الأحد، 10 يوليو 2016

قصة : الآثار الإيجابية للتعامل السلبي مع التماثيل ( م- ف )



قصة : الآثار الإيجابية للتعامل السلبي مع التماثيل ( م- ف )
- بضعة تنويهات :
تنويه 1 : هذه القصة تعمد في كثير من أجزائها إلى استخدام لغة قد تعد مرتفعة قليلاً عن عربية الجرائد والصحف , فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك , فقد  نوهنا به .
تنويه 2 : تصوِّرُ هذه القصة أحلاماً جنسية لفتاة تشمل تلك الأحلام علاقة ذات طابع جنسي بينها وبين بعض الرجال في إطار تلك الأحلام , فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك , فقد  نوهنا به .

تنويه 3 : مما تشمله تلك العلاقة  ذات الطابع الجنسي ما يعرف بالإنجليزية / بالإنكليزية بـ
فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .

تنويه 4 : هذا العمل ضرب من الخيال لم يقع ولا أجزاؤه ,  ولا قَصَدَ إلى تصوير ما وقع بكليته أو بجزء منه , وشخصياته ليست محاكاة لشخصيات واقعية وأي تشابه بينها وبين أي شخصية واقعية حية أو ميتة علمنا بها أو لم نعلم محض صدفة , وأي حثٍّ على فعل أو على الامتناع عن فعل بناءً على ما في القصة مما تُوُهِّم أنه مغزى فهو غيرُ مقصود من المؤلف , وليس حثاً على الحقيقة , ومتى وقع الفعل الذي تُوُهِّم أنه حُثَّ عليه فالفعل مسؤولية / مسئولية فاعله ولا يسأل المؤلف عن ذلك .
فإن كان أيٌّ من هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به . 

تنويه 5 : وهو فرعٌ على ( تنويه 4 ) : إن المؤلف يُقِرُّ _ كما سيتضح من القصة _ بجهله المطبق بكل ما له علاقة بالمجال القانوني وعمل المحاكم والقضاة والمحامين , فكل ما جاء من هذا القبيل في القصة فهو مغرقٌ في الابتعاد عن الواقع , فإن كان هذا الإغراق في مجافاة الواقعية _في هذا الباب بالذات_ مما يسؤوك/ يسوءك فقد نوهنا به . 

- القصة 

( 1 )

(سليمان) المحامي

- " هناك شاب يريد مقابلتك , يقول إن الأمر يتعلق بقضية عاجلة "
أتاني صوتُ سكرتيرتي عبر الإنتركوم , فكان أولُ ما فكرْتُ فيه : لعله طالب حقوق آخر يريد أن يتعلل بأي علة حتى يعرض عليّ أن يتمرن عندي .. كان هذا يحدث بشكل دوري في إجازة الصيف من كل سنة .. طلاب وطالبات حقوق _بعضهم لا يزال يكمل دراسته  _ يريدون أن يتمرنوا علي يديّ .. وفي كل مرة أرفض .. حتى صار معروفاً في أوساطهم أنني لا أريد متمرنين , ولا محامين مساعدين أيضاً ؛ مما جعل البعض يلجأ إلى هذه الحيل .
قد يقول قائل : إن كنْتَ لا تستعين بأحدٍ أفلا يعني ذلك أنك تقوم بجهدٍ فائقٍ في تتبع كل التفاصيل في كل قضية ؟ .. والجواب هو نعم , ولكنني لا أبالي ؛ إن لديّ استعداد أن أعمل من لدن زقزقة العصافير إلى الساعات الأولى من الفجر إن كان هذا هو السبيل الوحيد لإتمام العمل على الوجه الذي يرضيني .. وللأسف فلا بديلَ آخرَ ؛ فجيل الشباب هذا كله مستهتر متواكل لا يحسن القيام بشيء , وليس لديه الاستعداد لتقبل تبعات ذلك ..

تأخرَتْ إجابتي على سكرتيرتي بسبب انشغالي بهذه الأفكار , فجاءني صوتُها مرة أخرى :
- " هل أسمح له ؟ "
تغلَّبْتُ على شكوكي , وقلْتُ :
- " اسمحي له ! "
وبعد لحظةٍ فتحتْ سكرتيرتي باب مكتبي وأشارتْ إلى الشاب بالدخول , وما إن رأيْتُهُ حتى استغربْتُ فهو لا يبدو وكأنه قد تجاوز الثامنة عشرة حتى , ورأيْتُ في يده ملفاً , فقلْتُ في غيظ :
- " هل ترغب في التدرّب عندي أنت أيضاً ؟! "
نظر الفتى إليّ مستغرباً , وقال :
- " إنني لم أنهِ سوى السنة الأولى من دراستي الحقوقية , فلماذا أرغب في التدرّب من الآن ؟! "
ثم أكمل :
- " إن الموضوع يتعلق بقضية رُفِعَتْ على أختي "
ثم وضع الملف أمامي , فلم أمدَّ إليه يدي, وقلْتُ :
- " ولماذا لم يحضرْ والدُكَ  _أو غيره من الراشدين_ ليطلب مني الترافع عنها  ؟ "
بدا على الفتى شيءٌ من الخجل , وقال :
- " حسناً ! إن هذه هي المشكلة , فنحن لا نريد أن يعرف أبوانا بما حدث لأنه أمر محرج ؛ فقد اتفقْنا أنا وأختي قبل أسبوع أن نقوم بزيارة للمتحف الوطني كنوع من الاحتفال ببداية إجازة الصيف وانتهاء الامتحانات , وأثناء وجودنا في المتحف مررْنا بهذا التمثال الذي يشير بشكل مضحك بإصبعه وكأنه يرى شيئاً غير مرئي ... "

