السبت، 24 سبتمبر 2016

قصة : ثائرتان ! ( ف / ف ) Vanilla



قصة : ثائرتان ! ( ف / ف )  Vanilla 

- بضعة تنويهاتٍ :


تنويه 1 : هذه القصة تعمد في كثير من أجزائها إلى استخدام لغة قد تعد مرتفعة قليلاً عن عربية الجرائد والصحف ، فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك ، فقد  نوهنا به .


تنويه 2 : تصوِّرُ القصة في معظمها علاقةً ذات طابع جنسي بين أنثيَين ، فإن كان هذا يسوؤك / يسوءك، فقد نوهنا به . 


تنويه 3 : هذا العمل ضرب من الخيال لم يقع ولا أجزاؤه ،  ولا قَصَدَ إلى تصوير ما وقع بكليته أو بجزء منه ، وشخصياته ليست محاكاة لشخصيات واقعية وأي تشابه بينها وبين أي شخصية واقعية حية أو ميتة علمنا بها أو لم نعلم محض صدفة ، وأيُّ حثٍّ على فعل أو على الامتناع عن فعل بناءً على ما في القصة مما تُوُهِّم أنه مغزى فهو غيرُ مقصود من المؤلف ، وليس حثاً على الحقيقة ، ومتى وقع الفعل الذي تُوُهِّم أنه حُثَّ عليه فالفعل مسؤولية / مسئولية فاعله ولا يُسْألُ المؤلفُ عن ذلك .

فإن كان أيٌّ من هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به . 


- اقتباس :

( أنتم يا مَنْ ستَظْهَرُون

بعدَ الطوفانِ الذي غرقنا فيه

فكِّروا

عندما تتحدثون عن ضعفِنا

في الزمن الأسود

الذي نجَوْتُم منه

كنا نخوضُ حرْبَ الطبقات

ونَهِيمُ بين البلاد

نُغَيِّرُ بلدًا ببلدٍ

أكثر مما نغيّر حذاءً بحذاء

يكاد اليأس يقتلنا

حين نرى الظلمَ أمامنا

ولا نرى أحدًا يثور عليه

نحن نعلم

أنَّ كرْهَنا للانحطاط

يشوِّه ملامحَ الوجه

وأنَّ سَخَطَنا على الظلم

يبحُّ الصوت

آهٍ ؛ نحنُ الذين أردْنا أنْ نمهد الطريق للمحبة

لم نستطع أنْ يُحِبَّ بَعْضُنا بعضًا

أمّا أنتم

فعندما يأتي اليوم

الذي يصبح فيه الإنسانُ صديقًا للإنسان

فاذكرونا

وسامحونا )

برتولت بريخت ( 1898 - 1956)

- القصة :



1- المجد للشيطان معبود الرياح
___________________________

الجوّ مشحونٌ حتى الثمالة بعواطف من ملأوا الطريقَ وفاضوا عنه ... خطواتٌ واثقةٌ راسخةٌ .. يخطوها الضعفاءُ ... وفي قلبِ الجبابرة يدبّ الرعبُ ويستشري ...

والشمسُ تنقشِعُ أمامَ أشعتِها كتائبُ السحبِ فتبثَّ  الدفْءَ في قلوب المتظاهرين ، كأنها تحثهم على المضيّ قدمًا ... حتى الطقسُ غدا ثوريًّا ...

فتاةٌ لم تعتدْ أن تقود أحداً أو شيئًا يغلي في صدرِها الحماسُ فتتسلقَ عمود إنارةٍ وتعتنقه بذراعيها بينما صوتُها القادمُ من فجر التاريخِ يدوّي برائعة (أمل دنقل) :

المَجْدُ للشيطانِ معبودِ الرياحْ!

مَنْ قالَ ( لا ) في وجْهِ من قالُوا ( نعم )!

مَنْ عَلَّمَ الإنسانَ تمزيقَ العدم!

مَنْ قالَ ( لا ) فلمْ يَمُتْ ..

وظلَّ روحًا أبَدِيَّةَ الألمْ!

الجموع الهادرةُ تتجاوبُ ... وتتحوّلُ المظاهرةُ إلى ندوة أدبية ، ( أمل دنقل ) تتلبّسُ روحُه جسد فتاةٍ هنا ، فتحلّ روح الفاجومي في فتى آخر ، وينطق صاحب الكُسُّمِّيَّاتِ على لسان آخرين ... لو كان للـ"كبارِ" كابوسٌ يضمّ أشنع مخاوفِهم لكان ما يصنعه هؤلاء الشبابُ في هذا اليومِ .. زالتْ القيودُ من النفوسِ ، ولو اعترضَ هؤلاءِ جبلٌ لحاولوا تحريكه بأيديهم العارية ... لا صوتَ يعلو على صوتِ الثورة ...

فتاة عمود الإنارة تصل بقصيدتِها إلى نهايتِها ؛ همساتِ (سبارتكوس) بينما تلفظُ روحُه أنفاسَها الأخيرة :

فعلّموهُ الانحناءْ!

علّموهُ الانحناءْ!

علّمُوهُ الانحناءْ!

الغضبُ يشتعل في النفوسِ ؛ سيأخذون بثأر (سبارتكوس) بعد عشرين قرناً على صلْبِه .. سيأخذونه من خليفة قاتلِه ؛ لأنه :

فخَلْفَ كلِّ قيصرٍ يموتُ : قيصرٌ جديدْ

ثم يغلي الغضبُ أكثرُ ، ويستحيلُ كبحُه في نطاق اللغة " المهذّبة " ، فتعوي فتاةٌ ألمًا بصرخات ( نجيب سرور ) _ولو سمعها " وليّ أمرِها " لعوى ألماً كذلك_ :

خَوَلْ تجيبهْ مَرَهْ || منْصِبْ يجيبْ شَرْموطْ
فلوسْ تجيبْ دهْ ودهْ || جدولْ ومِتْفَنَّطْ
وكلّْ خانَهْ بخيانَهْ || والحسابْ مضبوطْ
وانا وِانْتَ لا مؤاخذهْ || يعني قولْ بنِتْخَيّطْ

تسرقْ شِلِنْ تبقى هيصهْ || وبلوهْ وجريمهْ
تسرقْ ألوفْ الألوفْ || تبقى مِ الأبطالْ
وكلّ ما السرقهْ تكبرْ || القانونْ سيمهْ
وكلّ ما السرقهْ تصغرْ || فيهْ حرامْ وحلالْ

وتيجيْ تُجْرُدْ تلاقيْ || الحسبهْ عالْ العالْ
مسدّدينْ الخاناتْ || والمِيّهْ في المِيّهْ!
فيه خانهْ ناقصهْ ؟ حريقهْ || فجأهْ مشْ عَ البالْ
وكسّْ أمي إنْ لاقِيْتْ || حنفيّةْ الميّهْ!

لم يعدْ ثمةَ خجلٌ ولا حياءٌ . السرقة أبشع من وصفها ، والظلم أشنع من مفرداتِه ، فكيف يمجَّدُ السارقُ والظالمُ ويشنّعُ " البذيءُ" ؟!

ومن فوق عمود الإنارة تبادلَتْ "فتاة (أمل دنقل)" النظرات مع "فتاة (نجيب سرور)" : ثورة ثورة حتى النصر !

*************



2- لا تسقط التفاحةُ بعيداً عن شجرتِها
____________________________

هذه المرة نجحَتِ الثورةُ ...

كان الشبابُ يعدّون تخلّفَ الجيل القديم عن ركاب الثورة ناتجاً عن جمودهم ... ولكنّ أحدًا من الشباب لم يفكر في دافع آخر قد يكون وراء استيائهم من الثورة : الغيرة؛ غيرةُ مَن حاول وفشل مِمَّنْ حاول ونجح!

لم تكنْ هذه الأفكارُ هي ما يدورُ في ذهن ( حياة ) وهي تحاول التسلل من شقتِها في الصباح الباكر ليوم الجمعة قبل أن يأتيَها صوتُ أمِّها الصارخ :

- " (حياة) ! "

خطر لـ ( حياة ) أن تفتح البابَ وتفرّ ... تاركةً أمَّها تضرب أخماساً في أسداسٍ ، وكادَتْ تفعل ، ولكنّ ثوريَّتَها منعَتْها!
هي لا تريد أن تفر من " الكبار " لتثور ؛ إنها تريد أن تثور رغم أنفِهم - بلا فرار!

رجعَتْ بنتُ العشرين عن نيّتِها الهربَ ، والتفتتْ لتقابلَ عينَي أمِّها الغاضبَتَين ، وقبل أن تقول الأم شيئاً استفتَحَتْ ( حياة ) :

- " لقد فصلوا زميلةً لنا بسبب مشاركتها في مظاهرة سابقة ، ونحن سنستمر في التظاهر حتى ترجع أو يفصلونا معها . أريحي نفسكِ ؛ لو كانتْ حياتُكِ متوقفةً على عدم نزولي ، لنزلْتُ  . ولا أبالي ! "

- " هكذا صراحةً ؟! "

لم تَخْفَ رنةُ السخرية في صوت ( حياة ) وهي تجيب أمَّها :

- " لم أشأ أن أكذّبَ عليكِ  "

ثم خطَتْ ( حياة ) خطواتٍ نحو الباب ، فقطعَتْ أمُّها عليها الطريقَ :

- " لماذا تعتبروننا أعداءً لكم؟ نحن أيضاً كنّا شباباً ونعرف كيف تفكرون! "

- " إن الشباب حالة نفسية وليس مرحلة عمرية ؛ لقد وُلِدْتُمْ عجائز! "

نظرَتْ الأمُّ في تحدٍّ ، وقالَتْ :

- " ستتذكرين ما تفعلينه الآن بعد عشرين سنة ، وتهزأين بنفسكِ! صدقيني أنا تجربة عملية على ما يحدث للروح الثائرة بعد الزواج والولادة! "

كانَ التعريضُ بأنّ هذه الأفعالَ مرحلةٌ ستُتَجاوزُ إهانةً فوق قدرة الشابّة على الاحتمال فتخلَّتْ عما بقي من " احترامٍ للكبير" ، وانفجرَتْ في أمِّها :

- " فعلاً ؟! وما الأعمال الثوريّة التي قمْتِ بها في شبابكِ ؛ أنك غيرْتِ محطة التلفاز بالرغم من أن أخاك أمركِ بعدم تغييرِها ؟! أم أنك خرجْتِ مرةً وحدَكِ ..وهاتفْتِ حبيبكِ من كابينة هاتفٍ بدون عِلْمِ والدَيكِ؟! ... نحن أسقطْنا نظاماً تعجز عن إسقاطه الجيوش ، ولولا بقية من حياءٍ لألحقناكم به ، فابتعدي عن طريقي! "

لمعَ الغضبُ في عيني الأمّ ، وبدا أنها موشكة على أن تبطش بابنتِها ، ولكنّها تمالكَتْ نفسَها بعد لأيٍ ، وقالَتْ :

  - " دعيني أخبرْكِ بقصتي الثوريّة ، ثم احكمي بعدَ ذلك بنفسكِ على ما يحدث لمحلول ثوري مركَّزٍ عندما يُخَفَّفُ بماء الحياة "

وقبل أن تعترض الابنةُ بدأتْ أمُّها بالسرد وصوتُها يتهدج بذكريات الماضي البعيد ...

*******



3- وجبهتي بالموتِ محنيَّهْ .. لأنني لمْ أحْنِها حيَّهْ !
_____________________

لم يعرف المتظاهرون متى بدأتْ الرؤيةُ تصعبُ حتى صار من المستحيل أن يرى أحدُهم يدَه ، لم يكنِ الدخانُ وحدَه سبب تعسّرالرؤية ذلك .. بل اشتركتْ معه الدموعُ في حجب الصور عن العيون ... كانَتْ العواطفُ ملتهبةً حتى إنهم لم ينتبهوا لمحاصرة الأمن لهم ، ولا لسقوط قنابل الغاز المسيل للدموع ... كانوا مبتدئين في النشاط الثوريّ ؛ انشغلوا بالهجوم حتى تناسوا أنّ عليهم الدفاع .. وفجأة صاروا بين مطرقة الغاز المسيل للدموع وسندان العصيّ الواقعة عليهم ... والعصيّ كالعدالة معصوبة العينين تقع على الصغير والكبير .. والرجل والمرأة .. والمشارك في المظاهرة والعابر صدفةً في الطريق !

كانتْ هذه أيام الثمانينات المجيدة .. لم تكن هناك صحافة سوى الصحافة القومية ، ولا قنوات تلفاز غير القنوات الرسمية ، ولم يكنْ خبرَ سقوط قتلى في مظاهرةٍ ما ليشدّ انتباهَ أحدٍ ولا تعاطفَه ... كان المتظاهرون يغامرون بحيواتهم حرفيًّا ..

عندما وقعَتْ العصا الأولى على جسد ( جميلة ) لم تشعرْ بشيءٍ .. بصعوبة أدركَتْ أنها تلقَّتْ ضربةً ما .. ثم هوَتِ الضربةُ الثانية والثالثة ... ولكنّ ( جميلة ) كانَتْ مشغولةً بمحاولة التقاط قنبلة الغاز وإلقائها بعيداً عن المتظاهرين  حتى إن عقلَها تجاهل تماماً الألم الذي أحسّ به جسدُها وواصلَتِ المهمة .. ولكنْ عندما أتمَّتِ المهمة ، وطارَتْ القنبلة بعيداً عنهم في اتجاه رجال الأمن ، وصلَتْ فجأة كل الرسائل المؤجلة التي يرسلها الجسد إلى العقل ، فشعرَتْ بكل تلك الآلام في لحظة واحدة ، فصرخَتْ في توجّعٍ حيوانيٍّ ، وسقطَتْ على الأرضِ .. وجرَّتْها يدٌ لتسحبَها إلى الوراء .. ثم ساهمَتْ يدٌ أخرى وثالثة .. حتى استقرّ جسدُها المنهك في الصفوف الأخيرة للمتظاهرين ... كانَتِ العيونُ كلّها دامعةً ، ولكنّ دموع ( جميلة ) لم تكنْ ناتجةً عن قنابل الغاز وحدَها .. كان الألم الممضّ لا يزال في جنباتِها .. ويتضاعف أضعافاً كلما حاولَتِ التنفسَ الذي صار عسيراً في حقِّ الجميع بسبب الغاز الذي ملأ الفضاء .. الجميع يتنفسون بصعوبة ، ولكنها تتنفس بصعوبتين ... الجميع تتساقط دموعه بغزارة ... ولكنّ دموعَها تتساقط بغزارتين ...

 ثم لم تعد تشعرُ بشيءٍ ؛ بقعة الحبرِ السوداءِ تصبح محيطاً يتسرب إلى ثنايا جسدها وتلافيفِ مخِّها فينعدم الوعيُ كأن لم يكنْ ...

*********



 4- بُنْدِنْجْ ...
___________________

- " أنتِ في مظاهرةٍ ؟! ... وتتقدمين الصفوف ، وتصابين من أجل الثوّارِ ؟! ما الذي جرى لكِ بعدها ؟ "

- " عندما فتحْتُ عينيّ كنْتُ في غرفةٍ بسيطة ، فيما عرفْتُ بعد ذلك أنها شقة ضيقة في عمارة متداعية في حيٍّ شعبيٍّ ؛ لقد حملوني حملاً إلى تلك الشقة حتى يعالجوني فيها ... كان من الصعب أن يذهبوا بي إلى مستشفى دون أن يخبروهم بسبب الإصابة ، وهو ما يعني ضمنًا إيداعي السجنَ ... ولكنْ لحسْنِ الحظِّ كانتْ هناك شقيقةُ طبيبة بين المتظاهرين ؛ شقيقةُ طبيبة عامّة للدقة ... ولكنَّ الجودَ من الموجودِ ... وقد نقلوني لشقتِها المتواضعة تلك حتى تعالجني أختُها .. فأضرَّتِ  الأختُ أكثرَ مما نفعَتْ .. "

كانَتْ معالمُ عدم التصديق لا تزال ماثلةً على وجه ( حياة ) ، ولا تدري ( جميلة ) لماذا شعرَتْ بهذه الرغبةِ الجارفةِ في إثباتِ صدقِ روايتِها ، ولسوءِ حظِّها فقد كانتْ ترتدي عباءةً وليس قميصاً ... فرفعَتْ عباءَتَها لتكشف آثار الضرباتِ الباقية في جسدها حتى بعد ثلاثين سنةً من وقوعها ..

كانَتْ ( حياة ) تريد هي الأخرى أن تستوثق من الدليل على صدق القصة ، ولكنّ وقوفَ أمِّها شبه العارية أمامَها قد جعل من الصعبِ عليها ألا تغض طرفَها وتنظر في الأرض... ولكنّها تجاوزَتْ خجلَها ونظرَتْ نظرةً سريعةً إلى جانب بطنِ أمِّها لترى بوضوحٍ بقايا الكدمات ؛ الضرباتِ غير الآدمية التي تركتْ بصمتَها على الجسد الثوري الشابّ ، وعجّلَتْ به نحو الجمود والرضوخ ... كانَتِ الأمُ لا تزال قابضةً على طرف عباءتِها ورافعةً إياها إلى ما فوقَ مكان السجحات لِتُرِيَ ابنتَها ، فلما اطمأنَّتْ إلى أنَّ ( حياة )  قد رأتْ ما أرداتْ أن تريَها إياه ، أرخَتْ قبضَتها فهوَتْ العباءةُ لتسترَ ما انكشف ... ثم أكملَتْ قصَّتَها :

- " فيما بعدُ سأتحامل حتى أعود إلى البيت ، ثم سأخبر والديّ بسبب " غيابي " لتلك الفترة .. فأنا لم أخبرْهم بالطبع أنني ذاهبة لأتظاهر في البداية .. ولذا فقد استمعْتُ لمحاضرةٍ طويلةٍ عن المشي جوارَ الحائط .. وعن القبور التي تعج بالشجعانِ ... وعن الدور التقليدي للمرأة التي لا تصلح للقتال ولا للثورة ولا للاعتراض ولا لإبداءِ رأيِها في شيءٍ أساساً "

قاطعَتْها ( حياة ) في احتدادٍ :

- " تماماً كالمحاضرة التي كنْتِ توشكين أن تسمعيني إياها! "

- " لقد قلْتُ إنني أتفهم دوافعَكِ ، وأنا أتفهم دوافعكِ .. ما أريد قولَه هو أنّه للأسف كما قال (دنقل) :

و ليس ثَمَّ مِنْ مَفَرّْ

لا تحلموا بعالمٍ سعِيدْ

فخلْفَ كلِّ قيصَرٍ يمُوتُ : قيصَرٌ جَدِيدْ !

وخلْفَ كلِّ ثائرٍ يموتُ : أحْزَانٌ بِلا جَدْوى ..

ودمْعَةٌ سُدَى ! "

نظرَتْ ( حياة ) في نوعٍ من المواساة إلى الثائرة المكسورة ، وقالَتْ :

- " لا أعتقد أنّ هذا هو الفهم الذي أراده ( أمل دنقل ) لقصيدتِه .. وعلى أية حالٍ ، فنحن شاهدٌ حيٌّ على أن الثورة تصل إلى منتهاها وتقضي على القيصر ، وأن الحزن على شهدائها حزنٌ مقدسٌ ذو جدوى وليس حزناً عبثيًّا "

- " فإنْ يكنْ هذا هكذا فمَنِ الذين تستمرون في التظاهر ضدهم ؟ ومَنِ الذين فصلوا زميلَتَكَم هذه ابتداءً ؟ "

أسْقِطَ في يد ( حياة ) ، وحاولَتْ أن تكون منطقيةً فقالَتْ :

- " بقية من الحرس القديم ، ولكنّ رأس الأفعى قد زالَتْ ، وكلُّ ما دونَ الرأسِ أهونُ في الإزالةِ من الرأسِ "

نظرَتِ الأمُّ في حسرةٍ إلى ابنتِها التي بدأتْ تخطو _ وإن لم تدركْ ذلك بعد _ أولى خطواتِها نحو إدراك صعوبة بل استحالة إصلاح الأمور ، وأن الظلْمَ في الناسِ قديمٌ تَوَارَثَ عادٌ مكْرَه وثمودُ ... وأنّ الشبابَ كالطفولة ؛ معانٍ كليّةُ الجمالِ والنقاءِ والصفاءِ والثوريةِ ... ثم ينكسر هذا كلّه على صخرة الواقع ...

وعلى الرغم منها عادَتْ ذكرياتُ تلك المظاهرةِ لعقل ( جميلة ) .. لم تكن التفاصل التي أخبرت بها ابنتَها كاذبةً .. ولكنها كانتْ مختزلة ... في الواقع لقد تركت ( جميلة ) عامدةً ذِرْوة الأحداث في تلك القصة دون أن ترويها لابنتها .. وكيف ترويها لابنتها وهي لا تجرؤ على أن تُذكِّرَ نفسَها بها .. ولكنْ على الرغم منها بدأتْ في تذكّرِ تلك الذروةِ الدفينة ...

********


5- فقَبِّلوا زوجاتِكم!
_____________________

ألمٌ ...

 تأوّهٌ ...

 مزيدٌ من الألم ...

نصيحةُ خضراءِ العينين بالكفّ عن التأوه ليخف الألم ..

ألمٌ من نوعٍ مختلفٍ لنصيحة خضراء العينين ... لكلامِ خضراء العينين ... لشفتي خضراء العينين .... لكَوْنِ شفتَي خضراء العينين بعيدتَينِ ... تبعدان أمتاراً عن حيث تتمنى ( جميلة ) أن تكونا ...

خضراءُ العينين تحدق عيناها الخضراوان في استغرابٍ ، ولكنّ عينَيْ ( جميلة ) لا تباليان بهذا الاستغراب وتستمران في التعلق بوجهِ خضراءِ العينين كأنها فراشةٌ تواقع النارَ ...

- " هل هناك شيءٌ ما على وجهي ؟! "

تنشغل (جميلة) بحركة الشفتَين العذبتين والغضبَ الفاتن الأخاذ الذي يعلو تلك الملامح النورانية ، وتفكر : نعم يا خضراءَ العينين .. هناك شيءٌ على وجهك .. لقد ترك الملائكةُ الذين وُكِّلوا برسم ملامحه بقيةً من أثرهم عليه فأنا أشاهدُ فيكِ سماتَ عالَمٍ نورانيٍّ لا تدركه أفهامُ الفانين من البشرِ ...

- " هل تعانين ارتجاجاً في الدماغِ ؟ لقد ظنَنْتُ أن إصابةَ قفصكِ الصدريّ هي أشدّ ما وقع بك ! "

- " لا هذه ولا تلك هي أشد ما وقع بي ! "

- " أنتِ تتكلمين ، هذا جيد! .. ما أشدُّ ما وقعَ بكِ إذنْ ؟ "

- " تعاهدْنا بأن أكتم حتى أنطوي في القبرِ ! "

- " أنا أعرف من هو ( صلاح عبد الصبور ) .. كوني طبيبة لا ينفي عني العلمَ بالأدبِ ... ولكنْ ما معنى استدعاء هذا البيتَ الشعري هنا .. أنّ أشدّ ما وقع بكِ له علاقة بالفيوض الإلهية؟ "

- " لقد أخرجْتُ هذا البيت من معناه الصوفيّ الإلهي إلى معناه الجسدي البشريّ "

- " هلّا كففْتِ عن الألغاز .. أنا واثقة أن الكلامَ صعبٌ عليكِ الآن بسبب هذه الكدمات .. فهلّا استرحْتِ واقتصرْتِ على إخباري بالأمور المهمة ؛ إنْ كانَ هناكَ شيءٌ يحتاج إلى علاجٍ عاجلٍ .. حتى أعالجكِ منه "

لو كان هذه التصريحُ توريةً .. لو كان كلاهما يدرك مرادَ صاحبِه ... ولكنّ الدنيا القاسية تسوق لك مطلوبَك مغلفاً بغلاف الهدايا معجباً رائقاً .. ثم تسحبه من يدك ...

- " ليْتَه لم يكنْ وَقَفْ .. عذَّبَ القلْبَ وانصرَفْ "

-  " مَنِ الذي وقف ؟! هل شاركْتِ في هذه المظاهراتِ بسبب حبّكِ لأحد " رفاقكِ " ثمّ ظهر لكِ أنّه لا يبادلكِ الحبَّ؟! ما الذي يجري هنا ؟!"

- " اللعنةُ على الرجالِ "

- " فقد صَدَقَ حَدَسِي إذن ؟ "

- " بل اللعنةُ عليهم لأنهم يقحمون أنفسَهم في هذه اللحظة المقدسة .. أنا لا أريد أن أسمع عن ( صلاح عبد الصبور ) ، ولا أريد أن أسمع عن "الحبيب الغامض " الذي ساقني حبُّه لتعريضِ نفسي للمخاطر والأهوال .. أنا لا أريد أن أسمع حرفًا ليس عنكِ وليس فيكِ وليس لكِ ؛ أنا أحبُّكِ أنتِ .. ومستعدة للتضحية بعمري مراتٍ ومراتٍ في سبيلكِ أنتِ .. وفي سبيل الضعفاءِ .. ولكنْ في سبيلكِ أنتِ بالدرجة الأولى .. "

تجمَّدَ الهواءُ وتجمّدَتِ السوائلُ وازدادَتِ الجماداتُ جموداً .. حتى الزمنُ يبدو أنه توقف هو الآخر عن الحركة .. فقط العينان الخضراوان بقي لمعانُهما يروح ويجيء .. هل ما وراءهما غضبٌ ؟.. أم دهشةٌ ؟ ... أم تفهُّمٌ ؟... أم استياءٌ ؟ .. لقد كانا يتكلمان لغةً مفهومةً حتى ثوانٍ مضَتْ .. والآن لا يبدو أنهما قادرتَانِ على التعبيرِ عن مشاعر صاحبتِهما .. ربما لأنّ مشاعر صاحبتِهما غير قابلة لأن يُعبَّرَ عنها ..

- " قولي شيئًا .. رجاءً .. لا تتركيني فيما ها هنا حائرةً .. "

الشفتان العذبتان تنفرجان انفراجةً يسيرةً ثم تنطبقان مرةً أخرى ثم تنفرجان مرةً ثانيةً .. وتهتزّ الرأسُ هزّةً غامضةً .. لعلّ معناها : أنا لا أصدق أنكِ قلْتِ هذا .. أو لعل معناها : أنا لا أصدق أنني سأخبركِ بهذا ... أو لعلّ معناها : أنا لا أصدق أن أختي شاركَتْ في مظاهرةٍ مع مثل هذه الأشكال .. ثمّ تكلَّمَتْ صاحبةُ العينين الخضراوين :

- " حسناً .. أنتِ لا زلْتِ تعانين من آثار ما بعد الإغماءِ إن صحّ تسمية ما أنتِ فيه بهذا المصطلح ... حاولي أن تنامي وتريحي جسدَكِ ثم سنتكلم في هذا فيما بعد .. "

- " هذا لا يكفي .. ما الذي سنتكلم فيه فيما بعد ؟ .. هل يحوي : ( وأنا أيضاً أتمنى أن أفعلَ بكِ ما تتمنين أن تفعليه بي ) ؟ لأنه لو لم يحوِ هذه الجملة أو مرادفاتِها فإنني لا أهتمّ بالألم ولا أهتم بإراحة جسدي ولا أهتم ألبتة بما سنتكلم فيه فيما بعد ، فأريحي نفسكِ .. أنا لا أريد تفهُّمًا ولا تقبّلاً .. وقطعاً لا أريد "علاجاً طبيًّا يشفيني من الانحرافاتِ" التي أشعر بها "

همساتُ خضراءِ العينين الخافتة .. تفرّ من شفتيها قسرًا لتزفّ لـ ( جميلة ) كبرى أمانيها على طبقٍ من ذهبٍ :

- " لو كنْتُ أعلم لها علاجاً طبيًّا لبدأتُ بمعالجة نفسي به "

ثم خرجَتْ صاحبةُ العينين الخضراوين مسرعةً وكأنها خائفةٌ من البقاء في نفس الغرفة التي حوَتْ ذلك التصريحَ الجليلَ

حاولَتْ ( جميلة ) أن تستريح .. أن تمنع عقلَها الثائرَ من الرقص والغناء والاحتفال الصاخب .. ولكنّ عقلَها كان في أمورِ الحبّ كما هو في أمورِ السياسةِ لا يعرفُ التوسطَ ... وبدأتْ الآلامُ تضمرُ شيئًا فشيئًا تحتَ وطأةِ الصورِ الملتهبة التي يتمثّلُها العقلُ المندفع ويصوّرُها تصويراً حيًّا أمام ناظرَيْ ( جميلة ) .. ولمّا لمْ تكفِ أحلامُ اليقظةِ فقد وجدَتْ ( جميلةُ ) نفسَها تغوص في النومِ .. لتخلوَ الساحةُ أمامَ العقل ليصنع ما يحلو له بصاحبة العينين الخضراوين ... آهٍ من تلك الأحلامِ وما حوَتْه .. صورٌ قادرةٌ على أنْ تعقد لسانَ ( نجيب سرور ) شخصيًّا مِن الخجلِ ! 

**************




6- لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وقد أتيْتَ مثلَه في الزَّمَنِ الغابرِ !
_____________________

لا تذكرُ ( حياة ) أنّها قد رأتْ أمَّها ووجهُها تعلوه كل هذه السعادة قطّ .. إنْ كانتْ ذكرياتُ تلك الأيام قادرةٌ على إسعادِها إلى هذا الحدّ .. فكيف بالأيام نفسِها ؟ ..

- " كلّ هذا حنينٌ إلى الثورة ؟"

انتبهَتِ الأمُّ من أحلامِها ، ونظرَتْ إلى ابنتِها التي أخذَتْ عنها إلى جانبِ ثوريّتِها جمالَ الوجه وتناسقَ الجسد ، وقالَتْ :

- " أعتقد أنني قد استنفدْتُ رصيدي في القدرةِ على نهيِكِ عن المشاركة في المظاهراتِ بعدما أطلعْتُكِ عليه مِن تاريخي الأحمر! "

- " فلا تجزعَنْ من سُنّةٍ ؛ أنتَ سِرْتَها ||| وأوَّلُ راضي سُنَّةٍ مَنْ يَسِيرُها " 

وحبَّها للشعرِ أيضاً .. كان من الصعبِ على الأمِ أن تغالطَ نفسَها في أنّ ما تشعرُ به من إحساسٍ بالفخرِ أكبر بكثيرٍ مما تشعر به من خوفٍ على ابنتِها أو نقمةٍ على ثوريّتِها .. ثم طرأ لها فجأةً خاطرٌ ما ؛ سببُ هذه المظاهرة التي ترغب ابنتُها في المشاركةِ فيها هو زميلةٌ لها ؟ .. أتُرى لم يقتصرْ ما ورِثَتْه البنتُ عن أمِّها على الجمال والشعرِ ؟

- " ( حياة ) .. زميلُتِكِ هذه التي فُصِلَتْ .. هل أنتما مقرّبتان ؟ "

اضطراب التنفس .. الثانيةُ التي استغرقَتْها الثوريّةُ الصغيرةُ حتى تتدراكَ نفسَها وتعدّ إجابةً لا تفضح المكنونَ ... ثمّ الصوتُ ذو النبرةُ الدفاعيّةُ التي لا يستدعيها الموقفُ لو لمْ يكن وراءَه سرٌّ مخفيٌّ :

- " نعم ، نحن صديقتان مقرّبتان كأي صديقتين في الدنيا .. ثم حتى لو لمْ يكنْ بيننا شيءٌ فالمسألة مسألة مبدأ "

- " هل هي حسناء ؟ "

النبرة الدفاعية صارَتْ صراخَ محامٍ يعلم أنه خسر القضية ويفرغ شحنة غضبه في المرافعة :

- " هل أنتِ جادةٌ في هذا السؤال الغريب ؟!! ما علاقة جمالها بأي شيءٍ .. حتى لو كانتْ فتىً لدافعْتُ عنه .. "

على الذي يظهر فإن الذكاء الحادّ لم يكنْ مما ورثتْه الحسناء الصغيرةُ عن أمِّها .. (حتى لو كانَتْ فتىً!) ... ألا يُفْترَضُ بهذا أن يكون تصريحاً في حدِّ ذاتِه؟!

- " حسناً .. عودي مبكِّرًا ما أمكنَ ... وسأتعلل بشيءٍ عندما يسأل والدُكِ عن غيابكِ .. ولا تخرجوا خارج أسوار الجامعة .. فالفصْلُ أهونُ من السجن! "

- " هل هذه نصيحة ثورية .. أم نصيحة أبوية ؟ فقد صار تصنيفُكِ عسيراً .. على أية حالٍ : سنصنع ما هو لازمٌ من أجل إحقاق الحق .. وإن كان فصلاً ففصلٌ .. وإن كان سجناً فسجنٌ .. وإن كان ما فوق ذلك فلْيَكُنْ! "

ثم فتحَتْ الحسناء الثورية الصغيرة _ التي لم تكسرْها العصيّ وحاملو العصيّ بعدُ _ البابَ .. وانصرَفَتْ ...

وبقيَتْ أمُّها في الشقة وقد استحالَتْ الذكرياتُ العذبةُ التي أشرق لها وجهُها قبلَ قليلٍ أشباحًا جاثمةً على صدرِها باعثةً فيها أشدّ معاني الحزنِ والأسى ؛ لماذا قطعَتْ علاقتَها بخضراء العينين فجأةً بلا مقدماتٍ ؟!

حتى بعد ثلاثين سنةً من ذلك اليومِ المشئومِ لا زالَتْ أحداثه الممضة تدفع الدموعَ إلى عينيها كما فعلَتْ آنذاك ..

*******


7- فعلّموهُ الانحناءْ .. علّموه الانحناءْ!
______________________

- " هل هذه مزحة ؟! كيف وافقْتِ ؟! "

- " هذا هو ثالث خاطبٍ يتقدم لي .. وليس فيه عيبٌ واحدٌ يُذْكَرُ .. إما أن أقبلَه ، وإمّا أنْ أعلنَ لوالديّ صراحةً أنَّ هناك شخصاً آخرَ .. هل أنتِ مستعدّة لتحمّلِ مسئولياتكِ والتقدم لخطبتي ؟! "

العينان الخضراوان تلمعان بالغضبِ .. فيكاد قلبُ ( جميلة ) يهوي إلى الأرض .. لقد أعدَّتْ ما تجيبُ به على كلّ سؤالٍ من أسئلة حبيبتِها الغاضبة .. ولكنَّ الإعدادَ شيءٌ والتنفيذَ شيءٌ آخرُ .. ثمّ إنها _ مهما تظاهرَتْ بالجلد والتماسك .. كانتْ محطمةَ الفؤادِ أيضًا _ ..

- "وما الذي كنْتِ تنوين فعلَه عندما نصبْتِ لي شباككِ قبل شهورٍ ؛ أن تنتظري حتى أتزوجَكِ ؟! "

كانتْ هذه هي الثمانيناتِ .. والزواجُ المثليّ لا يزال مجرَّماً في العالمِ كلِّه .. كانَتْ هذه أقربَ إلى الدعابةِ ، لو لمْ يكنِ الجوُّ كله مشحونًا بمشاعر الغضب والغدْرِ ...

- " أنا لم أفكِّرْ حينَها .. وحتى الآن لا أزال غيرَ قادرةٍ على التفكيرِ في شيءٍ  وأنا أراكِ وأعلمُ أنَّكِ غاضبةٌ عليّ .. ولكنْ ما باليدِ حيلة .. الآن .. أو بعد سنةٍ ، أو بعد سنتين ، أو بعد عشرٍ .. في النهاية أنا لا أستطيع أن أخرج من بيت أبي إلا بالزواج ... ولا أستطيع أن أبقى في بيت أبي إلى الأبد .. ما هو الحلّ ؟ "

الغضبُ لا يزالُ يشعّ من العينين الخضراوين ، ولكنّه تفسَّحَ قليلاً حتى يجلس إلى جوارِه شيءٌ من التعاطف والمواساة ..

- " لم يقلْ أحدٌ أنّ الأمرَ بسيطٌ .. ولكنْ لو كنْتِ تحبينني فعلاً فعليكِ أن تحاولي .. "

- " أحاولُ ماذا ؟ "

- " حاولي أن تهربي معي .. أنا طبيبة .. بإمكانِنا أن نسافر معاً إلى مكانٍ ما ونستقرَّ فيه .. "

- " وأنا محامية .. وأعلم أنَّ معظمَ القانونِ المصريّ غيرُ مكتوبٍ .. لو هربْتُ معكِ لكانتْ جنايةً ولانتهى بي الأمرُ في السجنِ .. "

- " بتهمةِ ماذا ؟ "

- " بالضبط ... هذا ما لا يبدو من السطحِ .. إنَّ كلَّ قوانين العصور الوسطى مطبَّقة بحرفيّتِها هنا .. ولكنْ حرصاً على سمعتِنا أمام الأجانب فليس كلّ المطبّقِ يُكْتَبُ ... أتريدين أن تجربي؟ دعينا نهربْ معاً .. وسيتم القبضُ عليّ وإعادتي لبيت والدي تحت أيِّ مسمّى .. وعندها ستكون فضيحةً لي ولكِ! " 

- " أنا لا أصدق هذا ! "

- " لأنّكِ لم تصطدمي بمؤسسة العدالة الممزوجة بمؤسسة الشرطة والمضروبتان في خلاطِ مع كل المؤسسات الدينية والرجعية والتقليدية .. أنا أعرفُ كيف تدارُ هذه الدولة .. لقد كنْتُ حتى وقتٍ قريبٍ ثائرةً عليها .. فصدِّقي ما أقوله لكِ! "

- " حتى وقتٍ قريبٍ ؟ "

- " والشكرُ لكِ .. بعد الذي كان بيننا لم تعدْ لديّ الشجاعةُ على المخاطرة بحياتي وبحريتي في سبيل القضية .. لقد كنْتُ مُحَصَّنةً من الخوفِ .. والآن صار لديّ ما أخافُ عليه .. الخطوة التالية ؟ .. بعد أنِ انحنَيْتُ لأجلكِ ..  اكتشَفْتُ أنهم لن يَرْضَوا حتى أنحني لغيرِكِ _ حرفيًّا كزوجةٍ _..  فانحنَيْتُ .. وكما يقول الشيوعيون : قطارُ التنازلاتِ ليس فيه محطّاتْ ! "  

- " وماذا عن الحبّ المقدّسِ الذي يتغلبُ على كلِّ الصعابِ ؟ "

- " تلك أحلامُ الرومانسية البرجوازية ...  وأحلامُ البرجوازيين _يا أحبَّ الناسِ إليّ _  لا وجودَ لها على أرضِ الواقعِ .. إنها تستلزم العيشَ في برجٍ عاجيّ متخيَّلٍ ، والاستسلام لأحلام اليقظة .. "

- " وهل أنتِ مسرورةٌ بكلِّ هذا ؟! "

كانتْ هذه الجملةُ هي الفئرانَ التي هدمَتْ سدَّ مأربَ ، ولما هطلَتْ دموع ( جميلة ) تخلَّتِ العينان الخضراوان عن كل ما فيهما من غضبٍ وأقبلَتْ صاحبتُهما تربِّتُ على كتفِ حبيبتِها المخطوبة حديثاً! ثم قالَتْ :

- " على الذي يظهرُ فهذا هو آخرُ عهدي بكِ .. فدعي آخِرَ ذكرياتي عنكِ تكنْ شيئاً آخَرَ غير بكائكِ وبكائي ! "

كانَتِ الدموعُ قد ملأتْ عيونَهما جميعاً ، وإن فاضَتْ من العسليتين وحُبِسَتْ في الخضراوين ...

- " لا! .. هذه مناسبةٌ تستحقّ البكاءَ .. فلا معنى للتظاهرِ بالسعادةِ ؛ لقدْ كُسِرْتُ واستسْلَمْتُ وتخلَّيْتُ عنكِ لأنني جبانةٌ .. أنتِ تستحقين من هو أفضلُ .. أنا لا أستأهلُكِ! "

وهرَبَتْ ( جميلة ) ... هربَتْ من حبيبتِها .. ومن مبادئها .. ومن ثورتِها .. ومن نفسِها .. وعاشَتْ كما يريدون لها أن تعيش ؛ ضحكَتْ عندما استحسنوا منها أن تضحك .. وبكَتْ عندما استحسنوا منها أن تبكي .. وتزوّجَتْ عندما استحسنوا منها أن تتزوج .. وستموت عندما يستحسنون منها أن تموت ..

بين الفينة والأخرى .. ستنظر يميناً وشمالاً وتستوثق من أنّ أحداً لا يراها .. _خوف أنْ يطّلِعوا على ما تفكر فيه لو رأوها_ .. وحينَها ستستعيدُ ذكرى حبِّها الأبديّ الخالد الذي فرَّتْ منه بإرادتِها من أجل أن ترضيَهم .. وفي تلك اللحظات القليلة ستشعر مرّةً أخرى _ ولو لثوانٍ معدودةٍ _ بآدميّتِها المفقودة .. آدميّتِها التي أودعَتْها عينين خضراوين حبيبتين ثم تركَتْها هناك ولم ترَها منذ ثلاثين سنةً !

***********

8- العنقاء
____________

عندما اجتمع الطلابُ والطالباتُ ليتظاهروا من أجل زميلتِهم وجدوا رئيس شئون الطلاب في انتظارهم ليخبرهم أن قرار فصلِها قد تم إلغاؤه ..

فكذّبوه .. فأراهم صورةَ القرار .. فكذّبوه .. فأقسم لهم على صحة قولِه .. فكذبوه .. فطلب منهم أن يتصلوا بها وستؤكد لهم ذلك .. ففعلوا .. ففعلَتْ ..

بقيَتْ مشكلةٌ ما .. وهي أنّ هؤلاء قد خرجوا من بيوتِهم ليتظاهروا .. والآن لم يعدْ هناك ما يُتَظاهرُ لأجلِه ..

نظرَتْ ( حياة ) إلى زملائها مِنْ حولِها ، وقالَتْ ساخرةً :

- " هل هناك شيءٌ آخرُ ترغبون في أن نتظاهرَ له قبل أن ننصرفَ! "

ردّ عليها زميلٌ لها لا يحسن الدعاباتِ :

- " هناك عشرات القضايا المحلية والعالمية التي تستحق الاحتجاج .. ولكنَّنَا لم نرتّبْ شيئًا "

- " فكذلك إذاً .. لِنَعْتَبِرِ اليومَ إجازةً ، ونواصل المظاهرات المرتبة سلفًا فيما بعدُ .. أيّ اعتراضٍ ؟ "

لم يعترضْ أحدٌ .. وإنْ بدَتْ خيبةُ الأملِ على وجوههم .. كيف سيتعلمون الصيدَ إذا كانَ السمَكُ سيقفز في حجرهم من تلقاء نفسه ؟ .. ولكنّ اليوم كان الجمعةَ .. ولا أحدَ يكره أن يقضي الإجازةَ في فعْلِ شيءٍ يحبّه .. بعيداً عن الوقوف في الحرّ والشمسِ .. فعادوا لبيوتِهم ..

وتوجّهَتْ ( حياة ) إلى بيتِ صاحبتِها الملغى قرارُ فصْلِها .. فتحَتْ لها أم صاحبتِها البابَ في استغرابٍ .. فتساءلَتْ ( حياة ) في أدب مصطنع عن ( غيداء ) ، فأجابَتِ الأمّ :

- " نائمةٌ ! "

جاء صوتُ النائمة من وراء كتف أمِّها :

- " لسْتُ نائمةً .. ولكنّ أمي لا تزال غاضبةً عليكِ لأنكِ "أفسدْتِ ابنتَها المدللة وجعلْتِها ثورية " .. تعالي .. لا تظلي واقفةً على البابِ "

عادَتِ الأمّ إلى مطبخِها وهي تتمتم :

- " من الذي يزور أحدًا في نهار الجمعة ؟! "

وهمَّتْ ( حياةُ ) أن تسأل ، ولكن ( غيداء ) جرَّتْها من يدها إلى غرفتِها ثم أغلقَتِ البابَ ..

- " فارستي الشجاعة أعادَتْني للجامعة .. لا أعتقد أن بوسعي أن أشكركِ بما يكفي  .. "

شعرَتْ ( حياة ) بالفخر ، ولكنها تظاهرَتْ بالتواضع :

- " في الواقع لقد أعادوكِ من تلقاء أنفسهم .. لا فضل لنا في الأمر "

- " هراءٌ! لو لم تهدّدوا بالتظاهر لما فعلوا شيئًا .. "

جاءَ صوتُ أخي ( غيداء ) وهو يسأل أمَّه  في غضبٍ عن مكان جلبابِه الأبيضَ .. وجاءُ ردّ الأمّ بصوتِها المرتفع :

- " أين خلعْتَه الجمعةَ الماضيةَ ؟ "

نظرَتْ ( حياة ) إلى ( غيداء ) في استغرابٍ، ثم قالَتْ :

- " ما الذي يحدث بالضبط في نهار الجمعة ؟ "

ضحكَتْ ( غيداء ) ضحكةُ خافتةً مسْتَغْرِبةً .. ثم فطنَتْ للأمرِ :

- " أووه .. لقد نسيْتُ أنّكِ ... إنه مثل يوم الأحد بالنسبة لنا .. إننا نذهب فيه إلى الجامع "  

- " آه .. هل عليّ أن أغادرَ إذًا .. حتى تذهبي إلى الجامع ؟ "

- " لا ! .. فقط الذكور مَنْ يذهبون .. في الواقع إن أمي قدْ صارَتْ تواظبُ على الذهابِ هي الأخرى .. ولكنّ النساءَ في المعتادِ لا يذهبْنَ "

- " مهلاً .. هل يعني هذا أنّ أباك وأخاك وأمك سيذهبون ، وسنبقى وحدَنا في الشقة ؟ "
 
- " إممم .. هل تشيرين إلى ما أعتقد أنكِ تشيرين إليه ؟ "

- " ما الذي تعتقدين أنني أشيرُ إليه ؟ "

كانَتِ الأحداثُ تتصاعد بسرعةٍ ، وبدأتْ ( حياة ) في الاقتراب من ( غيداء ) وكأنّها تمنحها عيّنةً مما يوشك أن يحدث عندما تخلو لهما الشقة . فابتعدَتْ ( غيداء ) عن صاحبتِها قليلاً ، وقالَتْ :

- " ( حياة ) !  أنا لسْتُ بهذه الشجاعة بعد .. هذا الحب الأفلاطونيّ لا بأس به .. ولكنْ لا أكثرَ من ذلك "

بدا الأسى على وجْه ( حياة ) ، ولكنها هزَّتْ رأسَها في تفهّمٍ :

- " لقد ظنَنْتُ أنّكِ أيضاً تشعرين بمثلِ ما أشعرُ به .. ولكنْ لا مشكلة .. إنْ كان الأمرُ سيقتصر على الصداقة فأنا قانعةٌ بالصداقة .. "

- " أنا لمْ أقلْ شيئاً عن الاقتصار على الصداقة .. لقد ذكرْتُ الحبَّ الأفلاطوني ! "

- " إنّ الحب الأفلاطوني يعني الصداقة! "

- " أووه ! .. فما المصطلح الذي يشير إلى تبادل المشاعر ولكنْ عدم صنع أيّ شيءٍ آخرَ بناءً عليها ؟ "

- " الحب العُذْريّ ؟ "

- " نعم ، هذا هو .. حبٌّ عذريّ .. إنني أحبّ أنْ أراكِ وأن أسمع صوتكِ وأن أتخيّل ما هو أكثر من رؤيتكِ وسماعِ صوتكِ عندما أكون وحدي .. ولكنّي لا أريد أن يحدثَ بيننا شيءٌ لو رآه أحدٌ لظنّ بنا سوءًا ! "

- " فليظنّوا ما شاءوا .. من يهتمّ بالناس ؟ "

- " أنا أفعلُ! .. كما قلْتُ : أنا لسْتُ بهذه الشجاعة.. إنني لا أريد أن أقطع الجسور التي بيني وبين المجتمع بعدُ .. لا يمكنني أن أنخرط في ممارسةٍ ستجعلني منبوذةً بينهم ! "

فلمّا آيَسَتْ ( حياة ) من إقناعِ حبيبتِها بتجاهل العذّالِ وببذْلِ الوصال .. عمدَتْ إلى السريرِ فجلسَتْ عليه .. ثم قالَتْ :

- " حسناً إذاً .. فلن يكونَ بيننا في خلوتنا إلا ما يكون بيننا عند الناسِ .. ما دام هذا ما يرضيكِ "

كان تعليقُ ( حياة ) قد رافقه صوتُ بابِ الشقة وهو ينفتح ثم لم تمضِ ثوانٍ حتى وصلَهما صوتُ انغلاقِه .. وخلا الجوّ للحبيبتين .. ونظرَتْ ( غيداء ) إلى حبِّها العذريّ الجالس في عرشه الذي طالما جلس فيه في خيالاتها وأحلامِها فكادَتْ عزيمتُها تخورُ .. وقالَتْ في وجلٍ :

- " ( حياة ) ، رجاءً ! .. قومي من السرير .. إني أخشى أنْ ينتهي تاريخُ صلاحية ذلك الحبّ العذريّ في التوّ واللحظة ما لم تفعلي "

كانَتْ ملامح وجه ( غيداء ) جادّةً كلّ الجدّ .. فلمْ تدرِ ( حياة ) إن كان عليها أن تأخذَ الأمر على محمل الجدّ .. أم تعبثُ بصاحبتِها .. ولكنّ منظر ( غيداء ) في ثيابها المنزلية الضيّقة وعينيها الخضراوان تفيضان رغبةً في الجالسة على السرير وهي تحاول نهيَهما سدىً .. هذا المنظر قد حمل ( حياة ) حملاً على أن تسلك طريق العبثِ ، فنظرَتْ نظرةً ماكرةً إلى حبيبة القلب ثم قالَتْ :

- " هل تشعرين أنّ درجة الحرارة قد ارتفعَتْ فجأةً ؟ .. لا أدرى لماذا أشعر بأني موشكة على الإصابة بضربة شمس ! "

- " ( حياة ) ! أرجوكِ .. لا يوجد شمسٌ في الغرفة ! "

- " هذا خطأ شائعٌ .. إن ضربة الشمس تنتجُ عن أيّ ارتفاعٍ في درجة الحرارة، بإمكانكِ أن تسألي أمَّكِ وستؤكد لكِ ذلك .. إن التسمية مخادعة .. فقد يكون السببُ حرارة الشمس .. أو حرارة فرنٍ ما .. أو مدفأةٍ .. أو في مثل هذا الظرفِ الذي نحن فيه .. قد يكون الإشعاعُ الحراريّ ناتجاً عن قمرٍ ! "

- " ( حياة ) .. هذا استعمالٌ مفرطٌ للقوة ! "

كانتْ ( حياة ) قد وضعَتْ يديها تحْتَ طرفِ بلوزتِها .. كمقدمةٍ واضحةٍ لرفْعِها تمهيداً لخلْعِها  ..

- " هكذا تقول كتيّباتُ إرشادات السلامة .. عند التعرض لضربة شمسٍ .. ابدأ بإزالةَ الملابس .. بعد ذلك يأتي رشّ الماء على الجسد .. وتناولُ المشروباتِ الباردة ... لا حياء في الطبّ يا صغيرتي .. "

كانَتِ البلوزةُ قد قطعَتْ شوطاً في طريقها نحو رأسِ ( حياة ) ، وبدا ما تحْتَها مِن بطْنٍ ملساء مهضومةٍ ، ثم استمرَّتْ البلوزة في الصعود حتى انكشف الثديان الناهدان _إذ لم يكنْ بين البلوزة وبين الجلد شيءٌ _ .. ثم غابَتِ الرؤيةُ عن ( حياة ) لثوانٍ غطَّتْ فيها بلوزتُها عينيها قبل أن تزيلَها بالكليّة ... وعندما عادَتِ العينانُ لرؤية ما أمامهما فجأهما منظرُ حبيبتِها وقد خطَتْ نحوها حتى وقفَتْ أمامَها ، وقالَتْ ..وهي تشيرُ إليها بسبابة يُمْنَاها كالمهددة :

- " أمامكِ ثوانٍ تعيدين فيها ارتداءَ بلوزتَكِ وسأحاول جاهدةً أن أكبح جماح ما أشعرُ به .. وأن أبْقِيَ الحبّ العذريّ _ الذي دخل إلى عرفة الإنعاش الآن _ حيًّا .....  أمّا إنْ بقيَتْ تلك البلوزة على الأرض فإنني لن أستطيع _ حرفيًّا _ أن أمنع نفسي من أن أفعلَ بكِ كلّ ما تمنى (عنترة) أن يفعله بـ(عبلة ) .. الخيارُ لكِ ! "

جمالُ تلك العينين الخضراوين المشتعلين شهوةً إلى ما تحدّقان به من جسد صديقتِها الرخصِ .. كان هو الآخر لا يتركُ خياراً لـ ( حياة ) في أن تقوم فجأةً من جلستِها وتُلْحِقُ بلوزتَها بنطالَها _ وكان هو الآخر يلي الجلدَ ليس بينهما شيءٌ _ .. ووقفَتِ العريانةُ ترقبُ الكاسيةَ بنظرةٍ كسيرةٍ كالتي تنتظر أن يحلّ بها تهديدٌ تتوقُ له ..

- " ما الذي قلْتُ أني سأفعله بكِ إن لم ترتدي ملابسَكِ ؟ "

- " لا أعتقد أنه شيءٌ مما ارتبط بقبيلة ( عذرة ) ! "

- " بل هو شيءٌ مما ارتبط بجزيرة (لسبوس) ! "  

ثم تحوّل المشهد الإنساني إلى وثائقيّ للحياة البرّية .. لم يكنْ واضحاً أيّ الطرفين يصيدُ وأيّهما يُصادُ .. بدا أنّ الطرفين يتبادلان دور الصياد ودور الفريسة .. وسرعانَ ما زالَتِ الملابسُ بالكليّةِ من الصورةِ .. وظهرَتْ استراتيجيّاتٌ غريبةٌ مِنْ قِبَلِ كلا الطرفين عند هجومِه على الآخر ... مِنْ مثلِ الانكبابِ بفم المهاجم على فم المدافع كأنه يحاول منعه من إصدارِ أصواتٍ يستدعي بها من يعينه على صدّ المهاجم!  .. ومِنْ مثلِ إمساكِ المهاجمِ بثديي المدافعِ والقبضِ عليهما كأنهما مصدرٌ للتنفس سيؤدي القبضُ عليه إلى اختناق الفريسة! .. ثمّ استطاعَ أحدُ الطرفين الوصولَ إلى نقطة الضعفِ النهائية المستقرة بين رجلي الفريسة فأكبّ عليها بفمه لعقًا ومصًّا .. وبين الفينة والأخرى يستدعي الطرفُ المهاجم تقنية اقتبسَها من البعوض فيغوص بلسانه كأنه ممصّ في نقطة الضعف .. فترتعش الفريسةُ كأنها كاهنةٌ قد تلبّسَتْها الأرواحُ فانكشفَتْ أمامها طاقاتُ الغيبِ .. فهي ترتجفُ لِهولِ ما ترى ! .. واستمرّ الأمرُ على هذا المنوالِ دقائقَ حتى بدأتْ الرجفاتُ تزدادُ تشنّجاً قبل أن تخمد تماماً ... وكأنّها كانَتْ مناورةً من الفريسة فسرعان ما استبدلتْ بالسكون الاندفاع تجاه المهاجم الذي صار مدافعاً وفعلَتْ به ما فعله بها .. حذوُكَ النعلَ بالنعلِ ... فلمّا فرغا .. ردّهما إلى عالمِ الواقعِ طرقاتٌ على البابِ .. ذُعِرَتْ لها الفتاتانِ ، وجاءَ صوتُ الأمّ :

- " ( غيداء ) .. الغداءُ جاهزٌ .. هل ستأكلُ صاحبتُكِ معنا ؟ "

كان عقلُ ( غيداء ) قد توقّف عن العمل .. ما دامتْ أمّها قد أتمتْ إعدادَها الغداءَ فقد عادَتْ هي وأبوها وأخوها قبل فترةٍ طويلةٍ .... فهل سمعوا ؟! هل سمعوا ؟!

كانتْ ( حياة ) أسرعُ تعافيًا من صاحبتِها فقامَتْ من رقدتِها على السرير وارتدَتْ ملابسَها على عجلٍ ( فلم يكن هناك ما يُرْتدى سوى قطعة علوية وقطعة سفلية ، وذلك من محاسن التخلي عن ارتداء الملابس الداخلية ؛ زيادة السرعة في اللبس والتعري ) ثم فتحَتِ البابَ موارَبًا لتخاطب الأم التي تجهل وجودَ ابنتِها عاريةً على السرير الذي يبعد عنها خطواتٍ ولكنها لا تراه ، فقالَتْ ( حياة )  :

- " لو لمْ يكنْ لديكِ مانعٌ يا ( طنط ) .. أعني أنا لسْتُ أكولةً فلا خوفَ من هذه الناحية "

ابتسمَتْ الأمّ على الرغمِ منها ، وفركَتْ أذنَ صديقة بنتِها برفقٍ كالمعاتبة ، ثم قالَتْ :

- " ما الذي تفعله ( غيداءُ) ؟ "

- " ترتدي ملابسَها! "

اتسعَتْ عينا الأمّ .. ثم انتبهَتْ إلى أنّ هذه _ على الأغلبِ _ دعابةٌ سخيفةٌ ، ففركَتْ أذن الثوريّةِ الحسناءِ الواقفةِ أمامَها .. هذه المرة بشدةٍ أجبرَتْ ( حياةَ ) على التأوّه قبل أن تقولَ في عجلةٍ :

- " آه .. آه ... أعني إنها تستمع لفيديو ما على الحاسبِ .. لقد كانَتْ مزحةً "

نظرَتْ الأمُّ إلى صديقةِ ابنتِها ، وقالَتْ :

- " بالطبعِ إنها مزحةٌ ، ولكنها مزحة سخيفة .. لا تكرّريها "

- " حاضر ! "

- " ولا تتأخرَا فيبردَ الطعامُ  "

- " حاضر! "

ثم أغلقَتْ ( حياةُ ) البابَ ...

ونظرَتْ إلى داخل الغرفة فرأَتِ العينين الخضراوين تنظران في ذعرٍ ، وسألَتْ صاحبتُهما التي فرغَتْ للتوّ من ارتداءِ ملابسِها :

- " هل تعتقدين أنها عرِفَتْ ؟ "

- " إن كان هذا هو ردَّ فعلِها بعد أن تعرفَ ، فممَّ تخافين ؟ "

- " معكِ حقّ ، لو كانَ لديها أدنى شكّ في أنّ ما حدث للتوّ قد حدثَ ، لما ردَّتْ عليكِ بهذا الهدوءِ ! "

- " ( غيداء ) أنا أعْرِفُ أنّها أمُّكِ وأنكِ أعلمُ بها مني ، ولكنْ هل خطر لكِ أنها ربما كانتْ هي الأخرى ... ؟ على الأقلّ في شبابِها ؟ لماذا تتصورين أنها عدوٌّ لنا ، ولو علمَتْ بما بيننا لثارَتْ عليكِ ؟! "

- " هل تمزحين ؟! ذلك الجيلُ أبعدُ ما يكون عن مثل تلك الممارساتِ .. لو كنْتُ صريحةً معكِ فأنا لا أعتقد أنّ نساءَ ذلك الجيلِ يعرفْنَ كيف يستمْنينَ حتى.. ولعلهنّ يعتقدْنَ أنّ ذلك خاصٌّ بالرجالِ ... أعني : هل تعتقدين أن أمَّكِ أنتِ ..  "

قاطعَتْها ( حياة ) :

- " في الواقع إنّ لديّ شكوكي .. وقد زاد منها ما أخبرَتني به أمي هذا اليومَ عن ماضيها الثوريّ ، وكذلك بعضُ أسئلتِها عن العلاقةِ بيننا  "

- " أمُّكِ أنتِ ثوريةٌ قديمة ؟! .. مهلاً  ، ماذا تعنين بأسئلتِها عن العلاقة بيننا ؟ "

- " نعم ، لقد سألَتْني إنْ كنْتِ حسناء ، في معرض استفسارِها عن سبب تظاهري من أجل المطالبة بعودتكِ إلى الجامعة .. قد يكون سؤالاً بريئاً .. وإن لم يبدُ كذلك ... ولكنْ على الأغلبِ فإنها _على الأقلّ_ تعلم بإمكانية وقوع شيءٍ ما بين فتاتَين "

جاءَ صوتُ الأمّ :

- " ( غيداء) ، ( حياة ) .. الأكلُ سيبرد ! "

رفعَتْ ( غيداءُ ) صوتَها :

- " قادمتان ! "

ثم سألَتْ صاحبتَها :

- " وأنتِ تريدين أن تسحبي ملاحظاتكِ تلك على أمي أنا أيضاً "

ردَّتْ ( حياةُ ) في عبثٍ :

- " من يدري ؟ لعلّه كان بينهما في غابر الأزمان مثل ما بيننا الآن ! "

- " هذا إغراقٌ ! "

- " ولكنْ لو لم يكن إغراقاً ، وكان حقيقةً .. أفلا يثير ذعركِ أنه قد ينتهي بنا الحالُ نحن أيضاً إلى نفس المآلِ .. متزوجتَين من رجلَين .. وقد تفرقَتْ بنا السبلُ .. حتى إن بناتِنا _ وأبناءَنا _ لا يدرون أننا كنا نعرف بعضنا البعض .. بله أنه كان بيننا حبٌّ وعشقٌ ؟ "

- " هذه فكرة مخيفة .. ولكنْ خذي في الاعتبارِ أننا ثوريّتانِ _ أعني أنتِ أكثرُ عراقةً مني بكثيرٍ في الطريق الثوريّ ، ولكنني سائرةٌ على خطاكِ _ .. وعليه فنحن لن ننهزم بسهولةٍ أمامَ الأمواج .. ولن نخضعَ لما يُفْرَضُ علينا من الخارجِ ! "

- " هذا هو أكثر ما يخيفني .. لقد كانَتْ أمي ثوريةً هي الأخرى ثم انكسرَتْ .. فما الذي يمنع أن ينتهي بنا الحالُ نحنُ أيضاً مكسورتَين ؟ "

- " الغداء يا بناتُ ! "

- " حاضر ! "

- " ( حياة ) ! لا تخافي ! كما أنّ ثورتَنا نجحَتْ وثورتُهم فشلَتْ فكذلك سيكونُ الأمرُ على الأغلبِ في سائر مناحي الحياةِ .. لن نكرِّرَ أخطاءَ الماضي .. ولن نسمحَ لأحدٍ أن يُجْبِرَنا على شيءٍ لا نريده ! "

- " لقد خرج الماردُ من القمقم ؟ "

- " لقد خرج الماردُ من القمقم ! "

- " فهل توافقين على أن نعلنَ علاقتَنا على العالم بأسره ، وليقبَلْها من يقبلُها ويرفضْها من يرفضُها ؟ "

- " إمم .. هذا يبدو راديكاليًّا إلى حدٍّ ما .. لماذا لا نبقي علاقتَنا سرًّا على الأقلِّ في الوقتِ الحالي  ، ونهتم بالقضايا الأكثر محوريّةً في محاربة الظلم والفساد ؟  "

- " إذاً فالماردُ لم يخرجْ من القمقمِ يا عزيزتي .. كما يقول الشيوعيون : إن قطارَ التنازلاتِ ليس فيه محطات ... ما دامَتْ حقوقُنا كمثليّاتٍ مهدرة .. ولا بدّ من إخفائها عن العيون .. فحقوق الآخرين أيضاً على وشْكِ أنْ تهدرَ ... هذا من ذاك! "

صوتُ الأمِّ خضراءِ العينين يرتفع ، وكأنّ صاحبتَه تسمع حوارَ الثوريتين الصغيرتين ، وتعلنُ أنّ ثورتَهما في المرتبة الثانية لما تدعو إليه  :

- " الغداء ! "

وتفطنُ ( حياة ) إلى عبثيّة الموقفِ :

- " الغداءُ بالفعلِ !  .. الغداءُ دائماً سيأتي أوّلاً .. ما جدوى الحبّ الذي لا يعترفُ به من يصنعون الغداء ؟ "

- " ( حياة ) ! لا داعي للراديكالية .. سنجد مخرجاً وسطاً .. "

- " لا يوجد وسطٌ في هذه المسائل للأسف  .. لقد كان ما بيننا أجملُ من أن يكون حقيقةً .. وعلينا أن " ننضج " ونعترف بأن الواقع أمَارَتُه المرارةُ .. فمتى حلا شيءٌ ما , فهو خيالٌ توهَّمْناه .."

همَّتْ ( غيداءُ ) بقولِ شيءٍ ما ، ولكنّ حبيبتَها عاجلَتْها _بينما هي تفتح البابَ لتغاردَ الغرفةَ والشقةَ والثورةَ _ :

- "الوداعَ يا أحبَّ الناسِ إليّ .. الوداعَ ! "



---------------- ( تــمَّـتْ) ----------------








 

ليست هناك تعليقات: