وكهديّة بإمكاننا أن نعوضك عن الفترة التي انشغلْتَ فيها عن دراستك بـ " نسخة كاملة " من المعارف الأكاديميّة التي يتلقّاها الطالبُ في كليّتك حتى مرحلة التخرّج , مباشرةً في مخك . هل هذا مقبولٌ بالنسبة لك ؟   "

- " هذا سيخلق منافسة غير شريفة بيني وبين بقية الطلبة في دفعتي ,  ولذا فإني أرفضه ! "

- " حسناً , بإمكانِكَ أن تعوِّضَ تلك الفترة " يدويًّا" , وتتدارك ما فاتك "

- " هذه لن تكون مشكلة ؛ لأني سأمنحكم فترة تجربة صغيرة
... لن تتجاوز أسبوعاً ... ثم سأرى إن كانتْ هذه " المنظمة " تتوافق أهدافها مع أهدافي أم لا "

ابتسمتْ ( نور ) , ثم قالَتْ :

- " لو سمع أحد بإلحاحي عليك ورفضك , لظنّ أننا نطلب منك خدمة ولسنا نعرض عليك واحدةً  . ولكنْ على أيّةِ حال : بإمكانكَ أن تبدأ في أي وقتٍ ترغبُ فيه ... هناك حاسبٌ في هذا المكتبِ على يسارك , نعم ... فيه ! فقط تعامل مع الزجاج العلويّ للمكتب على أنه شاشة ... وهناك خوذة ( نحن نسميها خوذة , وإن كانتْ أشبه بغطاء الرأس ) داخل هذا الدرج , إنها لا تعمل إلا إذا قمْتَ بتفعيلِها بواسطة الحاسب/ المكتب , ستجد في الحاسب أيضاً خيارات لجلب أي شيءٍ تريده : طعام , شراب , ملابس ... بنقرة زر سينتقل أيّ شيءٍ تطلبُه إلى هذا الشيء في الجدار الذي يشبه غسالة أطباق , إن النظام كلَّه مؤتمت , ولذلك لا تستحيِ من أن تعيد طلب شيءٍ أو تردّه أو تغيّره ... أيّ شيءٍ آخر ؟ "

- " كيف أتواصل مع أحدكم ؟ "

- " كل شيءٍ تحتاجه في الحاسب ... آه , بالمناسبة , لقد كدْتُ أنسى : هذه بطاقتُك , أبقِها معك عندما تتواجد خارج غرفتِك ؛ إنها مهمة إلى حدٍّ ما "

نظرْتُ فيما ناولتْني إياه , فوجدْتُها أشبه ببطاقة عبورٍ , عليها اسمي _الذي صار (مئة واثنان)_ وصورتي ...

رفَعْتُ عيني إليها , فقالَتْ :

- " أراك على خير , ( مئة واثنان ) ! "

ثم انسحبَتْ من الغرفة راجعةً القهقرى ووجهُها لي , وكأنها تذكّرني بحوارِنا الأوّل ؛ إن لديّ مشكلة , وعليّ أن أتغلبَ عليها , ولكن لا داعي لتذكيري بها كلَّ ثانية ...

قبل أن تفتح الباب وتغادر , توقفَتْ لفترةٍ وقالَتْ :

- " في الواقع الافتراضي , بإمكانك أن تصنع كلّ ما ترغب فيه بعدد لا نهائي من الفتيات " الافتراضيّات" بدون أيّ مانع أخلاقي أو إنسانيّ ... فكِّرْ في الأمر ؛ أنا لا أريد أن أغادر كل مكان يجمعني بكَ بعدكَ , أو راجعةً القهقرى , حتى لا تحدِّق في مؤخرتي "

ثم انصرَفَتْ , تاركةً إياي في خزيي الذي سبَّبَتْه كلماتُها ...

بدأَتْ فكرةُ الواقع الافتراضيّ هذه تحوز رضاي نوعاً , أنا لا أهتمّ بأن أعيشَ في منزل ضخم في جزيرة في البحر الكاريبي أتناول ما لذّ وطاب وأستمتع بالشمس والبحر والرمل , أو أيًّا يكنْ ؛ حياة الأثرياء هذه لا تعنيني ... ولكن ما أشارَتْ إليه ( نور ) قبل قليلٍ يعنيني , ويعنيني جداً

عادَ عقلي يداعب الاحتمالات الممكنة ؛ أنا لم أجرِّبْ هذا " الاختراع " بعد , ولكن من وصف ( نور ) له  يبدو أنه شديد التقدّم ... أنْ أعيش أي تجربة مع أي شخص " افتراضي " في أي سياق , بدون أن يكون فيما أصنعه تجاوزٌ من أي نوع لِحَقِّ إنسانٍ آخر , هذا إغراءٌ فوق قدرتي على التحمل ...

نظرْتُ إلى المكتبِ وإلى الخوذة التي أخرجْتُها من الدرج ؛ ثم حسمْتُ أمري ...

***************





( 3 )
لم يعد ثمة معنى للعيب

لم يكن جهاز الحاسب هذا يشبه أيّ شيءٍ رأيْتُه من قبل , ليس بذكاء البشر كما أشارتْ ( نور ) , ولكنّه متقدم للغاية , ويستطيع تفسير الأوامر الصوتية وإصدار تنبيهاتِه في صورة صوتية كذلك ؛ حتى إنك تعتقد لوهلة أنك تتعامل مع شخص عاقلٍ ؛ لم يكنْ هذا هو الاختراع الفذّ , ومع ذلك فهو _ في حدّ ذاتِه _ مثيرٌ للإعجاب ...

بدأْتُ في استكشاف إمكانيّات الحاسب , ثم قرَّرْتُ أن أخطو الخطوة الكبرى وأستكشف الخوذة , وضعْتُها على رأسي فلم يحدثْ شيءٌ , ولكن صوتَ تنبيه وصلني من المكتب / الحاسب يخبرني أن أفعّل الخوذة , فتذكّرَتْ قول ( نور ) أن عليّ تفعيلَ الخوذة أولاً ... ففعلْتُها ...وأعدْتُ وضع الخوذة , وهنا وجدْتُها تلتصق برأسي أكثر وأكثر حتى انطبقَتْ عليه تماماً , ولم أعدْ أرى أو أسمع شيئًا مما حولي , ثم لم أعد أحسّ بشيءٍ أيضاً , فذعرْتُ , ولكنّ صوتاً رخيماً بلغ أذني قائلاً  :

- " ( مئة واثنان ) ! , لقد اخترقَتْ مستشعراتٌ شديدةُ الدقة جمجمتَك للتوّ , ومنعَتْ إحساسك بما حولك ؛ هذا يشمل شعورك بالضغط والحرارة والجاذبية ؛ سأقومُ أنا بمراعاة كلِّ هذا , وعند وجود أي خطرٍ فسأزيل المستشعرات وستعود إلى إحساسك بما حولك لتتفادى الخطر _ وإن كان حصول أي شيءٍ غير مألوف مستبعداً _ , والهدف من هذا أن تكون أيُّ تجربة تمرّ بها واقعية تماماً . شكراً "

بمجرّد انتهاء الرسالة بدأتْ الخيارات تتوارد أمام عيني , كان هذا يشبه أجهزة الواقع الافتراضي التي تطوّرها شركات الألعاب , ولكنّها واقعية تماماً , فكأنني أختار من قوائم ورقيّة حيّة ...

كانتْ الخيارات تشمل كلَّ شيءٍ يمكن التفكير فيه ؛

( هل تريد أن تُوضَعَ هذه الجلسة في الأرشيف العام للمنظمة حتى يعود إليها الأعضاء الآخرون إذا رغبوا ؟) أجبْتُ بـ ( لا ) .

(هل تريد أن يطّلع أعضاء بعينهم على ما ستمرّ به في هذه الجلسة إذا رغبوا ؟ وإذا كانتْ الإجابة بنعم , فمن هم ؟ ) فكَّرْتُ في ( نور ) , ثم رأيْتُ أن أجيب بـ ( لا ) , ولكنّي قرَّرْتُ أن أسأل :

- " هل هناك أعضاء آخرون يسمحون بالاطلاع على جلساتِهم ؟ "

جاءتْني الإجابة :

- " معظم الأعضاء يسمحون بظهور جلساتِهم _ ولكن بدون أن تقترن بأسمائهم_ ؛ من أجل أغراض الدراسة : وهذا هو السؤال التالي "

فأجبْتُ بـ ( لا ) , وجاء السؤال التالي :

( هل تسمح بأن يطلع أعضاء آخرون على محتوى هذه الجلسة _ بدون أن ترتبط باسمك _ من أجل أغراض الدراسة ؟ )

أجبْتُ بـ ( نعم ) .

واستمرَّتْ الأسئلة في التوالي , حتى وصلْتُ إلى سؤالٍ نبهني الجهاز إلى خطورتِه  :

( إلى أي مدى ترغب في أن أقرأ ذكرياتِك وأفكارِك _ بما فيها ذلك الذي استقرّ عميقاً في لا وعيِكَ _ أثناء الجلسة ؟ )

لم يكنْ هناك اختياراتٌ , ولكني أجبْتُ :

- " اقرأ كلَّ ما تستطيع قراءتَه , سأنبهك أثناء الجلسة إذا رفضْتُ استمرارَكَ في عرضِ  شيءٍ ما "

كانتْ هذه هي نهاية الأسئلة ...

فجأةً اختفَتْ الخياراتُ , ووجدْتُني أقفُ منفرداً في شاطئٍ رحبٍ , وليس عليه أحدٌ غيري , كان يشبه أحد الشواطئ التي زرْتُها من قبل في طفولتي , ولكنّه كان خاليًّا من الناس, وكان واقعيًّا بصورة مخيفة .... إحساسي بالرمل يتسرب بين أصابع قدميّ , نسيم الهواء , صوت الموج , صفاء المياه والسماء , صوتُ خفق أجنحة النوارس , رذاذ الموج الواقع على جلدي يسهم في خفض درجة حرارته , بينما ضوء الشمس يكسبني دفئاً محبَّبًا ... من أين جاءَتْ كلُّ هذه التفاصيل ؟ جاءَتْني الإجابة على شكل صوتٍ منبعثٍ من داخل رأسي :

- " لقد قامتْ المنظمة بإدخال كمياتٍ هائلة من المعلومات تسمح بتحويل أي صورة لأيّ مكان _مهما كانَتِ الصورةُ بدائيّة _ في ذاكرة أي عضو إلى مسرح أحداثٍ حقيقيّ واقعيّ , نفس الشيء ينطبق على الأشخاص ؛ لو لم ترَ شخصاً إلا للحظة واحدة , أو حتى رأيْتَ صورتَه فقط سواءً كانتْ صورةً واقعيّة أو خرافيّة , فبإمكاني أن أحوّله إلى كائن حي تامّ "

كنْتُ قد اخترْتُ بقاءَ صوْتِ الجهاز مصاحباً لي في هذه الجلسة , كان هذا أحد الخيارات _مع التنبيه إلى أنّ مصاحبة الصوت لي قد يضعف من الإحساس بالواقعية_ , ولكني كنْتُ مهتماً بمعرفة كلِّ تفصيلٍ ممكن , فلم أبالِ بالتأثير على الواقعية ..

جاءني صوتٌ آخر بدا مألوفاً , ولكنْ هذه المرة كان أنثويًّا ناعماً , وصادراً من ورائي :

- " هذا الشاطئ فارغٌ تقريباً , أليس كذلك ؟ "

التفتُّ إليها , فرأيْتُ ما كنْتُ أتوقّعه : ( نور ) , وهي ترتدي ملابس بحرٍ لو كانتْ أصغرَ من هذا قليلاً لدخلَتْ في ثقب الإبرة ؛ في الواقع , لقد كانتْ عاريةً تقريباً ...

وهنا خطرَتْ لي فكرةٌ مفاجئةٌ , ففكَّرْتُ في نفسي _ مخاطبًا الجهاز _ :

- " هذه الجلسة متاحةُ ليُطَّلَعَ عليها من قبل الأعضاء , أليس كذلك ؟ "

جاءني صوتُ الجهاز :

- " نعم,  ولكنها ليستْ مقترنةً باسمك ! "

- " أنا أريد إلغاءَ هذا الخيار , لا أريد أن يطلع على هذا أحدٌ , سواءً اقترنتْ باسمي أم لا ! "

- " حسناً , لقد فعلْتُ ذلك ؛ لن يطّلع على هذه الجلسةَ أحدٌ "

جاءني الصوتُ العذبُ مرّةً أخرى :

- " لماذا أنت شاردٌ ؟ "

- " لا شيءَ , لقد كنْتُ أفكِّر أنّ عليّ إنهاءَ هذا الحوار بأسرع ما يمكن , وإلا فإنني لن أقدرَ على منع نفسي من التهامِك بعينيّ  "

كان هذا سخيفاً , ومحتقراً للمرأة , وآخر ما يمكن أن يصدر عني , ولكنّ المنطق يقول إنه على الرغم من الواقعية المطلقة لما أراه وأحس به , فإن هذا كلّه _ في الحقيقة _لا يزيد في شيءٍ عن فكرة تدور في ذهني , ولا يطّلع عليها أحدٌ ؛ ليس حلماً حتى , إنه مجرّد فكرة  ...

لذلك فقد استغربْتُ عندما انبعث فجأةً ألمٌ حادٌّ في وجنتي  , واستغرقْتُ ثوانٍ حتى أدرَكْتُ أنني قد نلْتُ أوّل صفعةٍ من فتاةٍ في حياتي _ حتى لو كان ذلك في قصة متخيلة _ , ثم قالَتْ :

- " أنت حيوانٌ عديمُ الأخلاق "

وانصرفَتْ مبتعدةً عني , بينما عيناي تتجنّبان الوقوع على جسدها ؛ لأن هذه الصفعة كانتْ كافيةً لتزيلَ صورتَها كمجرد فكرة خيالية , وتجعلها أقرب إلى إنسان آخر أخشى الإساءةَ إليه , وجاءني صوتُ الجهاز :

- " إن هناك إعداداً تلقائيًّا _ من أجل جعل التجربة أكثر واقعية _ يجعل رد فعل الشخصيّات مماثلاً على قدر الإمكان لما كان ليحدث في الحياة الواقعية _ بناءً على المعلومات المتاحة في ذهن المستخدم بالطبع _ ؛ لذلك فردّ فعْلِ الشخصية كان عنيفاً ؛ هل تريدني أن ألغي هذا الإعداد , ومن ثمّ فبإمكانك أن تصنع مع الشخصيّات ما شئتَ  ؟ "

كدْتُ أنفجر غضباً من " ذلك الإعداد التلقائيّ " ؛ هذه الأجهزة الإلكترونية _ مهما كانتْ متطورةً _ لن تفتأ تثير غضبي , ولكني حاولْتُ أن أبدو هادئاً , وقلْتُ _ ويدي لا تزال على خدّي _ :

- " نعم , ألغِ هذا الإعداد , وأبقه ملغيًّا حتى إشعارٍ آخر , ورُدَّها عليّ "

في التوّ واللحظة , توقفَتْ ( نور) عن الانصراف مبتعدةً , وعادَتْ جهتي , وعندما اقتربَتْ منّي , قالَتْ :

- " أنا آسفة , أحياناً أنسى أننا متزوجان , وأفكّر أننا لا زلْنا في فترة الخطوبة , وأنّ عليّ أنْ أضع حدوداً وإلا ستثار حولَنا الأقاويل "

كان هذا أفضلَ بكثيرٍ , أشرْتُ إليها بإصبعي لتقترب أكثر , فدنَتْ حتى كادَتْ تلتصق بي , ثم قلْتُ :

- " أنتِ تخشين أن تثار الأقاويلُ بسبب " معاكسة " , ولا تخشين أن تثيرَها هذه الملابس ؟ "

نظرَتْ في براءةٍ إلى جسدِها , وكأنه مكسوٌّ بثوبٍ فضفاضٍ لا غرابةَ فيه , ثم قالَتْ :

- " ما المشكلة فيما أرتديه ؟ "

- " لا أعتقد أن " أرتديه " هو توصيف مناسب لما يحدث هنا "

- " هل تعتقد أنه لا يستر ما يكفي ؟ "

- " هل هذا علم صواريخ ؟ لماذا هذا علمُ صواريخ ؟ "

- " لقد اعتقدْتُ أنك منفتح , ولا تمانع أن أرتدي ما أحبّ "

لم أدرِ كيف أجيبُها , هل أستمرّ في لعب هذا الدور ؟ ثم لماذا تبدو ردودُها شديدة اللف والدوران ؟... آه ؛ إنني _في الواقع_ من يجيبُ على نفسي ؛ هي في النهاية مجرّد صورة في ذهني أنا , وحوّلها الجهاز إلى كائن حيّ , لو أردْتُ الاستمرار في اللجاج والجدال فلن أصلَ إلي شيءٍ ...

قاطعَتْ حبلَ أفكاري :

- " ثم إننا خرجْنا من البيت سويًّا , لو كان لديكَ اعتراضٌ على ملابسي لكان من الأنسب أن تخبرني به ونحن في البيت حتى أغيِّرها .. "

نعم , هذه هي طريقتي أنا في الجدال ؛ ابدأ بالحجة الأضعف وانتهِ بالحجة الأقوى ...

فرأيْتُ أن أسلكَ سبيلاً آخرَ :

- " أعتقد أن من حسنِ حظِّنا أن الشاطئ _ تقريباً _ قد صار ملكاً لنا, وليس فيه أحدٌ , وبالنظر إلى ما اخترتِ أن "ترتديه " , فإني أرى أن من الأنسب أن تستمتعي بالشمس والبحر  بدون أن يعوقك عن الاستمتاع بهما كلُّ هذه الطبقات من الثياب "

نظرَتْ إليّ وقد فطنَتْ إلى ما أعنيه , ثم قالَتْ :

- " لا أعتقد أن القانون يسمح ... "

قاطعْتُها :

- " لا أعتقد أن القانون يسمح بهذه الملابس أيضاً , فما دام الالتزام بالقانون ليس خياراً , فلترفعي الكلفة , وتنزعي ما عليك "

- " ولكن حتى لو سلمْنا أنّ كلتا الحالتين خرقٌ للقانون , فإن القاضي سيراعي في الحكم أنه في الحالة الأولى كانتْ هناك ملابس على الأقل , مما يعني أن هناك محاولة للالتزام بالقانون , ولكنْ في الحالة الثانية فالانتهاك صريحٌ ولا يحتمل التأويلَ "

نظرْتُ إلى هذه الفتنة الواقفة أمامي , قبل دقائق كنْتُ أتحدّثُ مع ( نور ) الحقيقية , وكنْتُ أنهى نفسي بكلِّ ما أوتيت من عزم عن التملّي في محاسنِها ؛ لأن هذا لا يليق , ويخالف كلَّ ما أؤمن به ... أما الآن ..عندما صار من حقّي أن أصنع ما أشاء بهذه " الفكرة " المتجسدة واقعاً , فإن عقلي _ عليه اللعنة _ يأبى إلا أن يحوّل هذه الفرصةَ إلى مناظرةٍ عقليّة في شوارع أثينا ... هذا يكفي!

أمسكْتُ خصرَها بيدي , وألصَقْتُها بجسدي , ثم لثمْتُ فاها ... هذه أول قبلة أقبّلها في حياتي ؛ ولو لم تكنْ قبلاتُ الواقع بنفس هذه اللذة , فأنا لا أريد مفارقةَ هذه الخوذة أبداً ...

عندما فارقَتْ شفتاي شفتيها , قلْتُ في صرامة :

- " انزعي هذا الشيءَ .. الآن ! "

نظرَتْ إليّ في توسّلٍ , وكأنها تلتمس طريقاً تسلكه ينجّيها من التعرّي , فلمّا لم تجدْ , بدأتْ في حلّ ما يستر ثدييها .. أو حلمتي ثدييها للدقة , ثم كرَّرَتْ الأمر مع ما يستر ردفيها ... أو ما بين ردفيها للدقة , وعندما وقفَتْ عريانةً أمامي بدا لي صحّة دفاعِها ؛ نعم , كلتا الحالتين خرقٌ للقانون , ولكنّ فتنتَها قد تضاعفَتْ مرّاتٍ بعد أن زال وهْمُ ارتدائها لملابس البحر بنزعها لكل شيءٍ ...

ووجدْتني أدنيها منّي مرةً أخرى وأعود لتقبيلِها , وجالَتْ يداي قبضاً على ظهرِها حتى انتهتا إلى ردفيها , فخصّتاهما بالنصيب الأوفى من القبض , ولساني لا يزال مقيماً في فمها , وكأنه هاجر إليه وارتضى به وطنًا ...

فاجأني صوتُ النحنحة المنبعثُ من خلفي , فكففْتُ عما كنْتُ فيه , ونظرْتُ في غضبٍ , فوجدْتُ ضابطاً أو حارس إنقاذ أو شيئاً بين هذين واقفاً خلفي , طويلَ القامة مفتول العضلات ويرتدي سروال بحرٍ , أعتقد أنني رأيْتُ هذا الشخص في أحد الأفلام من قبل , وأشار جهة ( نور ) ويقول :

- " المعذرة , يا سيّدي , ولكن التعليمات مشددة بألا نسمح بوجود عراةٍ على هذا الشاطئ "

كان وجْهُ ( نور ) قد احمرّ خجلاً , وهي تحاول ستر ما يمكن سترُه بيديها , فتفكَّرْتُ في الأمر , فوجدْتُ أن غضبي لا معنى له , في النهاية كلاهما مجرد فكرة في ذهني , فلأستغلّ هذا الموقف , فقلْتُ :

- " لقد حاولْتُ أنْ أنهى زوجتي عن الابتذال ولبس الملابس الفاضحة بأن أجعل البديل أن تتعرّى , ولكن إن كان القانون يحول دون ذلك , فعليّ التفكيرُ في حلٍّ آخر , لأضمن أنها تعلمَتْ درسَها ولن تخرج بثيابٍ غير لائقة في المستقبل "

قال الحارس :

- " هل لي أن أقترح شيئاً ؟ "

أجبْتُه _وأنا أدري إلى أين سيسير هذا الحوارُ_ :

- " بالطبعِ ! "

- " إن لديّ زميلتين يشاركانني أنا وأحد زملائي الآخرين مراقبةَ هذا الشاطئ , وهما _ إن جاز لي القولُ _ صورةٌ طبقُ الأصل من شقاوة زوجتِك ... "

قاطعْتُه قائلاً :

- " بإمكانِك أن تصنع بزوجتي نفس ما تصنعه بزميلتيك , إذا كان ذلك ناجعاً في تأديبِهما "

- " إنني أضمن لك أنه بعد فراغي من عقابِها , ستصبح أطوعَ لك من بنانِك "

مددْتُ يدي له مصافحاً , كأني أوقع على عقد اتفاقِنا , فصافح يدي , ثم قال :

- " لو عدْنا إلى كابينتي , حتى نجْرِيَ العقابَ هناك .. "

- " بالطبع ... ( نور ) ! "

نظرْتُ إلى الحسناء التي لا تزال مشغولةً بستر نفسِها , وقد ازداد خداها احمراراً , وبدا الرعبُ على ملامِحها , وهي تتوسل لي لأعفيَها , فهزَزْتُ رأسي بالنفي وأنا أبتسم , وأشرْتُ إليها لتتبع الحارس , ولمّا بدأتْ في الحركة المتثاقلة وجاورَتْني أهويْتُ بيدي على ردفيها فطارتْ يداها لتمسكا بردفيها , ثم انتبهَتْ إلى أن ما كانتْ تحاولُ سترَه قد انكشف , فعادتْ يمناها لتغطي ثدييها , ويسراها لتقبض على ما بين رجليها , فأهويْتُ بيدي مرةً أخرى إلى ردفِها _ كأني أستحثّها لتسرع _ رغم أن خطاها كانتْ مسرعةً بما يكفي ... واستمرَرْتُ طيلة الطريق إلى كابينة الحارس أسْتَهُها فتقبض على ردفيها ثم تعود لستر نفسها وأعودُ إلى ستْهِها حتّى احمرّتْ مؤخرتُها... لو لم تكنْ هذه فكرةُ متخيلةُ لكان الموتُ أحبَّ إليّ أن من أن أصنع ذلك بامرأة ...

وعندما بلغْنا كابينة الحارس , وصل إلى مسامعِنا صوتُ بكاءِ امرأةٍ  ... ثابتٌ كأنه موسيقى تصويرية , بينما هناك صرخاتٌ لامرأة أخرى تتناسب طرديًّا مع صوتِ صفعاتٍ لا شكّ أنها تهوي على مؤخرتِها ؛ لم يكنِ الأمرُ بحاجةٍ إلى تفسير , ولكن الحارس قال :

- " لا شكّ أن زميلتاي قد فعلتا ما استحقّتا العقابَ لأجله , وقد تولّى زميلي الآخر عقابَهما ؛ إن كان لي أن أحدس بناءً على الصوتِ , لقلْتُ إن التي فُرِغ من عقابها هي ( سلوى ) والتي لا تزال مؤخرتُها تتلقى الصفعات هي ( أماني ) "

هنا جاءني صوتُ الجهازِ :

- " إن الموقفَ لا يتناسب مع بيئة عربية , ولكني قمْتُ بتعريب الأسماء حتى ... "

قاطعْتُه قائلاً بصوتٍ مرتفعٍ :

- " هذا واضح "

نظر إليّ الحارسُ مستغرباً , فقلْتُ :

- " أنا لا أعنيك أنت , المعذرة "

وصل الحارس إلى باب الكابينة , وفتحه , فقابلَ عيني مشهدُ الفتاة العارية المودَعَة زاوية الكابينة وقد روَتْ مؤخرتُها القانيةُ قصّةَ ما حدث لها , أعتقد أن الحارس أشار إليها باسم ( سلوى ) ... قاطع الحارسُ حبل أفكاري مصحِّحًا :

- " حسناً لقد كنْتُ مخطئًا , إن ( أماني ) هي التي فرغ ( ماهر ) من عقابِها , و( سلوى ) هي المستلقية في حجره لتتلقى عقابَها "    

دخل ثلاثتُنا , فدنوْتُ من ( ماهر ) , ومدَدْتُ يدي مصافحًا له , فوضع فرشاة الشعر التي كانتْ في يمينه على ظهر ( سلوى ) وصافحني , وقلْتُ له في سخرية :

- " هذا يبدو مجهوداً فائقاً تتكلّفه من أجل ضمان بقاء زميلتيك على الطريق القويم "

ردّ بابتسامة ساخرة , وقال :

- " مقدار التفاني الذي نظهره نحن _ معاشرَ الرجال _ من أجل توجيه وإرشاد الجنس اللطيف , ثم لا يثمر هذا فيهنّ شيئاً "

حسناً , كانتْ هذه الذكوريّة الفاقعة فوق قدرتي على الاحتمال , حتى لو كانَتْ القصة متخيلة , فقلْتُ :

- " لا نريد أن نشغلَك عما كنْتَ فيه .. أعتقد أن زوجتي ستنتظر حتى تشهد عقاب ( سلوى ) إلى نهايتِه , ثم بعد ذلك يأتي دورُها على يد زميلُك "

ردّ ( ماهر ) :

- " هذه فكرة جيدة , كلّما تأخر العقابُ , كلما زادَتْ الخشيةُ منه , خاصّة إن كان تأخُّرُه مقروناً برؤية المعاقَبَة لما يوشك أن يحلّ بها "

تدخل الحارس الآخر قائلاً :

- " لا أعتقد أن ما يوشك أن يحل بها مماثل لما تفعله أنت بـ ( سلوى ) , بل ما يوشك أن يقع لها أكبر مما تفعله بكثيرٍ , في النهاية فإن ( سلوى ) و ( أماني ) تفضّلان أن تعاقبا على يديك ؛ لأنك أرق في عقابِهما "

بلعَتْ ( نور ) ريقَها بصوتٍ مسموع ... معها حقّ , إن كانتْ مؤخرة ( أماني ) القانية هي العقاب الأرَقّ , فما الذي يوشك أن يحدث لها ؟

ولكنّ ( ماهر ) كان له رأيٌ آخرُ :

- " هذا كذبٌ بيّن , الجميع يعرف أن عضلاتِك هذه مجرد ديكور , إن ( سلوى ) تتمني لو كنْتَ أنتَ من سيكمل عقابَها "

رد الحارس غاضباً :

- " اسألْها إذاً ! "

سأل ( ماهر ) الفتاة الممدّة على فخذيه :

- " ( سلوى ) , هل ترغبين في أن أكمل أنا عقابَكِ أم أن يكملَه ( صخْرٌ ) ؟ "

كانتْ ( سلوى ) في حيرة مبررة ؛ إن إجابتَها ستعني أن من اختارتْه هو الأضعف , وسيبذل المُخْتارُ كلَّ جهدٍ ليثبِتَ لها خطأ ما ذهبَتْ إليه , ثم فطنَتْ إلى حلٍّ :

- " أعتقد أنني أفضّل اختيار ما لا أعرفه بعد ؛ هل بإمكان هذا السيّد أن يكمل عقابي ؟ "

نظر ( صخر ) إليّ , وقال :

- " هل تريدُ أن تتولّى عقابَها ؟ "

نظرْتُ إلى لونِ مؤخرتِها وقارنْتُه بلون مؤخرة صاحبتِها , فبدا لي أن العقاب لا يزال طويلاً وقاسيًا , فقلْتُ :

- " أعتقد أنه ليس بوسعي أن أحمل نفسي على إيجاعها حتى تصل إلى ما وصلَتْ إليه ( أماني ) , ولكن ما دامتْ نزلَتْ على حكمي فأنا أختار أن يستمر ( ماهر ) في عقابِها , ثم تفرغ أنت لعقاب ( نور ) "

تنفَّسَتْ ( سلوى ) الصعداء , وقد بدا أنها نجَتْ من ذلك السؤال الداهية , ثم سرْعانَ ما عادَتْ إلى النحيب , عندما التقط ( ماهر ) فرشاة الشعر المستقرة على ظهرها , ورجع إلى ستْهِهَا , لم يستغرقِ الأمر طويلاً حتى صارَتْ حمرةُ مؤخرتِها قانيةً , وعلا نحيبُها , ولكنّ الوقْتَ لا بد أنّه مرّ عليها كأنه سنون , في النهاية أمرَها ( ماهر ) أن تذهب إلى الزاوية الأخرى للغرفة وتستقرّ فيها , ففعلَتْ ...

ونظرْتُ إلى ( نور ) فوجدْتُها ترتجف خوفاً ... وهي ترى ( ماهر ) ينهض من الكرسيّ , ليخليه لـ ( صخر ) الذي ملأه بجسده القويّ , ثم نظر إليّ , وكأنّه يطلب مني الإذن , فأحنيتُ له رأسي موافقاً , وهنا علا صوتُه هادراً  _ لا بد أنّه لا يزال يرغبُ في إثباتِ تفوّقه على ( ماهر ) _ , وطلبَ من ( نور ) أن تقترب منه , وكأنّ هذا الصوتَ الهادرَ لا يكفي , فقد ضرب بكفّه على فخذه وكأنه يريها أين يفترض بها أن تستقرّ , ولكن صوتَ الضربة كان من الارتفاع بحيث جمّد الدمَ في عروقي أنا .. فنظرَتْ ( نور ) إليّ نظرةً أخيرةً متوسّلةً , فكاد قلبي يرقّ لها , إلا أن ( صخر ) الذي ساءه طول الوقتِ الذي استغرقتْه لتبلغ كرسيّه , قام وأمسك بيدها وطوّح بها في الهواء ثم جلس ليتلقى سقوطَها فاستقرَّتْ على فخذيه , كعصفور في مخلب نسر , وقبل أن تتأقلم  مع ما حدث هوى بيده على ردفيها كصاعقة تضرب دعصًا من رمل ...

واضطرَرْتُ للتدخل ؛ حتّى وهذه شخصيّاتٌ غير حقيقية , والأمر كلّه لا وجود له إلا في عقلي, فإنّ اللون الذي استحال إليه ردف ( نور ) من ضربة واحدة , والصرخة التي ندَتْ عنها , والوحشية التي رأيْتُها في عيني ( صخر ) , كل هذا منعني من البقاء في مكاني , ولمّا رأى  ( صخر ) إقدامي عليه اعتذر , فقلْتُ له :

- " لا بأسَ , لقد ارتكبَتْ ما تستحق العقابَ عليه , ولكني لا أعتقد أنها قتلَتْ أحداً , فتستحق كلَّ هذا , سأكمل أنا عقابَها بنفسي , هلّا ناولْتني فرشاة الشعر تلك رجاءً ! "

فسلّمني فرشاة الشعر , و( نور ) , والكرسيّ ... وعليّ أن أعترفَ أن هذا الـ ( صخر) مفرط القوة بالفعل , فعلى الرغم من أني عاقبْتُ ( نور ) بفرشاة الشعر مراتٍ , واقتصر هو على يده مرةً , إلا أن كل ذي عينين يشهد أنني كنْتُ أهونَ عليها بكثيرٍ منه ...

وعندما فرغْتُ من عقابِها , كان لونُ مؤخرتِها قد انتهى إلى حمرة داكنة , ولكن بالقياس إلى ( أماني ) و( سلوى ) فقد كان عقابُها هيِّنًا, وبدا الاستياء واضحاً على وجهي ( صخر ) , و( ماهر ) ، ولكنهما فكّرا أنها زوجتي أنا , وأنا حرٌّ في عقابِها ...

ثم أمرْتُ ( نور ) أن تجعل أنفَها في إحدى الزاويتين الفارغتين , ففعلَتْ , وظللْتُ أرقُبُ حركةَ ردفيها صعوداً ونزولاً أثناءَ سيرِها إلى الزاوية حتى استقرَّتْ بها , فاهتزَّ استُها مرةً أخيرةً معلناً وصوله إلى محطته النهائية ... كانتْ فاتنةً فتنةً فوق بشريّة .. بإمكاني أن أحدّق في استِها سنين دون أن أمَلّ ...

قاطع أفكاري صوتُ الجهاز :

- " لقد طلبْتَ مني تنبيهك بعد مرور ساعةٍ , وقد مرَّتْ ساعةٌ , هل ترغب في الاستمرار في هذه الجلسة أم تريد أن تخرج إلى الواقع ؟ "

كنْتُ عازمًا على منع نفسي من الاستمرار في هذه الجلسات لأكثر من ساعةٍ , حتى لا أنغمس فيها أكثر مما يجب , ولكني طلبْتُ منه دقائق أخرى , ثم سألْتُه أن يزيل هذين الحارسين مباشرةً من الصورة  بدون حوارات ولا أعذار ولا تعبٍ , فَفَعَل .. في لحظة واحدةٍ تبخّرا , وصرْتُ وحيداً في غرفةٍ فيها ثلاثُ غيدٍ ممشوقاتٍ ستهماتٍ , ثم طلبْتُ من الجهاز أن يحضر مرهماً ويجعله في متناول يدي , ففعل ... كان هذا أفضلَ من تكلّف السير المنطقيّ للأحداث ..

ثم دعوتهنّ بأسمائهنّ فأقبلْن , ووقفْنَ أمامي صفًّا , فطلبْتُ من ( أماني ) أن تستلقي في حجري , ولمّا بدتْ خائفةً مددْتُ يدي إلى المرهمِ لأعلمَها بما أنوي فعلَه , فذهب خوفُها , وتمددت في حجري , وبدأتُ في دهان مؤخرتِها القمراء وقد حيل بيني وبين عقلي من لين ملمسِها , ورشاقة حركتِها تحت يديّ , فلأياً بلأي ما أقنعْتُ نفسي أن أنتقل إلى ( سلوى ) , وفعلْتُ بها ما فعلْتُه بـ ( أماني ) ...

ثم طلبْتُ من ( أماني ) و( سلوى ) أن ينصرفا من الكابينة , ولم يرُقْ لي أن أطلب من الجهاز أن يبخّرهما كما فعل بالرجلين , وعندما غابت عن عيني مؤخرتاهما الرجراجتان بعد أن أغلقَتِ الفتاتان البابَ وراءهما, انصرفْتُ إلى أجمل الثلاثة , والدرة البحرية المكنونة التي مازها التاجر من بين الدرر , فأشبعْتُ رغباتٍ لم أكن أتصور أن أجرؤ على أن تغادر أفكاري إلى عالم الواقع , وللدقة فهي لم تغادر إلى عالم الواقع ...وإن كان كلُّ شيءٍ ينال في عالم الواقع قد نلْتُه في هذا الواقع الافتراضي من غير مشقة في التحصيل , ولا خوفٍ من التجاوز في حق بشرٍ ...

ثم استلقَتْ ( نور ) في حضني على سريرٍ كان في تلك الكابينة , وقالتْ لي همسًا , وكأنها لا تقوى على رفع صوتِها بالكلام بعد ما فعلْتُه بها :

- " لقد كان هذا رائعًا ! "

قلْتُ في سخريّة :

- " متى يمكنني أن أراكِ مرةً أخرى ؟ "

- " أنا طوع أمرِكَ , فقط أخبرني متى تريد لقائي وأين , وستجدني هناك "

لا أدري إن كان هذا استهزاءً من الجهاز , أو من عقلي , أو مجرّد مصادفة , ولكنّها _ حرفيًّا _ كما ذكرَتْ : طوع أمري ... والغريب أنني لا أجد أدنى مضاضة في الاستمتاع بذلك ... 


*************



( 4 )
بين الواقع والواقع
 

عندما غاردْتُ تلك الجلسة إلى الواقع , كان جدول أعمال ذلك اليوم ممتلئًا حتى التخمة ؛ الكثير من الأشياء لا زلْتُ بحاجة إلى أن أتعلمَها , الكثير من المعارف بحاجة إلى أن " أحمّلها " في عقلي , الكثير من الأهداف والأفكار أريد أن أستقصيَها ...

لقد كانتْ ( نور ) (الحقيقية وليس الفكرة) , محقةً في قولِها : إن إشباع تلك الرغبات سيمنحني الفرصة للتفرغ لعملي وتفكيري .

وعندما قابلْتُها ( نور الحقيقية ) , كانتْ ترتدي ما بدا وكأنه أضيق بنطالٍ يمكن أن تضع نفسَها فيه , ولسْتُ بالسذاجة التي تجعلُني أعتقد أنّ قلمَها قد سقط بالفعل صدفةً , حتى تضطر للانحناء لالتقاطه , ومؤخرتُها لا تبعد سوى أشبارٍ عن وجهي ؛ ... لقد كان هذا اختباراً , ولقد نجحْتُ فيه بجدارة , وبدا أنني لا أجدّ مشقّة في ألّا ألتفتَ إليها , كانتْ كأنها ليسَتْ موجودةً أمامي , وقد أحسَّتْ بعدم اهتمامي , فقالتْ :

- " أعتقد أنك قد عملْتَ بنصيحتي ! "

- " ولك الشكرُ عليها , في الواقع إن هناك شيئًا لا يزال يشعرني بالضيق ... "

قاطعَتْني :

- " لا عليك ! إن الجهاز يستغل الأفكار والشخصيات الموجودة في ذهنك , وبعض هذه الشخصيات ستكون واقعية , فقط لا تخبرني بما يحدث , وأنا لا أمانع منحَك " الحقوق الأدبية والفكرية لاستعمال علامتي التجارية ", ما دام الأمر لم يخرج إلى أرض الواقع "

- " هذا يزيل جانباً من المشكلة , ولكنْ ... عندما خضْنا ذلك الحوارَ حول المخدّراتِ وتلك الأشياء  .. هل تعتقدين أنّ هذا ينسحب على هذا الجانب الجنسيّ أيضاً ؛ ( ليس هروباً من الواقع وإنما عوْنٌ على مواجهتِه )  "

- " إن الجنسَ يختلف ! "

- " لماذا ؟ "

- " لأن الجنس غير مسبَّبٍ ؛ إن الجهاز يستطيع أن يبثّ في ذهنك شعورًا بالامتلاء والشبع وأن يجعلك تشعر بأنك تأكل ألذّ أكلٍ ولكنّ هذا لا يكفي , إن جسدك بحاجة إلى طاقة ؛ بحاجةٍ إلى أكلٍ فعليّ ... الواقع الافتراضي لا يغني عن الواقع هنا , ونفس الشيء ينطبق على أشياء كثيرة , ولكنّ الجنس ليس من بينها ؛ ومن ثمّ فما المانع أن تقتصر في تلبية رغباتك الجنسية على الواقع الافتراضي , ما الذي سيفوتك إن لم يحدثْ ما ترغب فيه جنسيًّا على أرض الواقع ؟ "

- " الخصوبة والتناسل واستمرار الجنس البشري , وكل هذا ... "

- " لو كان هذا الهدف الوحيد من ممارسة الجنس , لكانَتِ البشريّة كلها منحرفة , في الواقع معظم الممارسات الجنسية يعتبر انتهاؤها بالحمل والتناسل مخالفاً لمراد فاعليها .

لكنّ الرغبة في تصوير كل سلوك بشري على أنه مسبّب ويهدف إلى غاية سامية , قد دفع بالمنظّرين إلى تجريم الجنس وتحويله إلى تابو ومحاولة ربطه بالتناسل  ...

 معظمُنا هنا لا نمارس سلوكاً جنسيًّا خارج تلك الجلسات ؛ بعد فترةٍ ستعتاد على فعْلِ كلِّ ما تريده في تلك الجلسات دون أن تشعر بالذنب , ودون أنْ تشعر أنَّ ما تفعله لا بد سينعكس على علاقاتك الواقعية , ويفقدك قدرتَك على ضبطِ نفسِك "

- " بالضبط ؛ أنا لا أريدُ أن أعيش في حضّانة خالية من الجراثيم , وأتخلى عن مناعتي , ثم أفاجأ أنَّ عليّ أنْ أخرج مرة أخرى إلى الدنيا الرحبة الملأى بالجراثيم ... "

- " إن لنا فترات طويلة هنا ، لم يحتَجْ أحدٌ للخروج من حضّانته ؛ لن تكون استثناءً ! افعلْ في تلك الجلسات كلَّ ما يحلو لك ؛ في الواقع هناك جلسات مخزّنة من أجل الاطلاع عليها لأغراض الدراسة ؛ إذا شاهدْتَ بعضها فسترى المدى الذي نذهب إليه في تلبية رغباتِنا ؛ لم يعدْ هناك معنى للخطوط الحمراء مادام الأمر لا يؤذي أحداً  "

ثم نظرَتْ إليّ طويلاً قبل أن تقول :

- " بعيداً عن ذلك , ربما يسرُّك أن تعلم أنّ العشرة الكبار قد أثنَوا عليك كثيراً لِما أنجزْتَه في هذه الفترة القصيرة ! "

- " لقد كنْتُ دائماً واحداً من هؤلاء الذين يقال عنهم إنهم يجيدون الفهم ولا يحسنون الحفظ ... دعي المعلومات تُسَجَّلُ تلقائياً في ذاكرتي , وسيبهركِ ما أصنعه .. "

- " الرجل المناسب في المكان المناسب ؛ لو كانتْ لك ذاكرة حديدية لما أفادَتْك بشيءٍ هنا "

ثم ابتسمَتْ في خبثٍ , وقالَتْ :

- " سأنصرف الآن , هل أحتاج إلى أن أرجع القهقهرى ؟ "

ردَدْتُ عليها الابتسامةَ بمثلِها ، وقلْتُ :

- " أمّا الآن فلا , ولكنّي أضمن لك أن جلسة الليلة ستشمل هذا السؤال , وسأجيبُ عليه _ آنذاك _ بما لا يسرّكِ "

نظرَتْ إليّ وهي تتظاهر بالاشمئزاز , وإن ظلَّتْ مبتسمةً , وقالَتْ :

- " إخخخ ! ... من باب الفضول ليس إلّا ؛ بماذا ستجيب على نسختي الافتراضية عندما تسألك ذلك السؤال ؟ "

- " لا أعتقد أنني أجرؤ على إخبارِكِ ! "

- " بهذا السوء ؟ "

- " حتّى أقرِّبَ لك الصورة : فإنه لن يكون ردًّا لفظيًّا ... سأقوم .... "

قاطعَتْني :

- " حسناً , لا أريد أن أسمع أكثر من ذلك "

- " ليس هذا ما كنْتُ أوشك أن أقولَه ... بل أردْتُ أن أشيرَ إلى أن هناك خياراً ما يتيح لأعضاء معينين أن يطلعوا على جلسة محددة , إذا أردْتِ فبإمكاني أن أجعل جلسة الليلة متاحةً للعضو ( اثنان وتسعون ) ؛ ويمكنكِ أن ترَيْ بنفسِكِ ما سيحدث .. "

- " ولماذا أريد ذلك ؟ "

- " كما قلْتِ : من باب الفضول لا أكثرَ ... "

تردَّدَتْ قليلاً , وكأنها تزن خياراتِها , ثم قالتْ :

- " مبدئيًّا : موافقة .... ولكنْ رجاءً لا تفهم من هذه الموافقة أيَّ شيءٍ آخر "

أجبْتُ في سخريّة :

- " أوه ..لقد كنْتُ أخطط ليوم زفافِنا من الآن .. شكراً على تخييب ظني ! "

ضحَكَتْ ضحكة خافتةً , ثم فكَّرَتْ في شيءٍ :

- " من باب المعاملة بالمثل _ ليس أكثر _ ؛ أعتقد أنني سأسْمح للعضو ( مئة واثنان ) بالاطلاع على جلستي في هذه الليلة أيضاً ؛ سأرى ما تريد صنعَه بي , وسترى ما أريد صنعَه بك .. "

لم تكَدْ تذكر ذلك حتى فطِنَتْ إلى اعترافِها , وأرادَتْ أن تتراجع , ولكنّي انتهزْتُ الفرصة , وقلْتُ:

- " بي ؟! "

بدأتْ حمرةُ الخجلِ تنتشر في هذين الخدّين الأسيلين ( في الواقع كانتْ هذه فرصةُ لمقارنة الواقع الافتراضيّ بالواقع , وقد دهشْتُ من نتيجة المقارنة ؛ كان الأمر لا يختلف في شيءٍ عن حمرةِ خجلِها في تلك الجلسات ؛ هذا الجهاز استثنائيٌّ ! ) , ثم قالَتْ :

- " هذا لا يعني أيَّ شيءٍ ؛ إنني أرغب في التنويع ليس أكثر , أنت شيءٌ جديدٌ هنا , ولذا فعقلي يجرّب خياراتٍ جديدة "

كانَتْ على حافّة الاعتراف , ولا تحتاج إلا إلى دفعة بسيطة لتتخلى عن تمنّعِها , فقلْتُ _ وأنا أصطنع الجدّيّة _ :

- " أنا أصدقكِ ! "

زاد احمرارُ خدَّيها , ثم قالَتْ همسًا _ وقد تخلَّتْ عن محاذيرِها _ :

- " اليومَ : سنبدأ جلستَيْنا في الثامنة , وننهيهما في التاسعة ؛ ثم يطالع كلٌّ منا جلسة الآخر وينتهي منها في العاشرة ؛ ثم نلتقي في غرفتي بعد ذلك ؛ ... لتبادل الملاحظات ليس أكثرَ "

- " كميّة الملاحظات التي سنتبادلُها !  سيكون الأمر أقربَ بإعدادِ بحثٍ مشترك ! "

عضَّتْ شفتَها بأسنانِها.... ثم دنَتْ من أذني , وقالَتْ :

- " عندما أغادر لغرفتي الآن , فبإمكانِك أن تنظر كما تشاء ؛ في الواقع إنني أرغبُ في ذلك ... وسأجيب على السؤال الذي سيخطر لك حينَها مِن الآن : ليس تحتَه شيءٌ "

- " المعذرة , ما هو السؤ.. "

لمْ تمهلْني حتى ولَّتْ منصرفةً ...

إما أن تكون الأرضية قد تحوّلَتْ إلى طينٍ موحلٍ , وإما أن تكون مشيتُها هذه متعمّدةً ...

ولمّا كانتْ قد أذنَتْ لي في النظر؛ بل لقد قالَتْ إنها راغبةٌ في ذلك حتى ... فقد علَّقْتُ بصري بما أرغب أكثر من أيِّ شيءٍ آخرَ في تعليق بصري به , وسرعان ما قفز السؤالُ الذي أجابَتْ عليه مسبقًا إلى ذهني : ما الذي ترتديه دون هذا البنطال ؟
والجواب كما ذكَرَتْ : ليس تحت هذا البنطال أي شيءٍ ؛ إنه من الضيقِ بحيث أرى حدود أيّ شيءٍ تحتَه لو كان موجوداً ؛ ولا حدودَ   ...

وعندما قارنْتُ أداء الجهاز بالأصل الواقعيّ , بدا لي لأوّل مرة عدم قدرتِه على نقل هذه الحركة الفتّانة لتلك المؤخرة المُثْقَلَة...أعتقد أن الجهاز معذورٌ ؛ هذا الذي أراه غيرُ قابلٍ للنقل ؛ إنه يُدْرَك على مستوى كموميّ ؛ أنْتَ بحاجة إلى ( نظريّة كل شيءٍ ) حتى تلمّ بأبعادِه ....

كنّا نتبادل ذلك الحوار في إحدى الممرّات , ولذا فعندما عادَتْ لغرفتتِها فقد سارَتْ مبتعدةً عني إلى أحد التقاطعات , وسرعان ما استدارَتْ لتسيرَ في واحدٍ من تلك الممرّات المتشعبة , وغاب عني ردفاها الملاصقان للبنطال ...

ثم عادَتْ مرّةً أخرى للظهور من ذلك الممرّ , ومشَتْ تجاهي , فاستغربْتُ , ولكنّها لم تتوقفْ عندي , بل قالَتْ عندما حاذَتْني :

- " نسيْتُ أنّ غرفتي من تلك الجهة ... بالمناسبة : إن لعابَك ... "

وأشارَتْ إلى جانبِ فمي , فانتبهْتُ إلى أن هذه الحسناء المنظرانيّة قد سال لها لعابي حرفيًّا , ومسحْتُ فمي بجانب يدي , فغمزَتْ لي , واستمرّتْ في مشيِها المُتَبَهْكِنِ إلى الجهة الأخرى ...

وتحوّل ناظراي الحديدان إلى حديدٍ , واستُها لمغناطيس ؛ هذان الردفان سيدنيانني إلى حتفي ؛ في الواقع لقد كفرْتُ بذلك الجهاز ؛ من أين له أن ينقل هذا ؟! هذا الذي أراه لا يمتُّ لدنيا البشر بصلة ؛ إنه معنىً سامٍ مطلقٌ  .. أنا مستعدٌّ أن أتخلى عن كلّ ما أملك مقابل لمس هذين الكوكبين النورانيين  _ واقعيًّا , فقد أوسعْتُهما لمسًا في جلساتٍ افتراضيّةٍ كثيرةٍ  _ ...

وغاب الردفان وصاحبتُهما عن عينيّ , وغادراني في أمانيّ بأن تتاح لي الفرصة لمسّهما وعضّهما وستْهِهِما وإتيانِ كلّ فعلٍ يتصل بهما ......

لم أكنْ أعرفُ _ حينَها _ أنّ أمنيتي هذه ستتحول إلى واقع ( ليس افتراضيًّا , وإنما واقع عادي مِن المتوفّر بدون تكنولوجيا متقدمة أو غير متقدمة) في تلك الليلة , ثم في الليلة التي تليها ، ثم في الليلة التي تليهما , ... في الواقع لقد استمرّتْ اجتماعاتُنا _ البحثيّة _ لليال طويلة حتى نسيْتُ العدّ ..

وإن كان لي أن أعلّق تعليقًا أخيراً على قدرة هذا الجهاز / الخوذة على محاكاة الواقع فسأقول :

 في كل النواحي التي جرَّبْتُ فيها هذا الجهاز كان مثاليًّا ...يَسْهُل جدًّا أن ينسى الشخصُ أنه في واقع افتراضيّ  ويصدق أن ما يراه هو الحقيقة ....

في كلّ النواحي عدا ناحية واحدة ؛ ...

 إذا كنْتَ قد سبق لك أن طالعْتَ مؤخرةً فعمة بضّة رَخْصَةً رداحاً على الحقيقة , وعرفْتَ كيف يبدو هذا الجزء الملائكيّ من الجسد ... فإن هذا هو مفتاحُك للتمييز بين الواقع الافتراضي والواقع الحقيقي ؛ لا يوجد واقع افتراضي _ سواءً صمَّمَتْه ( واحد ) أو صمَّمَته ( مليون ومئة ألف وواحد ) _ قادرٌ على نقل هذه الروعة وهذا الكمال وهذا الجمال بكلِّ تفاصيلِه , سيقترب ولكنه لن يبلغ نفس المرتبة .....

ستظلّ هذه الأرداف الريّانة دائماً هي نقطة تفوّقِ الطبيعة على الفنّان ..  مهما علا قَدْرُ الفنانِ وارْتَفَعَ ....

 ____________________________________________