كنْتُ أعرف تماماً ما يتحدث عنه ؛ فهذا المتحف لا يقصده الشباب إلا لسببٍ واحدٍ ؛ هو هذا التمثال .. بالنسبة لجيلي أنا فالتمثال هو تمثال ( فالح العربي ) ؛ أحد الأبطال القوميين من أبناء الطبقة العاملة الذي كافح ليحصل العاملون في زراعة الأرض على ملكيتهم لها , ومن ثُمَّ فقد تسبَّبَ _ بصورة أو بأخرى _ في أن أتيحَتْ لنا نحن _ أبناءَ الفلاحين _ أن نتعلم ونكمل تعليمنا وينتهي بنا الحالُ في مناصبنا التي انتهينا إليها .. بالنسبة لجيلي فإن اسم ( فالح العربي ) يختزل مبدأ القدوة والمثل الأعلى في شخص واحد .. ولكن المثَّال الذي صنع التمثال _ وهو أيضاً من جيلي _ كان مفرطاً في حسن النية , فأراد أن يصوّر في جلاء ما وهب ( فالح العربي ) حياتَه من أجله , فجعله يشير إلى الأرض ؛ إلى الزرع ؛ إلى الاهتمام بمن هم أسفل بإزاء الاهتمام بمن هم أعلى , أما بعض الرجعيين فقد فَسَّرَ إشارةَ التمثال على أنها شُكْرٌ لمن هم أسفل بإزاء شُكْرِ (ما هو أعلى ) .. ودارتْ حروبٌ كلاميةٌ بين الطرفَيْن _ فانتهتْ للأسف برغبة السلطة في إرضاء الطرف الأخير _ فتم نقل التمثال من مكانه في أشهر ميدان في المدينة إلى المتحف حتى تراه عيونٌ أقل في أوقات أضيق .. حتى هنا كان الأمر لا يزال قابلاً للتحمل بالنسبة لي ولجيلي ... ولكن ما فاق كل احتمال كان ما صنعه هذا الجيل الجديد الطائش ؛ عندما اكتشف أحد الطلاب في رحلة مدرسية إلى المتحف أنه إذا وقف الشخص بزاوية معينة وولى دبره للتمثال وانحنى كالراكع فإن إشارة التمثال تتحول فجأة لتكون شيئاً آخر يرقى إلى درجة الفعل الفاضح في مكان عام , وكانَتِ الصورةُ التي التقُطِتْ لذلك الطالب قد شاع تداولها على شبكات التواصل الاجتماعي حتى شكَّلتْ ما يسمى بظاهرة إنترنتية , ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى بدأ أبناء الجيل الضائع هذا بالتوافد زرافاتٍ ووحداناً على المتحف لالتقاط صورٍ تحاكي الصورة الأم .. ما الذي فعلتْه الدولة ؟ أثنَتْ على مدير المتحف " لدوره " في زيادة أعداد الجماهير المتوافدة على المتحف  , وبخاصة مِن الشباب الذين يدل توافدهم بهذه الكثرة على أنه قد بدأ يزيد وعيهم واهتمامهم بتاريخ وحضارة بلدهم !
ويبدو أن أحد أبناء جيلي قد ضاق ذرعاً بهذه الممارسة فقرر أن يرفع دعوى على أحد ممارسيها , فوقعتْ عينُه على صورةٍ لأخت هذا الشاب وهي تحطّ من هيبة التمثال بتلك الطريقة ,  فكانت هي المرفوع عليها الدعوى ..
عندما انتهى الشاب من وصف ما حدث كان قد صدَّق على ما ذهبتُ إليه , ثم أضاف :
 - " إن السبب الرئيسي لذهابنا لذلك المتحف كان أن أبانا شاهد مرة إحدى هذه الصور فثارت ثائرتُه , فلما وجدني أنا وأختى نضحك عليها , لم يصدِّقْ عينيه وقال كلاماً كثيراً عن الجيل الفاشل الذي لا يعرف تاريخه ولا أمل في مستقبل يتولى فيه مقاليد الدولة ... وساءتْني أنا وأختي هذه الخطبةُ العصماء فقرَّرْنا أن نذهب للمتحف ويلتقط كل منا صورة مماثلة , فأما أختي فالتقطْتُ صورتَها في تلك الهيئة , وعندما جاء الدور عليّ تذكرت كلام أبي فساءني أن أعصيه فارعويْتُ , وظلتْ أختي تهزأ بي بقية رحلتنا , فلم تكن إلا أيام حتى اكتسبتْ صورتُها تلك شهرة ضخمة ثم  فوجئنا بالدعوى المرفوعة عليها وأن ميعاد عقد المحاكمة بعد يومين , وأصرَّتْ أختي ألا نخبر أبوينا , فقلْتُ لها إنهما سيعلمان لو انتهت القضية بسجنك أو غرامتك , فقالت إنها ستطلب أن يترافع عنها محامٍ ماهرٌ هو مثلها الأعلى طيلة دراستِها , وطلبت مني أن آتي إليك "
- " ولماذا لم تأتِ هي بنفسها ؟ "
- " لا أعتقد أن انتقالها من مكان إلى آخر في هذه الظروف بالسهولة التي يبدو عليها ؛ إن بعض المهاويس صاروا يتتبعون مساراتِها وكأنها ممثلة مشهورة "
بدا ليّ أن الوضع شديد الغرابة .. والقضية ليستْ مضمونةً تماماً , ثم إن التجهيز للمرافعة قد يستغرق وقتاً , ثم تذكرْتُ قوله " إن ميعاد عقد المحاكمة بعد يومين " فسألته :
- " المحاكمة بعد غد ؟ "
- " لا لقد وصلَنَا الخبرُ أول ما وصلنا عندما كان قد بقي على ميعاد المحاكمة  يومان , وقد كان ذلك أول من أمس "
نظرْتُ إليه وأنا لا أفهم , فأكمل :
- " إن المحاكمة في الخامسة عصر اليوم " .
- " ولماذا لم تأتِنِي قبل يومين ؟ "
- " استغرقْتُ ذلك الوقتَ حتى وجدْتُ سعراً مناسباً لحاسبي اللوحي , فلم أُرِدْ أنا وأختي أن نطلب مالاً من أبوينا حتى لا يسألاننا عن سببه فيعلما بالأمر , ولم تشأ أختي أن تبيع شيئاً من مقتنياتها , فتطوَّعْتُ أنا ببيع حاسبي لتوفير أتعابك , فاستغرق الأمر يومين حتى وجدْتُ أفضل سعرٍ وبعْتُه لقاء أربعة آلاف , وأنا أعرف أن هذا المبلغ أقل بكثير مما تتقاضاه في المعتاد , ولكن بالنظر إلى أنه لم يبقَ على المحاكمة إلا ساعات فإنك لن تتعب كثيراً في الإعداد لمرافعتكَ ونحن راضيان عن نتيجة المحاكمة أيًّا يكن ما ستنتهي إليه  "
نظرْتُ إلى الفتى مرة أخرى , وقلْتُ في نفسي : إن هذا الفتى حسن الطوية , لقد امتنع عن إهانة التمثال لئلا يغضب أباه , وباع حاسبه اللوحي _ وهؤلاء الشباب شديدو الارتباط بهذه الأجهزة _ لأجل أخته .. ووجدْتُنِي ألينُ له :
- " حسناً , ولكنني بحاجة إلى كل دقيقة من هذه الساعات المتبقية لأدرس القضية , وسأحتاج أيضاً إلى سؤالك عن بعض التفاصيل _ بما أن أختكَ ليست هنا _ ولنرجُ ألا يطلب الادعاء سؤالَها ؛ لأنه لا وقْتَ لنعدُّها لذلك _ وهي ليستْ هنا أصلاً _ ... حسناً ! بإمكانك أن تنتظرني في الخارج , وستطلب منك ( لمياء ) _ سكرتيرتي _ أن تعود إلى المكتب عندما أفرغ من قراءة أوراق القضية لأستفسرك عن بعض الجزئيات ."
هز الفتى رأسه في استيعاب ثم خرج من المكتب , وانشغلْتُ أنا بقراءة ملف القضية ...

********

( 2 )

(سليمان) المحامي

عندما انتقلْتُ مع الشاب الذي اتضح أن اسمه ( سالم ) إلى قاعة المحكمة فوجئْتُ ببعض كاميرات الصحفيين حاضرة بالإضافة لما بدا وكأنه كاميرا تلفزيون تبث بثاً مباشراً وأمامها مذيعة تتحدث إلى ميكرفون .
لقد صارتْ قضيةَ رأي عام , وأعترفُ أن أول ما بدر إلى ذهني هو أنني لم أحضِّر دفاعي بما يتناسب مع قدر المناسبة , ثم عدْتُ إلى عقلانيتي وبدأتُ في التركيز فيما هو أهم , مصير المتهمة .. لقد كانت ( دنيا ) أخت ( سالم ) حريصة على ألا يعرف أبواهما بالقضية بالكلية , كانت صورتها تلك قد حازت شهرةً لا بأس بها في العالم الافتراضي , ولكن ليس إلى حد أن يصل الخبرُ إلى أبويها , أما من حيث إبلاغ المحكمة لوالديها فذلك لم يكن وارداً فقد كانت ( دينا )  قد تجاوزت الحادية والعشرين بشهور كما أن أخاها لم يُتَّهَمْ بشيءٍ  , فكان من الممكن بالفعل ألا يعرف أبوها شيئاً عن المحاكمة لو انتهت إلى براءتها , أما الآن  ومع كل هذه الكاميرات فالدنيا كلها ستعرف بتهمة ( دنيا ) . وألقيتُ عليها نظرةَ شفقةٍ فوجدتها تنظر إليَّ كأرنب مذعور , فأردت تهدئتها , وقلْتُ :
- " أهم ما في الموضوع هو أن تحصلي على البراءة , إن معرفة أبيكِ بما جرى ليست بهذه الأولوية الآن "
فقالتْ في حدة :
- " ومن أين ستأتي البراءة ؟ لقد صارتْ قضيةَ رأي عام , والقاضي سيحكم بحكم يتناسب مع ذلك؛ لأكون " درساً " لأبناء جيلي التائهين , أو أياً يكن ما يقوله هؤلاء المتخشبون "
ثم فطِنَتْ _ على ما يبدو _ أنني داخلٌ في جملة المتخشبين هؤلاء , فأضافَتْ :
- " أنا لا أعنيك أنت بالطبع يا أستاذ ( سليمان ) فأنت مثلي الأعلى , ولكن اسمح لي أن أقول إن جيلك _إلا فيما ندر _ جيلُ ديناصورات "
عقدَ لساني ما هي عليه من الجرأة التي تصل إلى الوقاحة , وتمنى جانبٌ مني لو ترافعْتُ مرافعة هزيلة لعلها تؤدي إلى حكم قاسٍ حتى تكون بالفعل " درساً " لهذا الجيل المستهتر , ولكن احترافيتي واحترامي لعملي سرعان ما نهَيَا ذلك الجانبَ عن وساوسه . وقلْتُ لها وأنا أحاول ألا أفقد أعصابي :
- " إن وجود الإعلام أو عدم وجوده لن يؤثر في حكم القاضي الذي يتحرى الحياد أياً تكن الظروف "
نظرَتْ إليّ وكأنها تشاهد طفلاً يخبرها بالطريق الذي سلكه بابا نويل في عيد الميلاد السابق حتى جاءه بهديته , ثم قالت بصوت يفيض سخرية :
- " هل تصدق هذا الكلام الفارغ ؟! "
- " ألستِ طالبةً في كلية الحقوق ؟! "
- " بلى ! وأنا في العشرة الأوائل في دفعتي لثلاث سنوات متتاليات "
كدْتُ أشد شعري , إن كان هذا هو ما تؤمن به المتفوقات فماذا عن البقية ؟ وقلْتُ :
- "ومع ذلك فأنتِ ترين أن القضاة يغيرون رأيَهم بتغيُّر ظروف عقد المحاكمة ؟ "
- " أليسوا آدميين ؟! من في الناس لا يتغير رأيه بتغير الظروف ؟! "
كانَتِ الإجابةُ على هذا السؤال هيّنة بالنسبة لي : القضاة . وقَطَعَ حوارَنا دخولُ القاضي , وبعد المرافعة الابتدائية انشغلْتُ _إلى حدٍّ ما _ عن متابعة القضية بفكرة ظلت تلح على ذهني حتى كادت تحول بيني وبين الإنصات لما يُقال , وهذه الفكرة هي : من سيتولى المكان الذي يشغله هذا القاضي بعد عشرين سنة ؟ بعد ثلاثين سنة ؟ ماذا عن وظيفتي أنا ؟ .... من سيسد الفراغ الذي سينشأ عن موت جيلنا ؟ ووجدتُ الإجابةُ تملؤني ذعراً .. ثم رجع اهتمامي بكليته ينصبُّ على القضية عندما حَلَّ وقتُ المرافعة الختامية , كانتْ هذه هي الفرصة لأركز على فكرة واحدة رئيسية لأجعل كل الأفكار الأخرى تبدو ثانويّةً ؛ تدور في إطارها .. بعض المحامين يجعل مرافعتَه الختامية أشبه بالملخص لكل النقاط التي دافع بها عن المتهم والتي هاجم بها الادعاءات الواقعة عليه ؛ ولكنني أنا كنْتُ من أنصار الفكرة الواحدة الغائية التي تعلو ولا يعلى عليها ؛ ولذلك قلْتُ :
- " مقامَ القاضي المحترم !
لو سُمِح لي أن أخرج قليلاً عن الموضوع المباشر للدعوى لأتحدث _ في شيءٍ من التجريد _ عن فكرة قد تبدو بدهية ولكننا نراها أساسية لوضع هذه الدعوى في سياقها الصحيح ..وهذه الفكرة هي : لماذا وُجِدَ _من الأساس_ ذلك التمثال الشهير لرجلٍ رحل عن دنيانا قبل عقود ؟ لقد تسبَّبَ التعاملُ مع هذا التمثال في هذه القضية التي بين أيدينا اليوم , ولكن ما الذي فعله صاحب ذلك التمثال حتى يكون صاحبَ تمثال ؟ أنا لا أزعم أنني أعلم عن حياة ( فالح العربي ) أكثر مما يعرفه المؤرخون ودارسو العلوم السياسية , ولكنني أعرف _ على المستوى الشخصي _ ما الذي جعل هذا الرجل يحظى بمكانة لا تدانيها مكانة أخرى عندي .. لم يكن ذلك لدفاعه عن حقوق الفقراء والمهمشين , ولا لمحاربته الجشعين والمستغلين , ولا لنذره حياته لذلك الدفاع وتلك المحاربة .. كثيرون قاموا بذلك فلم يصلوا إلى مثل ما وصل إليه ؛ .. ما جعله بتلك المنزلة هو أنه عاش حياته يحارب لأجل الضحايا فلم يَقَعْ _ولو للحظة_ فيما وقع فيه غيرُه من لوم الضحية وتحميلها وزرَ ما انتهى إليه حالها ؛ كان ( فالح ) يقول : وا رحمتا لضعفاء الأرض أنهكَهُم أقوياؤها .. فيخرجُ له من بين الضعفاءِ من يلعنُه ويشتمه وما جاء به .. فلا ينبسْ ( فالح ) ببنت شفة يرد بها سبَّ هؤلاء بمثله , لم ينْعِ حظَّه لأن الفقراء "المغيبين لا يفهمون فلسفته ولا يعون أين مصلحتهم" كما نعى غيرُه حظَّه .. كان إذا قال الرجلُ الغنيُّ المستكبرُ قولاً يلعن فيه الضعفاء ثم قال الرجل الفقير المستضعف القول نفسَه حارب الأول حتى لم يدع له مكاناً ليهرب إليه , وخفض جناحه للثاني حتى كأنه صاحب فضل عليه .
والحق يا سيادة القاضي أن هؤلاء الذين لم يسفَّهوا ولم يُقَلْ في حقهم : (إن كررتم مقالة من تعدونه أسيادكم فلتنتهوا إلى مصير أسيادكم . ) إن هؤلاء هم من بنى هذه الدولة بساعديه , وكان من الممكن أن يكون مصيرهم السجون والقبور ؛ لولا أن فَطِنَ رجل من مستضعفي هذه الأرض إلى أن من بين ما رُزِئَ به الضعفاءُ سلْبَهم حقَّهم في أن يعوا أنهم ضحايا وأن مستغليهم مجرمون .
سيدي القاضي إن من بين أكثر أصحابِ الاختيار محدوديةً فيما يختارونه القضاةُ عند الحكم , وأنتم أعلم مني بمضمون القانون وأعلم بحدوده الضيقة التي يتحرك في إطارها الحكمُ صعوداً ونزولاً , ولكن ما أرجوه من سيادتكم أن تسترشدوا _ في هذا الإطار المحدود للاختيار _ بروح ( فالح العربي) وتنظروا في المتهمة أمامكم ؛ هل هي من المُسْتَغِلّين الذين سلبوا غيرَهم حقوقهم , أم هي من المستَغَلّين الذين حيل بينهم وبين أن يعرفوا عدوَّهم من صديقهم ؛ فسخروا بمن سخّر حياتَه لنفعهم , وتقلدوا سبيل من يحتقر وجودهم ؛ ليست هي وحدها _ سيادةَ القاضي _ هي وكل جيلها . فإذا خلص سيادتكم إلى جواب هذا السؤال , فليحكمْ سيادتكم بما يتراءى لكم ."
وانتهى الحكمُ إلى البراءة , وقال القاضي في حكمه كلاماً عن ضرورة التعامل مع الشباب على أنه كنزٌ يُلامُ مَن يُفَرِّطُ في خيره , لا على أنهم مصدر عدوى يُحْمَدُ مَن يَحُدُّ من شره .
وبدا أن هذه القضية قد انتهت بما فيها عند هذا الحد !
**********

( 3 )

(دنيا)

نزلْتُ مع ( سالم ) من الباص الذي توقف على بعد عشرات الأمتار من المتحف الوطني , وذكَّرْتُ نفسي مرة أخرى بالخطة : سندخل إلى المتحف .. سيلتقط كل منا صورة للآخر عند هذا التمثال القبيح , سيعتقد ( سالم ) أن الأمر انتهى عند هذا الحد , وهو بالفعل سينتهي عند هذا الحد بالنسبة له  , ولكن بالنسبة لي أنا فإنه سيبدأ من هذا الحد .. سأنشر هذه الصورة في كل مكان ؛ مواقع التواصل الاجتماعي , المنتديات التي يرتادها هؤلاء الوطنيون , صفحات أنصار الحركة العمالية العالمية , كل مكان من الممكن أن يستاء رواده من مثل هذه الصورة .. أما السبب الذي يدفعني لفعل ذلك فلا أعرفه .. أو للدقة أكثر : لا أريد أن أصارح نفسي أنني أعرفه .. عندما تلحّ عليّ نفسي بالسؤال عن السبب , فإنني أجيب ببساطة : "إن لم أقمْ بهذه الأفعال الطائشة في هذا السن فمتى سأقوم بها ؟!" ولا يبدو أن نفسي تنخدع بهذه الإجابة الساذجة , فتستدرجني قائلة : "وماذا عليك ألا تقومي بها أبداَ ؟" فأرد في هدوء مصطنع : "لا شيء , هما سيان عندي ."  ولا تريد نفسي أن ينقضي الحوار دون أن أعترف صراحة بدافعي , فتقول في خبث : " ولكن كيف يكونان سيان , وأحد الخيارين لا يؤدي إلى مكروه .. والخيار الآخر _ خيار الاستمرار في الأفعال الطائشة _ قد يؤدي إلى مكروه .. قد يؤدي إلى الكثير من المكروه " فأرمق نفسي شزراً وكأني أحذرها من التمادي , فتضيف " ربما تَسْمِيَتُهُ بالـ " مكروه " ليست دقيقةً , ربما الأولى أن أسميه " المحبوب " أو " المشكوك في موقفكِ منه " أو أي اسم آخر يبيّن حقيقة افتتانكِ به " وهنا يبلغ بي الحرج مبلغه , فأضع إصبعيّ في أذنيّ حتى لا أسمع شيئاً آخر مما تصارحني به نفسي .
وفي تلك الليلة ستسغل نفسي فرصةَ نومي لتترجم كثيراً مما صمَمْتُ أذنيّ عن كلامها عنه  إلى أحلامٍ ؛ فأجدني فجأة قد أحاطتْ بي غابة من غابات الأمازون , ويخرج من بين الأشجار فجأة رجل مفتول العضلات , لم تَفْتِلْ عضلاتِهِ زياراتٌ للجيم , بل فَتَلَتْهَا محاربةُ "الأشرار" والقضاء على "المستغِلّين" , وأراه يمسك في إحدى يديه صورتي التي تظهرني أمام ذلك التمثال , ويلوح بها أمامي  , ثم يقول شيئاً بلغة لا أفهمها , ثم يمسك بذراعي فيطرحني على الأرض ممدة على بطني , ويرفع يده بالحزام _ متى وصل هذا الحزام إلى يده ؟! _ ويهوي به على مؤخرتي , ويتبدل المشهد فجأة فأجدني في غرفتي ممددة على سريري وقد رُفِعَتْ تنورتي إلى ما فوق ردفيّ ونزل ما تحتها إلى باطن ركبتيّ , وقد دفنْتُ وجهي خجلاً في مخدة قد أحاطتْها ذراعيّ , وأنا أسمع _ وأكاد أموت خجلاً _ حواراً يدور بين أبي وبين ( فالح العربي ) خارج غرفتي  شخصياً , ويقول (فالح) أنه مسامحٌ في حقه , فيرد أبي أن هذه البنت الشقية ستعاقَب على أية حال , ثم يخيِّرُ (فالحاً) بين أمرين : أن يتولى ( فالحٌ ) عقابي ويهوِّنَ فيه كما شاء , أو أن يستمر في رفضه وحينها سيتولى أبي عقابي وسيخرج عصا الخيزران من القبو _ متى كان في بيتنا قبو ؟! _ ولن يكف عن إنزالها على مؤخرتي حتى تنكسر نصفين , وحينَها يضطر ( فالح ) _حفاظاً على حق المستغَلّين في ألا تهوي على مؤخراتهم عصيُّ الخيزران _ أن يتولى هو عقابي . ويفتح الباب , ويزداد وجهي غوصاً في المخدة , ويقول في صوت عذب : " لقد جعلْتِ هذا الشيءَ" ويريح يدَه على مؤخرتي العارية " صوبَ تمثالي صباحَ اليوم , ويبدو من اللائق أن يتولى صاحبُ التمثال معاقبة نفس الجزء الذي هزأ بتمثاله . أم كيف ترين ؟ " وتصدر عني حشرجاتٌ لا أدري أذهبَتِ المخدة بمعانيها أم أنها صدَرَتْ عني غيرَ ذات معنى من البداية ؟ فيبتسم ( فالح ) _ كيف عرفْتُ أنه ابتسم ؟! _  ثم يجعل يسراه على أخرياتِ فِقَار عمود الفقري ويهوي بيمناه على ما تحت ذلك , وهو يقول " لو رأى روّاد ذلك المتحف ما يفعله أصحابُ التماثيل بمؤخرات الفتيات الشقيات اللواتي يصوِّبْن أردافَهنّ تجاه أصابع التماثيل المسكينة , لعلموا أن الجزاء من جنس العمل " يزداد وجهي غوصاً في المخدة وكأنها قد أصبحَتْ بحراً لا قاع له , وأكتشِفُ فجأةً أنها بالفعل قد صارت بحراً وأنني أهوي بلا هوادة تجاه القاع , وتزول ملابسي عني بالكلية كأنها تبخرت , وفجأة يتوقف هَوِيَّ وقد بلغْتُ القاع  فأنظر أمامي فأرى مدينة كاملة تحت البحر تحيط بها قبةٌ من بلور ,  وأرى رَجُلَين يهرعان خارجين من باب في القبة البلورية , ويمسكان بي ويقودانني إلى داخل المدينة ويغلقان خلفي باب البلور , ثم يقفان بي أمام الأمير _ الذي تتطابق ملامحه مع ملامح ممثل مشهور شديد الوسامة , فلا عجبَ أني جعلْتُه أميراً ! _ ويتكلم الأمير _ بنفس صوت الممثل المشهور وطريقته _ ويقول :
- " هذه ثالث فتاةٍ هذا الشهر , إن حِرْصَنَا على إنقاذ أرواح البشريات قد أغرى الفتياتِ بإلقاء أنفسهن على باب مدينتنا ؛ من المحال أن ترضى لنا أخلاقنا بتركهن يمتْن غرقاً , ولكننا لن نسمح أيضاً بأن نُبْتَزَّ ! "
ثم يشير الأمير إلى الجنديَّيْنِ القابضَيْنِ على ذراعيّ فيسوقانني إلى ما يبدو كمكتب مرتفع وأعتقد أنهما سيحنيانني عليه فأفاجأ أن أحدهما قد رفعني وأجلسني عليه ثم مددني على ظهري وجاء من ورائي وثبت رسغيّ على المكتب بيديه , ثم طار الآخر _ نعم , طار ! _ فصار فوقي ورجلاه جهة السقف ويداه تجاه المكتب فجعل يمنى رجلاي في يمناه ويسراهما في يسراه وارتفع بِرِجْلَيّ وفرّجَ ما بينهما حتى تمنيت أن تنشق الأرض وتبلعني , ثم وقف الأمير بين رجليّ وعيناه تقابلان عيناي ثم تنحدرُ عيناهُ فتتمعنان فيما بين رجليّ ثم تعودان لتقابلا عيناي وقد علت شفته ابتسامة , ثم جلس على يمين جسدي الممدد وقد أولاني ظهره وأراح راحة كَفَّه اليسرى على ما بين رجليّ وربّت عليه مراتٍ كأنه يواسيني , وقال :
- " سيضطر صاحبُكِ هذا للانتظار طويلاً حتى نلبي له رغبتَه , فربما كان عليكِ أن تنصحيه أن يضبطَ نفسه فقد بدأ يسيل لعابُه "
ولما ظنَنْتُ أنه لا حدَّ للإحراج فوق هذا قاطع مشهدَنا دخول صديق الأمير _ وله ملامح مغنٍّ مشهور لا يقل عن وسامة الممثل _ فقال للأمير :
- " مولاي ! على الرغم من حَرَجِ اللحظة , إلا أن جلالةَ الملك قد طلب لقاءكم بشكل عاجل ! "
نظر إليه الأمير وكأنه طفلٌ قد سُحِبَتْ من يديه لعبته المفضلة , وسأل :
- " بشكل عاجل عاجل , أم بشكل عاجل فقط ؟ "
- " أخشى يا مولاي أنه بشكل عاجل عاجل "
تنهد الأمير , ثم نظر إلى اتجاهِ نَظِرِ صاحبه , فبدأ يشرح وقال :
- " حسناً ! هذه " وأشار إليّ " بشريّة تستحق أشد أنواع العقوبة بجرم ابتزاز الذات الأميرية , وغوايةِ الذات الأميرية , وانكشافِ أشياء من جسدها قد ذهَبَتْ بلبِّ الذات الأميرية .. " ثم أشار إليّ في اتهام وقال " ومن جرائمِها _التي وقعتْ للتوِّ_ عضَّتُها هذه التي عضَّتْ بها شفتها السفلى " ثم عاد بجسمه إليّ وأضاف " والتي تسبَّبَتْ في تأخُّرِ الذات الأميرية عن الطلب العاجل للقاء الذات الملكية .. "
قاطعه صديقه :
- " أعتقد أن هذه الجريمة الأخيرة لم تقع بعدُ مولاي , وربما من الحكمة ألا تقع "
بدا وكأن الأمير يجاهد نفسَه جهاداً شديداً , ثم تغلب صوتُ العقل فيه , فقال :
- " حسناً ! سأذهب للقاء الملك , ولكن " وأشار بإصبعه مهدداً صاحبه " إياك أن تلهوَ بشيء منها , هذه _بالذات_ أريدها لنفسي ! "
أجاب صاحبُه بهدوء :
- " وهل سَمِع الأمير عني قبل اليوم عصياناً لأمره  فيشكَّ فيّ ؟! "
هز الأمير برأسه مؤكدا على صحة كلام صاحبه , ثم انصرف , فقال صاحبه لي :
- " إن صاحبَ السموِّ لم يُعَرِّفْ بالضبط المقصودَ بـ ( تلهو ) ولكني أعتقد أنه .. أخضر وجميل يا نعناع ! "
رمقْتُه في ذهول وأنا أقول :
" أخضر وجميل يا نعناع ؟! "
هنا بدأ صوته يرتفع ويتحول إلى صوت آخر مألوف , ومد عنقَه صائحاً :  " أخضر وجمييل يا نعنااااااع ! "
وتبخر الحلم , وفتحْتُ عيني في تثاقل ليعود الصوتُ مرةً أخرى يقرع سمعي :
- " أخضر وجميييييييل يا نعنااااع ! "
كانتْ علاقتي ببائع النعناع هذا ملتبسة ؛ من جهةٍ فقد كان مرورُه بشارعنا كل يوم في السادسة صباحاً أشبه بالمنبّه المجاني , ولقد كدْتُ أنام عن محاضراتي في أيام كثيرة لولا صوتُه , ولكن عندما تأتي إجازة الصيف أو غيرها من الإجازات فإنه يتحول من نعمة إلى نقمة .
- " أخضر وجمييل يا نعناااااع ! "
حاولْتُ إبقاء عيني مفتوحتين , وشيئاً فشيئاً بدأ النوم يزيل آثاره عن جسدي ويرحل , ففتحت جهاز الحاسب ودخلت إلى صفحتي على الفيس بوك لتهولني كمية الإشعارات وطلبات الصداقة ؛ ما سبب ذلك بالضبط ؟! أجابني لا وعيي في توجس : لعل له علاقة بصورتك في المتحف ! ولكنني استبعدت ذلك , نعم لقد نشرْتُ هذه الصورة في كل جنبات الإنترنت ولكن آلاف الفتيات والفتيان قد فعلوا ذلك من قبل ؛ لماذا أكون بدعاً فيهم ؟ ولكن توجس لا وعيي كان في محله ؛ مليونا إعجاب لصورة واحدة ؟ أنا لا أعتقد أن هذا يحدث حتى لصور المشاهير .. ووجدتُني من باب الفضول لا إلا أذهب لصفحة الممثل المشهور والمغني المشهور اللذين حلمت بهما قبل قليل ؛ هل لدى أيٍّ منهما مشاركة تزيد إعجاباتها عن مليونين ؟ وكان الجواب : لا . وقلْتُ في نفسي : مبروك لقد أصبحْتِ مشهورة .... ولم أعلم أن هذه الشهرة لم تكن إلا في بداياتها فحسب , فبعد أيامٍ سيرفع أحد الحمقى دعوة قضائية عليّ وسأتصور أن بإمكاني أن أخفي أمر المحاكمة عن والديّ فأتفاجأ ببثّ المحاكمة صوتاً وصورة على كبرى المحطات الفضائية ؛ إن حياتي كنكرة _لا يعرفها إلا أهلها وأصحابها_ كانت قد انتهت في ذلك اليوم .

********

( 4 )

(دنيا)

فلاش الكاميرات يومض على جانبيّ ...وبضعة ميكروفونات تمدها أيدي أصحابِها تجاه فمي ..وأسئلة تتناثر عن يميني وشمالي .. وأحاول أن أسير في هذا الحشد البشري الصحفي الإعلامي فلا أكاد أتحرك ... إحدى المذيعاتِ تقول في حماسة وقد  رفعتْ صوتَها عمن حولها :
- " ما هو شعوركِ وقد تعهَّد رافع الدعوى بالطعن على قرار البراءة ؟ "
فاجأني السؤال ؛ هل هذا الأمر لم ينته بعد ؟! وفوجئْتُ بصوت الأستاذ ( سليمان ) المحامي وهو يرد على هذا السؤال من ورائي _وهو الآخر يجاهد ليشق طريقه في وسط الكاميرات والميكروفونات _:
- " لا أعتقد أن احتمالَ نقضِ الحكم بهذا الارتفاع , بل بإمكاننا أن نقول في ثقة إن حكم المحكمة اليوم _هو على الأغلب_ دائم "
التفتَ الصحفيُّون فجأة تجاهه وكأن إجابَتَهُ أغرتْهم أنَّ بإمكانهم الحصولَ منه على شيء , وقال أحدهم :
- " ماذا كنْتَ ستفعل لو كانت المتهمةُ ابنتكَ , وهل عدم صدور عقاب لها من المحكمة كان ليحميها من عقابٍ في البيت ؟ "
نظرْتُ في ذهولٍ لهذا الصحفيّ المتبجح , ولكن جانباً مهماً من هذه المهنة _على ما يبدو _ قائم على التبجح , وأجاب ( سليمان ) في هدوء :
- " لا تعليق ! "
كرر الصحفيُّ السمجُ سؤاله :
- " هل معنى ذلك أنك ترى _ في حق المتهة وغيرها _ أن جانباً من العقوبات يجب أن يقوم به أولياء الأمور في البيوت , وألا تشغل المحاكمُ نفسَها به ؟ "
ردّ ( سليمان ) في ضجر  :
- " هي لم تعد متهمةً وقد صدر بحقها حكمٌ بالبراءة , ثم إنها في الحادية والعشرين من عمرها , وليستْ في السادسة ! "
فعاد الصحفيّ لتبجحه _وقد سره أنه حصل على إجاباتٍ أكثر ممن سواه _ :
- " ولكن الفعل الذي قامتْ به المتهمةُ  لا يصدر إلا عن طفلة في السادسة "
كنْتُ قد بدأْتُ في الخروج من هذا الحصار وتبعني ( سليمان ) بعدها بلحظاتٍ , وقال وكأنه يواسيني :
- " رغم عملي لثلاثين سنة في المجال القانوني , فإنني لا أزال مندهشاً من عدم اعتبار ممارساتِ الصحفيين هذه جُنْحَةً ..أو جناية حتى ! "
قلْتُ له :
- " ربما لم يكنْ عليكَ أن تجيب على أسئلتهم حتى لا يطمحوا إلى مزيدٍ من الإجابات "
نظر إليّ وكأنه يقول : هل قمْتِ لتوِّك بتوجيه نصيحةٍ لي ! فكدْتُ أضحكَ لولا أن ارتفع رنينُ هاتفي المحمول , فالتقطْتُه ونظرْت في الشاشة ثم قلْتُ :
- " هل لي أن أطلبَ منك خدمةً , باعتبارِنا محاميين زميلين ؟ "
سرَّني أن نظر ( سليمان ) لي شزراً , وكاد أن ينفجر فيّ لولا أن بادرْتُه :
- " إن المتصل أبي , وهو رجل لطيف المعشر , ولكنه إذا غضب لم يتمالكْ نفسَه _ كلاماً لا فعلاً _ , فهل ترد أنْتَ عليه وتخبره أنني نادمة على ما بَدَرَ مني وأنها كانتْ صفحةً وطويَتْ ؟! "
لمعَتْ لأول مرة عينا ( سليمان ) وكأنه قد خطرتْ له فكرة شريرة , ثم التقط الهاتف المحمول مني , ولكنه لم يضغط زر الرد حتى كان قد ابتعد عني خطوات حتى لا أسمع الحوار الدائر بينه وبين أبي . ولما طال هذا الحوار دقائق بدأ القلقُ يعروني .. تُرَى ما الذي يتحدث فيه هذان بالضبط ؟
ثم أقبل عليّ ( سليمان ) , وسلمني الهاتف المحمول , وقال :
- " أبوكِ موافق ! "
- " هل طلبْتَ يدي من أبي قبل قليل ؟! "
لم يستطعْ ( سليمان ) منع نفسه من الضحك , وقال :
- " بل هو موافق على أن تتدربي على المحاماة عندي في إجازة الصيف هذه ! "
لم أكنْ أجهلُ سمعةَ ( سليمان ) في هذا الصدد ؛ كل أوائل كلية الحقوق في كل السنين الدراسية يتمنون هذه الفرصة ويرفضهم هو , فلماذا يخصني بها ؟ وكأنه قرأ تساؤلي من قبل أن أسأله , فقال :
- " إنني أعتقد أن مشكلة جيلكم هذه أنه بحاجة إلى أن يفرض عليه الانضباط من خارج ؛ لأنه يبدو جلياً أنه غير قادر على الانضباط من داخل , وقد قلْتُ ذلك لأبيكِ لأهدئ من غضبه عليكِ , وأكدْتُ له أنني أعاني أيضاً من عدم وجود شباب ذوي انضباطية  .. مما يدفعني إلى العمل وحدي وعدم قبول متدربين , وكان رد أبيكِ رائعاً على هذه النقطة ... "
بدأ شيءٌ من الخوف يتسرب إليّ , وقلْتُ بصوت خافت :
- " إن أبي ليس من أنصار "الانضباط من خارج " هؤلاء ! "
ابتسم ( سليمان ) ابتسامة فيها من المكر ما فيها , وقال :
- " على أيِّ قرائنَ بنيْتِ هذا الحكم ؟ "
عاد قلبي يخفق بقوة أكبر , وقلت كأنني غريق أتمسك بالهواء :
- " إنه لم يفرضْ عليّ عقاباً في حياتِه ! "
- " هناك فارق بين النية وبين التنفيذ   , لعله نوى في أكثر من مناسبة قريبة وبعيدة أن يعاقبكِ ثم لما أراد أن ينفذ نيتَه لم يستطعْ حمْلَ نفسِه على ذلك . هذا مقبول منطقاً , أليس كذلك ؟ "
كان التوجس والرهبة قد بلغا مني مبلغهما , فعاجلْتُه قائلةً :
- " ما الذي قاله أبي بالضبط ؟ "
- " قال لي : إنكَ على الأقل لديكَ سكرتيرة , فكيف تحملها على إتقان عملها , إذا كان الجيل كله غير منضبط ؟ , فقلْتُ إن سكرتيرتي (لمياء ) ذات طبيعة نادرة فهي  تقبل أن تُعَاقَب إذا أخطأت . وعندها طلب مني مباشرة أن أقبل بكِ متدربةً عندي , وأن أعاقبكِ كما أعاقب ( لمياء ) "
ازداد صوتي خفوتاً وأنا أسأل :
- " وكيف تعاقب (لمياء ) ؟ "
- " في المعتاد أزيد في ساعات عملها_ مدفوعة الأجر _ بعد الدوام   , وأكلفها خلال هذه الساعات أن تعيد مراجعة ما أخطأتْ فيه , وألّا تأتيني به في الغد إلا وقد خلا من كل خطأ "
لوهلة بدا لي أن ( سليمان ) يتحدثُ عن شيء آخر؛ فلما قال ما قاله  بدا وكأنني قد نجوْتُ لتوي من حادث طريق . فلما رأى ارتياحي لما قاله , أضاف :
- " أما إذا جاء الغدُ وظلتِ الأخطاءُ موجودةً بعد المراجعة , فإن (لمياء) تقضي معظمَ ذلك اليوم واقفة "
عاد قلبي ينبض بسرعة ألف ميل في الساعة , ولكنني وجدتُنِي مدفوعة دفعاً للسؤال :
- " ولماذا تقضي معظم ذلك اليوم واقفةً ؟ "
- " لأنه من الصعب أن تجلس مرتاحةً بعد ما عوقِبَتْ به "
لم يكن هناك حاجة لمزيد من الإيضاح , ولكن خاطرة خطرَتْ لي فجأة فامتقع لها لوني :
- " هل ناقشْتَ كل هذا مع أبي ؟ "
- " لقد توقف بنا الكلام عند الساعات الزائدة , ولكن _إن كان لي أن أبديَ رأيي _ فقد بدا لي صوتُه محبطاً قليلاً عندما وَجَدَ العقابَ مقصوراً على ذلك . من يدري ؛ ربما يوماً ما قد أُخْبِرُهُ بتمام الخبر , وعندها فمن يدري ؛ ربما تجدين نفْسكِ تعاقبين في البيت كما تعاقبين في المكتب "
كنْتُ قد نسيتُ تماماً أننا لا نزال في الطريقِ , وبدا لي أن احمرار خديّ قد بدأ يشد أنظار المارة , وانتبه ( سليمان ) إلى ذلك , فقال :
- " ربما يفترض بنا أن نذهب إلى المكتب " ولما رأى امتقاع لوني أضاف : " حتى أبدأ في توزيع القضايا عليكِ , ونتفق على جدولِ عملك"
مرةً أخرى بدأت أتنفس الصعداء , وكأنه قد أعجبتْه لعبة إخافتي ثم طمأنتي ثم إخافتي هذه , فقد أضاف :
" أما سؤال ذلك الصحفيّ عما إذا كان حكمُ البراءة الذي نلْتِهِ ينسحب على كل أنواع العقاب الأخرى  , فلو كان لي أن أجيبه بأثر رجعي لقلْتُ : عندما يبدأ عقابُ الآنسة ( دينا ) على ما فَعَلَتْه في تلك الصورة فإن جزءاً منها سيتمنى لو تستبدل به عقوبةَ المحكمة , وعندما أنتهي من كامل عقابها فإنها لن تقابل تمثالاً بعد ذلك بمؤخرتها أبداً حتى لو كان تمثالَ زوجها ! "

وقد كان !

******************

ليست هناك تعليقات: