الأربعاء، 13 يوليو 2016

قصة : رحلة وعي ! ( إكس / إكس )



قصة : رحلة وعي ! ( إكس / إكس )

- بضعة تنويهات :
 
تنويه 1 : هذه القصة تعمد في كثير من أجزائها إلى استخدام لغة قد تعد مرتفعة قليلاً عن عربية الجرائد والصحف , فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك , فقد  نوهنا به .


تنويه 2 : تصوِّرُ القصة في معظمها علاقاتٍ ذات طابع جنسيّ بين ذكرين, وذكر وأنثى , وأنثيين , فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك , فقد  نوهنا به .

تنويه 3 : مما تشمله تلك العلاقة ذات الطابع الجنسي ما يعرف بالإنجليزية / بالإنكليزية بـ
فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .
  
تنويه 4 : هذا العمل ضرب من الخيال لم يقع ولا أجزاؤه ,  ولا قَصَدَ إلى تصوير ما وقع بكليته أو بجزء منه , وشخصياته ليست محاكاة لشخصيات واقعية وأي تشابه بينها وبين أي شخصية واقعية حية أو ميتة علمنا بها أو لم نعلم محض صدفة , وأي حثٍّ على فعل أو على الامتناع عن فعل بناءً على ما في القصة مما تُوُهِّم أنه مغزى فهو غيرُ مقصود من المؤلف , وليس حثاً على الحقيقة , ومتى وقع الفعل الذي تُوُهِّم أنه حُثَّ عليه فالفعل مسؤولية / مسئولية فاعله ولا يسأل المؤلف عن ذلك .
فإن كان أيٌّ من هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .

- القصة : 

(1)

علا صوتُ صفقةٍ ما ثم أتبعها عويلٌ وبكاءٌ شديد , ثم لم أعد أسمع شيئاً ...
كان الأمر سريعاً ؛ فجأة كان هناك شيءٌ ثم لم يعدْ هناك شيءٌ ...
وعندما رجعْتُ لفتح عيني لم يكنْ ما رأيْته ذا معنى على الإطلاق ... متى صار الناس بهذه الضخامة ؟ ..
وأجابني صوتٌ في داخلي .. _وكأنه رسالة مسجلة أُوْدِعَتْ فيَّ وظلَّتْ تدور لأبدٍ طويل قبل أن أفيق للمرة الأولى فأسمعها للمرة الأولى_  .. قال الصوت : .. لم تعد إنساناً .. ولسْتَ بالعدم ... وستطالِع ما يتمناه غيرُك ... ولكنك لن تذوقه ... ستعيش للأبد فيما لا حياة فيه ...
ولما وصل الصوتُ أذنيّ اختفى ...وكأنه ناظر محطة كان يرقبُ قطاراً _عمرَه كلَّه_,  فلما بلغه القطار _بعد دهور_ أغمض عينيه ومات...
ثم أكرر النظر فيما حولي .. فأجد المشهد قد زاد غرابةً .. لا زال الناس شديدو الضخامة يسيرون حولي _ وأنا لا أشعر بشيءٍ ولكني أرى وأسمع _ ولكن فتاةً منهم تدنو مني وكأنها لا تصدق أنها تراني , ثم تمد إصبعين _ في ضخامة رِجْلَين_ نحوي , ويبدو أنها التقطتْنِي لأن المشهد يزداد ارتفاعاً واتساعاً, ثم تقرِّبُني من عينِها كأنها تتأمل فيّ شيئاً ما , وفجأة يأتي صوت هادرٌ من ورائها :
- " لصة ! أمسكوا اللصة ! "
فتركض الفتاة .. وأنا لا زلْتُ بين إصبعيها وأنظر لأجد مطارِدِيها يقتربون منها , ويبدو من صوت تنفسها أنها تجاهد في الركض لتبتعد عنهم  , ولكنهم يضيِّقون المسافة شيئاً فشيئاً .. حتى تعلو كفُّ أحدِهم لتمر فوقي وتنتهي إلى كتف الفتاة .. فتتوقف عن الركض وقد جذبتها الكفُّ .. ولأن الفيزياء لا تتوقف قواعدها عن العمل لرغبة شريفٍ ولا وضيع .. فقد طرْتُ من بين إصبعي الفتاة لأهوي على الأرض .. فيصيح الصوت الهادر :
- " الخاتم! ... خاتم السيدة! ... انتبهوا للخاتم! "
ولأن قواعد الفيزياء لا تتوقف فجأة عن العمل فإنني .. خاتمَ السيدةِ ... قد استمرَرْتُ في التدحرج بسرعة متوجهاً نحوَ ما صُمِّمَ الطريقُ لأتوجه نحوه : مصرف المياه !
وبدا أنه لا شيء سيحول بيني وبين بلوغ هدفي لولا أن إطاراً ضخماً قد حال بيني وبين الاستمرار في الحركة , وأمعنُ النظر في الإطار الضخم فإذا هو باطن حذاء رياضي قد نزل به صاحبه عليّ قبل أن أصل للمصرف .
ويرتفع الحذاء عني فأجد يداً أخرى تلتقطني , ويقول صاحبها في أسى بعد أن تمعَّن فيَّ:
- " ليس خاتمَ السيدة ! بل تقليد رديء .. وفوقَ ذلك فهو من نحاسٍ "
ثم يهمّ أن يرميني فترتفع صرخة احتجاجٍ من شفتي " اللصة " , فينظرُ إليها في استغراب , ويقول :
- " ألم تفهمي ؟ إن غنيمتَك ليست غنيمة ! إنه لا يساوي شيئاً !"
ولا زالت عيناها معلقة بي ؛ ويبدو أن من حولي فَطِنوا لتوِّهِم لما فطِنْتُ أنا له قبل قليل , فقال أحدهم :
- " هل هذا لكِ ؟ "
فتنظرُ إليه في توجس , وكأنها تختبرُ إن كان يريد فعلاً معرفة الحقيقة أم أنه يهزأ بها , ثم تتغلبُ على خوفها , وتقول :
- " اشتراه لي زوجي في عيد ميلادي ! فسقط مني البارحةَ فجئتُ لأبحثَ عنه "
بدا شيءٌ من الأسى على بعض العيونِ ثم سرعان ما امّحى كأن لم يكن , وسلّمُوها خاتمَها , فلما استقرَرْتُ في يدها جعلتني في إصبعها وسارتْ بي إلى بيتها ؛ أو للدقة : إلى حجرتِها التي تكاد تخلو من كل أسباب الحياة , ولم تكد تفتح باب الحجرة , حتى رفعتْ إصبعَها في الهواء فارتفعْتُ أنا معه , وقالتْ _ لمن أعتقد أنه زوجها _ :
- " وجدْتُه ! "
نَظَرَ إليها زوجُها , فنظرْتُ أنا إليه , ورأيْتُ ما توقعْتُ رؤيتَه ؛ هذا الحزنَ النبيل ... لقد تمنى أن يشتري لزوجته أنفس ما يُشْترى فلما عجز عن ذلك أهداها ما تيسَّر , فلما ضاع منها ما تيسَّر لم يملك حتى ما يشتري به مثلَه مرةً أخرى .. ولكنها الآن قد وجدَتْه .. فلا داعيَ لتذكر ما يسوء ... وارتمتْ زوجتُه في حضنه فلما آواها بين ذراعيه .. كأنها قَاسَتْ حنانَه إلى قسوة الناس , فلم تملكْ أن قالتْ :
- " متى صار الناس بهذا السوء ؟! "
ورأيْتُ في عيني الزوج شبحَ سؤال ثم دفنه .. ولقد حمدْتُ فعلَه .. إذ لو سألها ... فلعلها تجيبه فتتذكر تلك الحادثة المحزنة ... أو لعلها تعرِّض بمعنى عامٍّ فتتذكرَ أيضاً تلك الحادثة المحزنة .. فلما اكتفى بالحنوِّ عليها وتقبيل جبينِها رفعتْ عينيها إليه , وقالتْ :
- " إني يسوءني أن تُحْسِن لي كلَّ هذا الإحسانِ ثم أسيء بك الظن ... ولقد همَمْتُ أن أطلعكَ على شيءٍ _أهواه من قديمٍ_ ثم خفْتُ أن تهزأ بي فسكتُّ "
- " أنا لا أهزأ بكِ أبداً .. ولو قلْتِ : أريد كذا , فقالتْ لي نفسي : ومن يريد هذا الكذا ؟! لسَفَّهْتُ رأي نفسي وأخذْتُ برأيكِ أنتِ .. "
جرّأها ما قاله زوجها,  فقالتْ له :
- " عندما كنْتُ أنشد خاتمي اليومَ .. وسوسَتْ ليَ نفسي : أن لعلكِ لا تعثرين عليه , فترجعي خاوية اليدين , فيغضب زوجكِ لاستهتارك بهديته .. فلا تنامي ليلتَكِ تلكِ إلا وقد رأيتِ منه ما يرى الطفلُ من أمِّه _ وقد غضِبَتْ عليه _ تضربه ثم تترضّاه  . فلمَّا وسوستْ لي نفسي ذلك وصوَّرَتْ لي مكاني منكَ وقد خضعْتُ لكَ لتفعل بي ما بدا لك .. وأنتَ تَزِنُ لي العقوبة ميزانَ الذهبِ ؛ فلا أنت تقسو كل القسوة _ حباً لك مني _ ولا أنت تلين كل اللين _ طلباً منكَ لرشدي _ فكدْتُ _والله_ أن أدعَ طلبي الخاتمَ رجاءَ أن يكونَ الذي وسوسَتْ لي به نفسي ...فقد طالما أطلبه ولا أناله   "
انتبه الزوج إلى " أسلوبِ " زوجتِه , فابتسم وجاراها :
- " إني ليس أشدَّ عليَّ من أن أسوأكِ .. ولكنّ المحنةَ في إجابتِكِ إلى ما طلبتِه شديدة ؛ وقد ذكرْتِ ميزانَ الذهب ؛ وإني لا أدري لعلي أفرُطُ أو أفرِّطٌ ؛ وإنه لا تستحيي المرأةُ من زوجها , فلو فصَّلْتِ مكان الإجمال , وأفصحتِ مكان التورية , لكان أقربَ إلى جواب طلبكِ وأدنى إلى فعلِ ما تقرُّ به عينُكِ .
 فإذا جاءكِ كتابي هذا فأرسلي إليَّ ما قِبَلَكِ من وساوس نفسكِ وأمانيِّها حتى نستعين بها على قضاء حاجتكِ , والسلام ! "
نظرَتْ إليه زوجتُه في دلالٍ , وقالتْ :
- " قد بلغنا كتابُ أمير المؤمنين _ أطال الله بقاءَه _, والذي ذكرَ فيه أن نوافيه ... بوساوس نفسنا وما تشتهيه ...
 وإن حصرَ هذه على البداهة عسير , وما كلُّ ما فيها يصلح لمجلس الأمير .. ولكننا تخيرْنا من ذلكَ ما نرجو أن يكون فيه الغناء والكفاية , ونسأله العذرَ إن قصَّر الجهدُ عن بلوغِ الغاية ..
فأما أولى تلك الوساوس المرغوبة ..والأمانيّ المحبوبة .. فتُسْتَفْتحُ بأمير المؤمنين في مقصوراتِه وقد حل سراويلات مولاته .. "
فقاطعها زوجها :
- " ما الذي يقابل " سراويلات " في ملابس عصرنا هذا ؟ "
- " لقد كنت أطلب السجع لا أكثر! "
- " ربما علينا أن نخرج من تلك " الحالة " حتى لا يؤدي طلب السجع إلى ضياع المعنى ! "
- " حسناً ! إنني أتمنى أن أقف أمام زوجي _ وقد جلس وجعلني واقفةً بين رجليه_  وقد بدا الجدّ على وجهه وأنا أحاول أن أزيلَ شيئاً من جَدِّية تلك الملامح بأن أجعلَ تعبيرات وجهي كتعبيرات وجه طفلة وأصواتي كأصواتِ طفلة و"خوفي" من أن تُنْزَعَ عني ملابسي كخوفِ طفلة , لعله إذا رأى مني ذلك رقَّ قلبُه فصفح عني , وهو مع ذلك يمضي غير عابئٍ , فتمتد يداه إلى ما أرتديه من بنطال أو تنورة فينزل بهذا أو يصعد بتلك  , حتى إذا ما بدا أنه لم يبقَ دونَ أن يشرع في عقابي إلا إنزاله ما أرتديه تحتهما , ازدادَتْ  توسلاتي ووعودي أن أنتهي عما ينهى عنه العقابُ بدون عقابٍ  فلا تعود حاجةٌ إليه , فينظر إليّ زوجي _ ولم تفقد ملامحُه شيئاً من صرامتِها _ وينقض دعواي تلك , فيسألني : (وإذا كنْتِ قادرةً على عدم الوقوع في الخطأ من البداية , فلماذا وقعْتِ فيه ؟) فأقول في سرعة :  ( كان ذلك في الماضي , أما في الحاضر والمستقبل فلن أعود لذلك الخطأ أبداً ). ويجيب زوجي في هدوء : (وما الفارق بين مرة الماضي ومرات الحاضر والمستقبل ؟ ) فأنتبه إلى الفخ الذي ساقني إليه , وأحاول أن أجد مخرجاً فأقول : (الفارق أن زوجي _ حبيبي _ ... ) وأنظر إلى ملامح وجهه عندما قلْتُ ( حبيبي ) فلا أجدها لانتْ ولو يسيراً , فأكمل ( قد هَمَّ أن يعاقبني على مرة الماضي , ولما كنْتُ فتاةً مطيعةً فقد أغنتْني استفتاحياتُ العقابِ عن العقاب نفسه ! فلن أعود في مرات الحاضر والمستقبل لذلك الفعلِ أبداً !  ) وأنظر إلى ملامح وجهه فأجدها كادتْ تنفرج شيئاً يسيراً عن شبح ابتسامة , ولكنَّها عادتْ _ في أقل من ثانية _ إلى تجهمها , ويقول لي زوجي : ( ولكنْ هل تقوم الفتيات المطيعاتُ بـكذا وكذا وكذا ؟ ) ويبدأ في تعديد ما قمْتُ به في الماضي , فأجد دعواي تزداد ضعفاً , وأملي في النجاة يبتعد بعيداً , ويبدو اليأس عليّ , فأجد ملامحه تدافع دفاعاً شديداً كي لا تتخلى عن التجهم وتهوِّنَ عليّ , فيرجعُ إليّ الأمل , وأقول بصوتٍ _ تخلى عن الطفولة وارتدى مسوح الأنوثة كاملة _ : ( ولقد كنْتُ أطمع أن تنتهي ليلتُنا إلى شيءٍ آخر ) وأحاول أن أميل عليه لأزيد افتتانَه , فيتلقى ميلتي تلك بيديه ويذهب بها إلى غايتها فلا تنتهي إلا وقد استقرتْ بطني على إحدى فخذيه ورجليّ محصورتان بين رجليه وقد أراح يده على مؤخرتي , ويقول : ( ومن قال إن ليلتَنا ستحزم حقائبها وترحل بعد أن أفرغ من عقابكِ ؟ بل نبدأ بالعقاب وننتهي بالذي كنتِ طامعةً فيه ) فلا أتمالك نفسي وأقول : (إن كان هذا هكذا فأنا موافقة ) فيقول زوجي وقد عاد لصوتِه صرامتُه : ( وهل أحتاج لموافقتك ؟!! ) وأنتبه إلى أن ملابسي الداخلية قد نزلتْ وحل محلها راحةُ زوجي , وهو يقول : ( هذه أول مرة أعاقبكِ فيها _وقد عثرْتِ على ذلك الخاتم على أية حال _فسأكتفي بنزول يدي على هذين ) ويقبض بيده على كل ردفٍ من ردفيّ ( ولو لم تكوني رجعْتِ به لكنْتُ قد زدْتُكِ نزول فرشاة شعركِ عليهما ) "
كان زوجُها قد بدأتْ حدقتاه في الاتساع , وتنفسه في البطء , وبدا له أنه ليس بحاجة إلى أن يكون زوجاً مثالياً لـ " يحمل " نفسه على تحقيق رغبات زوجته . ثم قال لها :
- " هذه الوساوس بحاجة إلى أن تدوَّن وتطبق بحذافيرها في فتراتٍ ثابتة , ولكنني سأدخل تعديلاتٍ أيضاً , على سبيل المثال : السيناريو الذي ذكرتِه قبل قليل سنطبقه اليوم ولكنني أريد أن أبدأ عقابك وأنت كاملة العري ليس عليك شيءٌ واحد "
رفعَتْني الفتاة لأقابل زوجها , وقالت:
- " ولا حتى سبب العقاب ؟ "
فابتسم , وقال :
- " ولا حتى السبب ! "
وعندما تعرَّتْ من كل شيءٍ حتى " السبب "_ كما سألها زوجها _ انتهى بي الحالُ وقد وضعْتُ في علبة .. لا أعتقد أن تسميتها بعلبة مجوهرات مناسبة .. فليس فيها غيري .. ولم أكن " مجوهرات " بالضبط .. ولذلك لم أرَ شيئاً .. ولكن الأصوات التي بلغَتْني كانتْ كافية لأستيقن أن السيناريو طُبِّق بحذافيره , ثم زيد عليه .. وبينما أنا في الإنصات لما يجري خارج العلبة ...

بدأتِ الأصواتُ تتلاشى ... وبدأتْ دوامة في العصفِ بي فاستسْلمْتُ لها .. وانتهى كل شيءٍ

*******

(2)

أحاول أن أرى ما حولي فأجدني معلقاً في سقفٍ ما ؛ في منتصف السقف ... لينكشفَ لي كل ما تحتي وكأنني وضعْتُ عمداً بحيث أرى كلَّ المحيطِ الذي حولي ؛ كأنني كاميرا مراقبة .. ثم أنتبهُ إلى صوتِ الضحكات الصادرِ من تحتي فأنظر إلى مصدره فأجد ما يبدو وكأنه رواقٌ مشرفٌ على درجٍ ..وتحت ناظريّ خمسُ فتياتٍ كأنهن الأقمار , وعليهن ثياب موحدة , وهن تجرين وتتضاحكْن كأنهن تلعبْن لعبة ما .. فأعيد تقديرَ الأمر .. هذه على الأغلب مدرسة .. فما الذي يجعل المدرسة تضع كاميرا مراقبة في منتصف سقف بهوٍ ما ؟ .. ثم أفطن إلى أن المكان الذي أشغله هو على الأغلب مصدر إضاءة لا كاميرا مراقبة ؛ أنا مصباحٌ إذاً .. هذه فكرة لطيفة .. ويعيدُني إلى المشهد الدائر تحتي ارتفاعُ صوت إحداهنّ باقتراحٍ ؛ أن تلعبن لعبة ما , ثم تصِفُها .. فتتساءل واحدةٌ في دلال عما يجعل اللعبة المقترحة جديدة , فهي نفس الألعاب التي تعلبْنها كل يوم .. فتقول المُقْتَرِحة في جرأة : ولكن هذه المرة لن نكتفي بالركض وإمساك بعضنا البعض بل ستقع أيدينا بصفعاتٍ على جسد المُمْسَكة ! .. وتسألها إحداهن في خفر : على أي جزء من الجسد ؟ .. فتعودُ المقترحةُ إلى جرأتِها وتقول : لا نريد أن يؤذي بعضنا البعض , لنخترْ من الجسد أطرى ما فيه لئلا تتألم المصفوعة ! وتفطن واحدةٌ ثالثةٌ لكلام المقترِحة فتهوي على ردفيها بصفعة وتسأل في عبث : هكذا ؟ فتنظر إليها المقترِحة وتقول : يفترض أن نركض أولاً ليكون في اللعبة حماسٌ ! فتهوي هذه _مرةً ثانيةً_ بيدِها على ردفَيْ المقترِحة وتقولُ في مجون : ولكنكِ واقفةٌ مكانَكِ فماذا أصنع لكِ  ؟ ...  فتبدأ المقترِحةُ في مطاردتِها وتبدأ هي في الركض .. وتنغمس الباقيات في جوِّ اللعبة كلٌّ مع من بجوارها .. كلُّهنّ إلا واحدة ؛ التي سألتْ _في حياءٍ_ عن مكان وقوع الصفعاتِ ... فلما رَأَتِ الحَيِيَّةُ اقترابَ إحدى زميلاتها منها هَرَعَتْ إلى زاوية البهو فجعلت ظهرَها إليها , وابتسَمَتْ كالمُعْجبَةِ بذكائها ؛ إذ فوَّتَتِ الفرصةَ على صاحباتِها أن تفعلْنَ بها ما كنَّ تفعلْنَه مع بعضهن البعض , وتنتبه إلى صنيعها بقية زميلاتِها فتقول المقتَرِحة في استياء لا يخلو من ممازحة : هذا إخلالٌ بقواعد اللعبة ! فتقول الحيِيَّة : ولكنكِ لم تُسَمِّي قواعدَ ! فترتسم ابتسامةٌ خبيثةٌ على شفتَي المقترِحةِ وتقول _وكأنها محامية_ : فهاكِ الصيغةَ الكاملةَ : أولاً , القواعد ... هي قاعدةٌ واحدةٌ : لا يجوز أن تتجنب أيٌّ من اللاعبات تعرّضَ جسدِها للصفعات مستخدمةً في ذلك التجنُّبِ يديها أو جداراً أو ما يشبه الجدار ... وتسري هذه القاعدة في جميع الظروف ويعتبر الإخلال بها مما يوقِع المُخِلِّة في المساءلة واستحقاق العقوبة المبيَّنة فيما يلي ... ثانياً : العقوبات : في حال الإخلال بالقاعدة المذكورة أعلاه تقوم إحدى اللاعبات _ ويُفَضَّل أن تكون من اقترحَتِ اللعبة على صديقاتها _ تقوم بتوثيق المُخِلّة مستخدمةً يديها وجسدَها على النحو التالي : تقوم المقترِحة بمعانقة المخلة بحيث يلتصق جسديهما ويكون ظهر المخلَّة مقابلاً لبقية اللاعبات , وتمسك المقترِحة برسغي المخلّة ثم تعقدهما خلف ظهر المخلة _ لئلا ينتج عن العقوبة محاولة توقي المخلة للصفعات مرة أخرى مستخدمةً يديها , فتؤدي العقوبة إلى الإخلال بالقاعدة ويؤدي الإخلال بالقاعدة إلى العقوبة وهلم جراً ولا ننتهي إلى شيءٍ _ بعد ذلك تقوم بقيةُ اللاعبات بتعويض المخلّة عن الفترة التي توقفَتْ فيها الصفعات عن السقوط على جسدها بسبب إخلالها بالقاعدة واستعمالها الجدار أو ما يشبه الجدار أو يديها في الإخلال بمبدأ المساواة ووضعها نفسَها موضعاً تميزيًّا استثنائياً لم تحصلْ عليه بقيةُ اللاعبات .. ويعتبر تقديرُ اللاعبات لما يستحقه جسدُ المخلَّة من الصفعات تقديراً نهائياً باتاً غير قابل للطعنِ ولا النقض .
طيلةَ الفترة التي كانت المقترحةُ تتلو فيها "بيانَها القانوني" كان خدَّا الحيِيَّة يزدادان حمرة , فلما فرغتْ المقترِحةُ من تلاوة بيانها , التمعتْ أعينُ زميلاتِها وأمسكْن يديها ...وهي تدافعهن ويظهر من مدافعتِها عدمُ جديّتها في رفض ما هو قادمٌ ... فلما استقرَتْ في حُضْنِ المقترِحة _ ويداها مقبوضٌ عليهما خلفَ ظهرها _ بدأَتِ الحيَّية تتلقى صفعاتِ زميلاتِها على مؤخرتها , وهي تتأوه .. أو على الأقل تحاول أن تجعل الأصواتَ الصادرةَ عنها تبدو وكأنها تأوه.. وإن لم يبدُ أن صديقاتِها يغفلْن عن حقيقة تلك الأصوات .. فلما ازداد تأوُّهها زَيْفًا واقْتَرَبَ من كَوْنِهِ اعترافاً صريحاً بما تجده من اللذة ..لم تتمالك المقترِحةُ أن ترجِعَ برأسها قليلاً وتخطف قبلة من ثغر الحيِيَّة ... ولقد حاولتْ زميلاتُها أن تُظْهِرْن غفْلَتَهنّ عما حدث .. ولقد فشِلْن في ذلك فشلاً ذريعاً .. فلما بدا أن الأمور تسير مسرعةً إلى اتجاه آخر بدأ صوت وقع قدمين ما يتصاعد على الدرج فنظرتْ إحدى اللاعبات إلى صاحبتها _وثالثتهما لا تزال غافلة عن صوت قرع الحذاء للدرج , فَيَدُها لا تزال تهوي على ردفي الحيِيَّة , أما المقترِحةُ والحيِيَّة فكانتا في ذهول تام عن سماع صوت الخطوات أو صوتِ غيرها _ ثم قالَتْ لصاحبتِها :
- " هل هذا وقع حذاء ذي كعبٍ عالٍ ؟! "
كنْتُ أفهم ما وراء ذلك , في الأغلب تمنع المدارسُ الطالباتِ من ارتداءِ مثلِ هذه الأحذية , فيقتصرُ ارتداؤها على المدرسات , فإذا سمعَتِ الطالباتُ وقع حذاءٍ ذي كعبٍ عالٍ علمْن أن القادمة مدرِّسة .
وشدَّتْ السائلةُ يد زميلتها الثالثة التي كانت لا تزال تهوي على مؤخرة الحيِيَّة وقالتْ لها همساً : " مدرِّسة ! " فهرعَتِ الفتياتُ الثلاثُ هارباتٍ وأرادتْ إحداهنّ أن تنبه زميلتيها المتعانقتين _ المغلقتينِ عينيهما وأذنيهما عما سواهما _ولكن الوقت كان قد تأخر وبدأ وقع الخطوات يعلو وكأنه يوشك على بلوغ صاحبتِه نهايةَ الدرج , فعدَلَتْ عن تنبيه المتعانقتين وفرَّتْ بنفسها ... وبعد ثوانٍ فتحت المتعانقتان عينيهما على نحنحة المعلمة .. وكانتْ عيناها معلقتان بوجهِ المقترِحة _إذ هو ما يقابلها أما الحيِيَّة فلا ترى منها إلا باطن رأسها _ .... فطِنَتِ المقترحة في أقل من ثانية لما جرى , وسرْعانَ ما بدأتْ في تلفيق عذر , فقالتْ همساً _ وكأنها تحاول ألا تثير مواجع صاحبتِها _ :
- " لقد عنفتْها " وأشارت بإصبعها لصاحبتِها التي تعانقها " إحدى المعلمات اليوم وقالتْ إنه لا أملَ لمن كانتْ في مثل هذه البلادةَ أن تحقق شيئاً في مستقبلِها , ولا تزال صاحبتي تبكي من أثر تلك الكلمات القاسية "
وفطِنَتْ الحيِيَّة إلى صنع صاحبتها فبدأتْ تجهش بالبكاء , فكادتْ أن تفضح القصةَ كلها _إذ كان تظاهرها بالبكاء في مثل سوء تظاهرها بالتألم قبل قليل _... وَلَكِنْ بدا على المعلمة أنها مصدقةٌ لما تسمعه, ولكنها قالتْ في هدوء :
- "  حسناً ! أنا آسفة لما وقع لصاحبتِكِ , ولكن البعض قد يرى أن هذا .. الـ .. الـ...القُرْبُ ... ويظن أن وراءَه شيءٌ آخرُ ...  "
تظاهرَتِ المقترِحة بالذهول مما سمعتْه _ وكانتْ على الذي يظهر ممثلةً بارعة بالإضافة لكونها حقوقية متمكنة _  وكأنها لا تصدق أن مدرسةً محترمةً يمكن أن يصدرَ عنها مثلُ هذا القولِ الفاحشِ , حتى لو كان على سبيل الحيطة .. ونقلَتْ نظرتُها تلك في جلاءٍ هذا الذهول .. فأضافَتِ المعلمةُ _وقد ساءها أن تجعل نفسَها في هذا الموضع_ :
- " انسَي ما قلْتُه .. أنا آسفة ! "
فلما سارتْ المعلمةُ بضعة خطواتٍ مبتعدة عن المتعانقتين , أزاحتْ المقترِحة صاحبتَها قليلاً ونظرَتْ إليها في نفس الجدية _ فليعطِها أحدهم جائزةَ أوسكار_ وقالتْ وصوتُها صوتُ شاهدٍ على معجزة :
- " لا يمكن أن أصدق ما جرؤتْ هذه المعلمةُ على التلميح إليه ! يا للدناءة ! أيُعْقَل أن يكونَ شيءٌ كهذا بين فتاتين ! ... إييخ ! "
ولم تتمالك الحيِيَّة نفسَها _ على حيائها _ فأهوتْ بفمها على فم صاحبتِها , ولم تكن هذه القبلةُ كالتي خطفتْها صاحبتُها منها أمام زميلاتِها , كانت هذه القبلة مما يرنُّ له صدى , وبدا لي جلياً _ من مكاني في السقف _ أن المعلمة قد توقفتْ عن سيرها وبدأتْ في الاستدارة تجاه الفتاتين ..

عندها بدأت الألوان تتداخل ... والأصوات تتلاشى ... وبدأتْ دوامة في العصفِ بي فاستسْلمْتُ لها .. وانتهى كل شيءٍ

********

(3)

الأرض معشوشبة ولكني لا أشعر بطراوة العشب الأخضر الندي على جسدي .. لا أحاسيس أكثر من السمع والبصر , وحتى هذين ليسا إحساساً بالضبط ؛ إنهما ومضة عقلية .. لو كان لي أن أسأل نفسي : ما الذي كانه هذا الصوت ؟ أمرتفع أم منخفض ؟ رقيق أم أجش ؟ .. فما أجيبُ به على نفسي ليس ذكرى الصوتِ وإنما ذكرى وصفِه ... وكأنه وُجِد ابتداءً فيّ أنا وليس في خارجي ... فأنا أدركه في داخلي ولا أدركه بحواسّ خارجية ... وكذلك الحال مع المرئيَّات .. أما الإحساس بمرور الهواء عليّ .. بملمس الأشياء حولي ..بأثر الجاذبية فيّ .. كل هذا لا أشعر به .
ولهذا عندما طرْتُ فجأة في الهواء مبتعداً عن العشب , لم أكن أعلم أنني طرْتُ إلا من ابتعاد العشب الأخضر عن ناظري ثم اقترابي منه مرة أخرى بسرعة , وما إن هويْتُ إلى الأرض حتى بدأتُ أرى صورةَ تَسَارُعِ العشب أمامي وكأنني أركب مجسَّم  سيارة مصغر , وأسير به بين العشبِ ... ثم أمعنْتُ النظرَ أمامي فوجدْتُ رِجْلاً فيها حذاءٌ ذو بروزاتٍ في باطنه , وصاحب الرِّجل يسرِع نحوي وغيره يسابقه ليصلَ إليّ .... آه ؛ أنا كرة قدم إذاً .. أو كرة شيءٍ آخر ؛ لِنَنْتظرَ حتى نرى إن كان هذا اللاعبُ سيمسكني أم يركلني... ولمّا كان آخرُ ما رأيتُه منه هو حذاءَه ثم بدأتْ صورة العشبِ المتسارع مرة أخرى .. فقد علمْتُ في يقين أنني كرة قدم .. فكَّرْتُ في نفسي : هذه زاوية لا يتيحها لك مخرجو المباريات .. ثم لما صار بعض الوقتِ ... رجعْتُ لنفسي قائلاً : هناك سبب لماذا لا يهتم أحدٌ بهذه الزاوية ؛ كان من المستحيل تقريباً أن أعرف أحداث المبارة بهذا الشكل .. ثم كانتْ المفاجأة عندما خرجت من الملعب فأمسكتْ بي يدا طفلٍ وألقى بي في جهة ما , ولم أغادرْ مكانِي حتى زمنٍ طويلٍ ؛ حتى جاءَ طفلٌ آخرُ وحملني وانتهى بي إلى غرفة تدريبٍ وجعلني في سلةٍ فيها كراتٌ أخرى , وسرَّني أنني على قمةِ هرم الكراتِ التي في السلة مما يمنحني منظوراً مرتفعاً أرى من خلاله أكثر الغرفة , ثم لما مضى وقتٌ طويلٌ ولم أر شيئاً أو أسمع شيئاً ... فطِنْتُ إلى أن سببَ كوني في قمة الهرم : أنني نُسِيتُ في الملعبِ حتى فرغ الجميعُ من المباراة وانصرفوا ولم يبق في الاستاد غيري .. ولكن صوتاً قطع عليّ حبلَ أفكاري فنظرْتُ فوجدْتُ لاعباً صغير السنِّ قد دخل للتوِّ إلى غرفة التدريب ودخل وراءه مدربه وأغلق الباب . وأمعنْتُ النظر في اللاعب فوجدته لا يتجاوز العشرين ... ومدربُه واقفٌ أمامه وعلى وجهه علامات انقباض , واللاعب يقول :
- " لقد حاولْتُ جاهداً ! "
والمدرب يردُّ في صرامة :
- " عندما يقول أفضل مهاجم رأتْه عيناي _وقد خسر فريقُه للتو بفارق هدف واحد _ أنه حاول جاهداً ... ثم أعود لإحصائياته .. فأجده قد ضيع عشر هجمات منها أربع محققات , فلا أعتقد أنه صادق فيما يقول ! "
كان اللاعب على وشك أن يقول شيئاً , فأكمل مدرِّبُه _ وكأنه قد تذكر _ :
- " بالإضافة للبطاقة الصفراء , من سَمِع بفريقٍ لا يحصل فيه أحدٌ على بطاقات إلا رأسُ حربتِه ؟ "
- " لقد كان ذلك المدافع الوغدُ مستفزاً , فلم أتمالكْ نفسي ! "
بدا وكأن اللاعب قد ندم على هذه الكلمات بمجرد أن خرجَتْ من شفتيه , ورأيْتُ الغضبَ يلمع في عيني المدرب , وهو يقول :
- " هذه هي القشة التي قصمتْ ظهر البعير ! أو للدقة : هي القشة التي ستتسبب في قصْم ظهر البعير ؛ ليس كاملَ الظهر ؛ بل جزءٌ من الظهر ! "
بدا أن اللاعب قد فطِن إلى مغزى مدرِّبِه , فبدأ يتوسل , ولمّا لم يبدُ أن توسُّلَه سيأتي بنتيجة ... تذكر شيئاً :
- " ولكنني سجَّلْتُ هدفين ! "
- " ولكن دَخَل فينا ثلاثة , فلا زلنا مهزومين ! "
- " ولكنني سجَّلْتُ هدفين ! "
بدا وكأن المدرِّب قد أدرك ما يريده , فقال :
- " حسناً هذا لا يعارض ذلك , ولكنَّكَ ستعاقبُ أولاً ؛ جئني بحزامكَ ثم كنْ في حيثُ أريدُكَ "
فتح اللاعب دولاب الملابس وأخرج منه حزاماً جلدياً , وبدا كأنه يخاطب الحزام بعينينه ويترجّاه أن يتحول إلى قطنٍ او قماش , والحزام ينظر إليه ويقول : من سَمِع بجِلْدٍ تحول لقماش ؟! ولَكِنْ سَمِعَ كثيرون بلاعبٍ ضَبَطَ نفسه فلم يُضِعْ فُرَصَه ولم يستجبْ لاستفزازات خصمِه ... ولما انتهى الحزامُ من خطبتِه العصماء , لم يتمالك اللاعب أن غرس أظفاره في جانب الحزام .. فأقسم الحزام أن ينتقم ... فأبلغَه المدرب رغبتَه , ولم يفرغْ من سقوطِه على مؤخرة اللاعب _ وقد تعرى مما عليه وانحنى ليولِي المدرِّبَ ردفيه _ حتى كان قد صيَّر غرورَه تذللاً ... وسبابَه اعتذاراتٍ  .... واستهتاره وعودَ صدقٍ بالجد والاجتهاد ....  ومؤخرتَه حمراءَ !
فلما طلبَ منه المدرب أن يرجعَ بالحزام مكانَه نسيَ اللاعبُ تمامَ عقابِه .. فذكَّره به مدرِّبُه .. فرفع اللاعب الحزامَ إلى شفتيه وقبَّله .. فنال الحزامُ انتقامَه كاملاً ..
 ولمّا رجعَ اللاعبُ لدولاب الملابس ليعيد الحزامَ مكانَه .. ثم عاد ... كان مدرِّبُه قد جلس على كرسيٍّ وأشار إليه بإصبعه ليدنو منه , وقال :
- " بالنسبة للهدفين اللذين سجلْتَهما ... ذكِّرْني : ما الذي كنْتُ وعدْتُكَ به إن سجلْتَ هدفين أو أكثر في مباراة واحدة ؟ "
بدا أن وجه اللاعب قد اقتبس شيئاً من حمرة مؤخرته , وتمتم بما لا يُسْمع , فأضاف مدرِّبه :
- " لأنك إن لم تذكرْني فلعلي لا أتذكِّر .. فلا يصل إليك ما وعدْتُكَ به , إذ كيف أمنحُكَ شيئاً نسيتُ ما هو ؟! "
- " إن به شَبَهاً مما كنا فيه آنفاً "
- " أتريديني أن آتي بالحزام فيكملَ حوارَه مع مؤخرتِكَ ؟ "
- " لا , ليس الحزام ! "
يرفعُ المدرب عينيه في نظرة متسائلة مصطنعة ..
كان ردفا اللاعب قد أتمّا نسخَ ولصْقَ محتوياتِهما إلى خديه فعاد محمرّ الأعلى والأسفل , وقال بصوت خافت :
- " بل باليد ! "
- " يدُ من ؟ "
ولمّا لم يقلْ لسانُ اللاعب شيئاً , نزل المدربُ بناظره إلى بقية جسم لاعبِه _لعل فيه ما قرَّر أن يجيب نيابةً عن اللسان _ فأشار شيءٌ في جسد اللاعب إلى يد المدرب إشارةً شديدةً وكأنه يريد أن يفارق جسد اللاعب ليوصلَ فكرتَه , فقبِل المدرب بذلك جواباً , وقال _ وقد قرَّر أن يرأف بلاعبِه _  :
- " تعالَ هنا ! "
واقترب منه اللاعبُ , فأمسك المدرب منه ما كان أجاب على سؤالِه قبل قليلٍ , ورفع عينيه للاعبه , وقال :
- " منذ وعدْتُك هذا الوعد , وأنت _ سواءً هزِمْنا أو انتصرْنا _ لا تسجِّل أقلَّ من هدفين , فيبدو لي أن الوعد أجدى في تقويمِكَ من الوعيد "
فعضّ اللاعب على شفته السفلى , ويقول _ وقد بلغ منه الخجل مبلغاً _ :  
- " أما ما ينتج عن تسجيل الهدفين فإنني أرغب فيه بعد كل مباراة فلذلك أسجل هدفين في كل مباراة ... وأما ما ينتج عن الهزيمة المستهترة فلا أرغب فيه إلا نادراً , ولذلك نُهْزمُ نادراً , فليس فيما تفعله بي وعيدٌ , وإنه كله وعد "
ويرفع المدرِّب إليه عينيه في ذهول , ثم يفْطِن إلى مغزى ما قاله : هناك فارق بين الاستهتار وبين تعمد الهزيمة ؛ لقد كان بوسْع لاعبِه أن يحقق لهم النصر لولا أنه رغب _ عمداً _  في أن يُعاقب .
ثم يقول المدرِّب في غضبٍ بالغٍ :
- " ارجع إلى الحزام فائتني به ! "
فيرد عليه الذي لا يزال في يده رداً بليغاً : (ذاك أحبُّ عندي) !
ويُسْقطُ في يدِ المدرب , إذ كيف يعاقِبُ شخصاً كهذا ؟! ثم يهتدي إلى حل , فيقول  :
- " هدفان أو ثلاثة : يدي ... أربعة أهداف : الحزام .. هزيمة متعمدة منك : محرومٌ من يدي ومن الحزام حتى نهاية الموسم "
ولم يحتجِ المدرِّبُ إلى ردٍّ , فقد خفق (صادقُ الجواب ) في يده مرتين عند ذِكْرِ يده والحزام , وعندما ذَكَرَ الحِرْمان منهما انتكس كالباكي , فعلِم المدرِّبُ مفتاحَ لاعبِه ..

عندها بدأت الألوان تتداخل ... والأصوات تتلاشى ... وبدأتْ دوامةٌ في العصفِ بي فاستسْلمْتُ لها .. وانتهى كل شيءٍ ...

*********

(4)

مرة أخرى لا أعرف أين انتهى بي المطافُ , ويأتيني صوتٌ بعيدٌ فيشغلني عن التفكير في معنى ما أنا فيه .. يزداد الصوتُ إفصاحاً عن سببِه , ولكنه آتٍ من بعيد فكأنني أبْعُدُ عن مصدره أميالاً  .. ثم أنتبه إلى ما أمامي .... مكتبٌ فيه حاسبٌ آلي وشاشة حاسبٍ وفأرة ولوحة مفاتيح .. فأنا _إذن_ الكرسيُّ الذي أمام المكتب .. وتعود الأصواتُ البعيدةُ إلى وقعِها الرتيب .. لو كان لي _ بخبْرَتي _ أن أخمن ماهية هذه الأصوات , لقلْتُ إنها أصواتُ فرشاةِ شعرٍ تهوي على مؤخرة أحدهم أو إحداهنّ .. لا أدري ... إذ لا أستطيع سماعَ صوتِ التألم ولا صَوْتَ التوبيخ من مُجْرِي العقابِ والمُجْرَى عليه ...  ثم فطنْتُ لعلة كون الأصوات بعيدةَ .. هذه غرفة المكتب أو غرفة الحاسب أو أياً تكنْ .. ولعل هذه الأصوات صادرةٌ عن غرفة النوم مُغْلَقَةِ الباب , ولنفترض أن بابَ هذه الغرفة _ الذي لا أراه _ مغلقٌ أيضاً .. حينها سيبدو الصوتُ بهذا البُعْدِ ..
ثم أحاول أن أستنتج _ مما أدركْتُهُ _ ما يجري : هذه شقةٌ ما .. لا يبالي من يقومُ أو تقومُ بالمعاقبة فيها أن يَسْمَعَ صَوْتَ عقابِه بقيةُ من في الشقة .. إذن _ فعلى الأغلب _ ليس في الشقة غيرهما ..
 أو لعل في الشقة غيرهما ولكن هؤلاء الآخرين عرضةٌ لنفس العقاب أو أنهم موقِعُون مثلَه على المعاقب .. وذلك بأن يكون المعاقِبُ أباً مثلاً والمعاقَبُ ابنته ويسمع عقابَهَا زوجتُه _ التي تعاقِب هي الأخرى ابنتَها في غير هذه المناسبة _  وابنُه _الذي هو عرضةٌ لنفس العقاب من أبيه في ظروف أخرى _ .... وحينَها لن يهتم الطرفان بأن يسمعهما الآخران _ وإن كان ذلك مما يزيد من خجل المعاقبة بلا شك _ ..أو لعل في الشقة غيرُهما ولكنَّ هؤلاءِ الآخرين ليسوا موجودين في هذه اللحظة ؛ لأنهم في سفرٍ أو خرجوا من الشقة لأي سبب آخر ...
وكانتْ الأصوات قد توقفَتْ .. فحاولْت أن أصغي السمع لما يدور في غرفة النوم _ إن كانتْ غرفةَ نومٍ _ فلم أصل إلى شيءٍ .. ثم فجأة فُتِحَ بابٌ ما ... ثم فُتِح باب الغرفة التي أنا فيها , وسمعْتُ وقع خطواتٍ يقترب عن يميني ثم دخل في مجال نظري شاب عارٍ تعركُ أذنَه يدُ شابة _لا أرى منها غير يدها_ حتى خرج بعيداً عن مدى رؤيتي _ إلى ما أعتقد أنه زاوية الحجرة _ ثم بدأتُ الشابة تتكلم _ وأنا لا أرى أيًّا منهما _ فقالتْ :
- " قصَّ عليَّ مرة أخرى ما حدث ! "
بدا لي أن الفتى يزن خيارته , ثم قرَّر أن الأسلم أن يفعل كما طُلِب منه , فقال :
- " لقد كان من المفترض أن أقابلَ صديقي ( سامي )  في منزله , ولكن عندما ذهبْتُ لمنزلِه وطرقْتُ البابَ لم يردَّ أحدٌ طرقي الباب , فاتصلْتُ به على هاتفه المحمول, فلم يردَّ , فاتصلْتُ بهاتف البيتِ فلم يرد أحدٌ  فخفْتُ أن يكون أصابه مكروه ... "
وسكتَ الشاب عن إتمام كلامه لينشغل بالصراخ ألماً بعد أن سَمِعْتُ وقع خطوتين _ كانتا ما يفصل الشابةَ عن جسده المودعِ زاوية الحجرة على الأغلب _ ثم هوت راحتها على مؤخرتِه فعوى ألماً _ لا شك أن ما فعلتْه فرشاة الشعر بمؤخرته قبل قليل قد رفع من شعوره بذاك الألم  _ ثم قالتْ :
- " أنا لا أريد أن أسمع منكَ تبريراتٍ تخفِّف من عقابِكَ ؛ لقد عاقبْتكَ في غرفتي وانتهى الأمر , ولسْتُ أنوي أن أكرِّرَ عقابكَ في غرفتِك أنت أيضاً ...  فقط أريدك أن تكرر ما حدث ليستقر في ذهنك مدى سخفِ ما قمْتَ به"
بدا وكأن الشابَ قد فقد الأملَ في أن يقدر على مخادعة الفتاة فأجاب بصدق :
- " حسناً ! إن جانباً مني كان يتوقع أن تكونَ علةُ عدم رد أحدٍ على طَرْقِ الباب ولا على هاتف المنزل أو الهاتف المحمول أن والدَيْ (سامي )  كانا في سفر وأنه أحياناً يتأخر في النوم إلى ما بعد التاسعة .. ولما كنْتُ قد ذهبْتُ إليه في الثامنة _ وإن كان هو من وعدني أن ألقاه في ذلك الوقتِ _ فقد كان هناك احتمال أن يكون نائماً .. "
بدا أن الشاب لا زال محجماً عن الاعتراف بما فعل , ثم إنه خاف أن ينال صفعةً أخرى , فأكمل في سرعة :
- " فقلْتُ إذا كان والداه ليسا في البيتِ فماذا يضير لو تسللْتُ من الباب الخلفي وفاجأته في نومه ! "
هنا هوَتِ الصفعةُ التي كان يخشاها على ردفيه مرتين , وقالتْ الفتاة :
- " وهل أسرة صديقكَ مكونة من أب وأم وابن واحد ؟ "
- " بل من أب وأم وابن وابنة ! "
- " فماذا عن الابنة ؟ "
خشي الشاب أن يستمر عقابُه _ الذي يفترض أنه انتهى _ فقال في صدق :
- " إن جانباً مني كان مستوعباً أن هناك احتمالية ما لوجود الابنة _ أخت ( سامي ) _ في البيت في تلك اللحظة .. "
- " ثم ؟ "
- " ثم إنني قررْتُ أن أتسلل على أية حال , ولكنني _ وأقسم _ لم أكن أنوي إلا أن أفاجئ ( سامي ) وأن أخيفه في نومه ! "
- " ثم ما الذي حدث ؟ "
- " عندما تسللْتُ إلى البيتِ , اندهشْتُ لوجود أصواتٍ غريبة قادمة من غرفة أختِ ( سامي )  , وعلى الرغم من أن خطتي المبدئية كانَتِ التوجه لغرفة ( سامي )  إلا أنني لم أدر ما الذي حدث ..ولكنني .. "
مرة أخرى .. رجعَتِ الصفعاتُ تنهال على مؤخرتِه ورجع للتأوه . ثم أضافَتِ الفتاة :
- " لم تدر ما الذي حدث ؟!! "
- " حسناً ! لقد كانتْ الأصواتُ قد بدأتْ في الارتفاع وصراخ أخت ( سامي)  قد بدأ هو الآخر في الارتفاع , فقرَّرْتُ أن أعدل عن الذهاب إلى غرفة ( سامي )  وأنظر من ثقب باب غرفة أخته لأرى ماذا يحدث ! "
- " ثم ؟ "
- " وجدْتُها عارية مستلقية على سريرها وقد رفعتْ إحدى يديها بفرشاة شعرها وهوتْ بها على مؤخرتها وهي تصرخ وتتألم ومع ذلك فهي مستمرة فيما تصنعه"
- " ثم ؟ "
- " ثم لا أدري إن كان الوقتُ قد طار سريعاً وأنا لا أشعر به أمْ أن ( سامي )  قد استيقظ فجأة من نومه , أو لعله استيقظ بسبب الأصوات تلك , إلا أنني وجدْتُه واقفاً على رأسي وأنا أنظر من ثقب باب غرفة أخته , والأصواتُ لا تزال مسموعةً من داخل الغرفة ! "
- " ثم ؟ "
- " كان الغضبُ شديداً في عينيه , ولكنه بدا مستغرباً هو الآخر من تلك الأصوات , فلم أشعر به إلا وقد أزاحني من أمام الثقب , وبدأ ينظر هو فيه , ولكن خلافاً لما صنعْتُهُ أنا فلم يكدْ يرى ما يحدث حتى فتح الباب على مصراعيه , وذعرتْ أختُه وقالتْ شيئاً عن أنها ظنَّتْ أنه لا يزال نائماً , وتجاهل كلامها , وقال (إنْ كان هذا ما تقضين وقتكِ في صنعه  فأنا أتكفل لكِ به ) , ثم سار نحوَها _ وهي لا تزال عارية _ ووضع يده على ظهرها فحال بينها وبين أن تنهض من استلقائها على سريرها , ثم أخذ منها فرشاةَ شعرِها وأهوى بها على ردفيها .. "
- " كل هذا والباب لا يزال مفتوحاً وأنت واقف ؟ "
- " نعم , لقد ذهِلْتُ عن نفسي وبقيْتُ واقفاً في مكاني .. "
كذَّبَتْه ستٌّ صفعاتٍ عاجلَتْ بهن الفتاةُ مؤخرتَه فكاد يبكي , وقال :
- " حسناً لقد كان بوسعي أن أغادر , ولكنني ظللْتُ واقفاً لأشاهد ما يصنعه صاحبي بأخته "
- " ثم ؟ "
- " ظل يهوي بفرشاة شعرها على مؤخرتها حتى ابتدأتْ في البكاء فرقَّ لها , وذهبَ من نفسه الغضبُ عليها ... فعاوده الغضبُ عليّ , ونَظَرَ إلى الباب فوجدني لا زلْتُ واقفاً مكاني , فأشار إليّ بالفرشاة , فعلمْتُ ما ينوي فعله فهربْتُ من بيتِه ...ثم لما جئْتُ هنا وسألتِني عما جاء بيَ مبكراً وكيف كان لقائي بصاحبي بدأْتُ أكذب فلم يخفَ عليكِ كذبي , ولا زلْتِ بي حتى أخبرتكِ بالخبر كله ! "
- " حسناً ! أكان من الصعب أن تعترف هذا الاعتراف بدون اللف والدوران ؟! لقد كنْتُ فعلاً أنوي أن يقتصر عقابُكَ على ما فعلتُهُ بكَ قبل قليلٍ في غرفتي , أما وقد بدا من لفك ودورانكَ أنك لم تتعلمْ درسَكَ بعد , فربما يكون من المناسب أن يشهد عقابَكَ من شهدْتَ عقابه ! أين هاتفكَ المحمول ؟! "
فَطِنَ الشابُّ لما تنوي أن تفعله , فقال :
- " أرجوكِ ! لقد تعلمْتُ درسي ! "
مرة أخرى عاد صوت الصفعاتُ وعاد صوتُ صراخِه , فلما أخبرها مكان هاتفه المحمول , خرجَتْ من الغرفة , وبقيتُ أنا أستمع لنحيبِ الشاب , ثم رجعتْ إلى الغرفة , وهي تسأله عن الاسم الذي سجّل تحته رقم صاحبه , فلما أخبرها ضغطتْ أزراراً , ولا بد أنها جعلتِ المكالمة  علنيَّةً .. لأنني سمعتُ صوت الاتصال ثم انفتح الخط , وسمعْتُ صوتَ شابٍ يصرخ عاوياً :
- " أيها الوغد لا تحسبْ أن الأمر انتهى ! " 
قاطعتِ الفتاةُ الشابَ قائلاً :
- " ( سامي ) ! هذه ( سناء ) ! ... وأريد أن أقول أن معكَ كل حق في غضبكَ مما فعله أخي هذا الصباح ! "
رد ( سامي ) :
- " هل أخبركِ ؟ "
- " نعم , ولقد عاقبْتُه على ما صنع ! "
- " كيف ؟ "
- " بنفس ما عاقبْتَ أنتَ به أختَكَ , ولكنني أرى أنه لم يتعلم درسَه بعد , وأنه بحاجة إلى جمهور يرى صراخه وبكاءه وتوسلاته , حتى يستقر الدرس في ذهنه .. تماماً كما رأى هو أختكَ وهي تنال نفسَ العقابِ ! "
- " ما الذي تقترحينه ! "
- " إن والدي في العمل الآن وأمي في زيارة لأمها , ولكن سرعان ما ستعود  ... وقد قال لي ( عادل ) إن والديكَ في إجازة , وليس في بيتكم غيركَ وغيرُ ( نهى ) , أليس كذلك ؟ "
بدا في صوتِ ( سامي ) كثيرٌ من الرضا , وأسرع إلى هدفه , فقال :
- " هل ستكونين أنتِ من يعاقبه أمامنا أم سأكون أنا من يعاقبه "
ابتلع ( عادل ) ريقه بصوتٍ مسموع , فقالت أخته :
- " أعتقد أنني سأكون من يتولى عقابَه , ويقتصر دوركما على أن تكونا جمهوراً , ولكن " وهوتْ بصفعةٍ على مؤخرة أخيها فبلغ صوت تأوهه _ عبر الأثير _ لبيتِ صاحبه " إذا شعرْتُ أنه لم يتعلم درسَه بعد ذلك , فلك كامل الحرية في أن تكْملَ عقابَه بنفسِك ! "
ويتصاعد من أخيها صوت كمواء الهرة !
فتأمره بارتداء ملابسه والاستعداد ليذهبا لبيت ( سامي ) فيفعل ... ثم يغادران الشقة بعد فترة .. وأبقى أنا أمام مكتب الحاسب لفترة بدتْ طويلةً ..  وأتمنى لو أستطيع أن أنتقل لبيت ( سامي ) لأرى تمام عقابِ ( عادل)  ,... وأجد الفكرة تلح عليّ.. فأحاول جاهداً أن أنتقل بلا جدوى .. فأحاول أن أهرب ... فلا أجد مهرباً ... ويتملكني الذعْرُ ... وأتذكر الرسالة .. " ستعيش للأبد فيما لا حياة فيه " .. ماذا لو كنْتُ سأقضي الأبدَ كرسيًّا أمام مكتب ؟ ماذا إذا انتهَتِ الحاجة بالكرسي وألقي في خرابةٍ ما ؟ هل سأقضي الأبد في خرابة ؟ .. أنا لا أعرف كيف " أتحكَّم " في كلِّ هذا !  

وما إن خطرَتْ لي خاطرةُ التحكم هذه حتى وجدْتُني فجأة أنتقل انتقالاً تدريجياً لم يكنْ كسابق الانتقالات المفاجئة ؛ كنْتُ على وعْيٍ أنني أغادر مكاني .. وأسمو وأرتفع ..في لحظات بدأتْ الأرض تبتعد شيئاً فشيئاً ... ووجدتني أحلقُ بعيداً عن الكرة الأرضية .. بعيداً عن المجموعة الشمسية ... هذه سرعة تزيد على سرعة الضوء إذن ! ثم ازدادَتِ السرعة واختلطتْ الأصوات والأضواء .. بدأتْ حالة من الوعي تسيطر عليّ .. أذوب في لا محدودية تحيط بالمحدودية ... ثم تحيط باللا محدودية غيرُها فتفْقِدُ صفتَها ... وأذوب في اللا محدودية الجديدة .. ولكنها سرعان ما تحيط بها أخرى ... حتى إذا شعرْتُ بالتخمة ... تمنيْتُ العودة .. لقد ارتويْتُ ... ووجدْتني هذه المرة قادراً على ذلك .. إنني أعود  طوعاً  ...
تقترب مني الشمس وقد درات حولها بناتُها ...وثالثتُهن تتوهج زرقةً فتَّانةً .. فأتيممها ... وأدنو منها ... وأجدُني هذه المرة قادراً على التوجُّهِ في حيث شئتُ ؛ لا حدود تحدُّني .. أفكِّر فيما رأيْتُه قبلُ .. وأجدني أتوجه إلى حي فقير وأقصد فيه بيتاً أو للدقة : حجرة , فأتخلل في خصاص الحجرة وكل ما فيها فلا تفوتني فيها شاردة أو ورادة , وأبتسم عندما تقول صاحبة  الحجرة لزوجها : وهذا سيناريو عاشر ! ثم تسلمُه الورقة فيقول كالملهوف : حسناً ! هذا سنؤديه اليوم ! فتجيبه زوجته : ولكنكَ قلْتَ هذا عن الثلاثة الأخر .. فيجوِّل نظرَه بينهن كالشارد ثم يرفع نظره إلى زوجته في مكر ويقول : من قال إن هناك حداً أعلى لعدد السيناريوهات المطبقة في اليوم الواحد ؟ لأنه _وفقاً لما أعلمه_ فأنا من يضع القواعد هنا ! وتنظر إليه زوجته في خبث وتقول : أعلمه الرمايةَ كل يومٍ فلما اشتدَّ ساعده رماني  !
ثم أتركُ الحجرة وصاحبيها لأشواقهما , وأنتقل في طرفة عينٍ إلى مدرسة ما , وأذوب فيها فيصير كل ما فيها عيناً لي وأذناً , ويشدُّ إحدى عيوني منظرٌ فأوليه اهتمامي .. فتاتان تتبادلان القبلات في غرفة خالية  غافلتين كل الغفلة عن معلمة تطّلع عليهما من خصاص النافذة وقد جعلتْ يديها بين رجليها وهي تلتهم الفتاتين بعينيها التهاماً , ثم تقول إحدى الفتاتين لصاحبتها ( هل تعتقدين أنها لو رأتنا الآن لفعلتْ مثلما فعلَتْ عندما قبَّلْتِني أمامها ذلك اليوم ؟ ) فتحمرّ وجنتا زميلتها , وتقول ( لم يكن هذا "أمامَها " بالضبط ! ) فتجيبها زميلتها ( لقد سمعوا هذه القبلة في المريخ ! ولم تكنْ تبعدْ عنّا سوى خطواتٍ ) ثم تضيف ( ومع ذلك طيلة عقابها لنا ظلَّت تقول : أنا لا أعرف ما الذي فعلتماه بالضبط , ولكني واثقة من أن شيئاً لا يليق قد حدث ! ) احمرَّتْ وجنتا الحيِيَّة وهي تقول ( تصوَّري لو كانتْ ترانا الآن لأصيبتْ بنوبة قلبية ) ردتْ زميلتُها ( من يدريكِ لعلها ترانا الآن ويداها بين رجليها ! ) وذُهِلَتِ المعلمةُ عندما سمعتْ ذلك , وبدا أنها تتساءل ما إذا كانت طالبتها تعلم ..
وتركْتُها لحيرتِها .. وانتقلْت إلى استادٍ ضخمٍ لكرة القدم .. وفي نفس لحظة انتقالي وجدت الكرة تهزّ الشباك واللاعب الذي سجَّل الهدف يقترب محتفلاً من مدربِه الذي يقول له : ( هذا هو الهدف الثالث لك ! ربما من المناسبِ أن تتخلى عن أنانيتك بعض الشيء وتمرر الكرات أكثر لزملائك حتى تنجو من " تسجيل الهدف الرابع " ) وبعدها بدقائق ظل المعلق يصرخ مغضباً من أنانية نفس اللاعب الذي يأبى إلا أن يسجل هدفه الرابع في المبارة بالرغم من وجود أكثر من لاعب كان في موضع تسجيل فأبى أن يمرر لهم الكرة . وألتفتُ إلى المدرب فأجده يهز رأسه وهو يبتسم !
وأتركه لما ينوي أن يصنعه في غرفة التدريب... وأنتقل إلى منزل فخمٍ لأسمع مباشرة صوت صراخ رجل بالغ وهو يلوم ويقرِّع .. وأنتقل إلى حجرة المعيشة التي يتصاعد منها صراخه فأراه واقفاً وقد قبض على حزامه بيده وبنطاله الخالي من الحزام لا يفتأ يهم بالنزول فيرفعه بيده , وأجد أمامه شابَّيْن وشابَّتَيْنِ وقد جعلوا وجوههم للحائط وظهرهم له وقد تعروا من كل شيءٍ , وقد وشَتْ ألوانُ مؤخراتِهم بسر الحزام الذي في قبضة الرجل  .. ويستمر الرجل في الصراخ :
- " أقرر أن ننهي إجازتنا مبكراً وأن نجعلها مفاجأة لكما , فنعود إلى البيت لنرى أربعتَكُم قد حوَّلوا البيتَ إلى حظيرة بهائم ! "
قالتْ _ من أعتقد أنها ( سناء ) ؛لأن زيادتَها في البكاء على الثلاثة الآخرين توضِّح أن آخرَ عهدِها بالحزام بعيدة _ :
-" لقد حاولْتُ أن أنهاهم يا عمي ! ولكن لم يسمعوا لي "
 فيهوي الرجل بحزامه على مؤخرتها فتزداد بكاءً :
- " وأنتِ بالذات تستحقين عقاباً أكبر ؛ لأنكِ أكبرهم سناً , ومع ذلك فعندما فتحتُ البابَ كانت زجاجة المياه الغازية الفارغة  التي اصطدمتْ برأسي مصدرُها يدكِ أنتِ ! "
- " لقد كنْتُ أطوِّح بها وراء ظهري .. لم أكنْ أقصد أن تصيبكَ ! "
هوى الحزام على مؤخرتها مرة أخرى فأحدث نفس الأثر , وأضاف :
- " سأمهلكم ساعة وإن لم يعد البيتُ للهيئة التي تركتُه عليها , فسأعيد عقابكم من بدايته ! "
بدأ الأربعة في التوجِّه لملابسهم , فأضاف :
- " لا حاجة لارتدائها ثم قد تعيدون نزعَها مرة أخرى  , ابقوا على حالكم وإن نجوْتُم من العقاب ارتديتموها آنذاك ! "
ولقدْ ظلَلْتُ لساعة كاملة أتلهى بالمنظر , فلما انتهتِ الساعة بدا جليًّا أن الرجل كان محقاً في عدم الحاجة إلى ارتداء الملابس ثم إعادة نزعها مرة أخرى . فظلَلْتُ ساعةً أخرى أتابع عقاب أربعتِهم .

ثم فكرْتُ في نفسي : هذا يوم واحد وكان فيه كل هذا .. فكيف بالأبد ؟!

ليست هناك تعليقات: