الثلاثاء، 13 سبتمبر 2016

قصة : الواقع ؟ نحن مَنْ صنع ذلك ! ( م / ف )



قصة : الواقع ؟ نحن مَنْ صنع ذلك ! ( م / ف )

- بضعة تنويهاتٍ :

تنويه 1 : هذه القصة تعمد في كثير من أجزائها إلى استخدام لغة قد تعد مرتفعة قليلاً عن عربية الجرائد والصحف ، فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك ، فقد  نوهنا به .

تنويه 2 : تصوِّرُ القصة في معظمها علاقةً ذات طابع جنسي بين ذكور وإناث ، فإن كان هذا يسوؤك / يسوءك، فقد نوهنا به . 

تنويه 3 : مما تشمله تلك العلاقة ذات الطابع الجنسي ما يقترب مما يعرف بالإنجليزية / بالإنكليزية بـ
فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .

تنويه 4 : هذا العمل ضرب من الخيال لم يقع ولا أجزاؤه ،  ولا قَصَدَ إلى تصوير ما وقع بكليته أو بجزء منه ، وشخصياته ليست محاكاة لشخصيات واقعية وأي تشابه بينها وبين أي شخصية واقعية حية أو ميتة علمنا بها أو لم نعلم محض صدفة ، وأيُّ حثٍّ على فعل أو على الامتناع عن فعل بناءً على ما في القصة مما تُوُهِّم أنه مغزى فهو غيرُ مقصود من المؤلف ، وليس حثاً على الحقيقة ، ومتى وقع الفعل الذي تُوُهِّم أنه حُثَّ عليه فالفعل مسؤولية / مسئولية فاعله ولا يُسْألُ المؤلفُ عن ذلك .
فإن كان أيٌّ من هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .



- اقتباسات :

1 - " بوسعك أن تقدم الآلاف من أكواب القهوة الإنترنتيّة . وأن تكتب ألف سَتْهٍ إنترنتيّ . وأن تمنح خمس مئة  طوق إنترني لخمس مئة خاضعة إنترنتية. بإمكانك أن تركع إنترنتياً أمام قدمين إنترنيين لألف مسيطر إنترنتي ، وأن تكتب لهم عشرة آلاف جنس فموي إنترني . كل هذا لا يساوي ثانية واحدة من تجربة عملية في العالم الحقيقي، مهما رغبْتَ في ذلك (؛ في أن يتساويا ) !

الكتابة ، والدردشة بالكاميرات والعبث في العالم الافتراضي لا يجعل أيَّ شخص خاضعاً حقيقيًّا أو سيداً حقيقيَّا أكثرَ مما تجعل لعبة (كول أوف دوتي) شخصاً ما جنديًّا حقيقيًّا .

إلى أن تنتظري ، عريانةً على ركبتيكِ ، رافعةً بصركِ إليه بينما هو يرمقك من علوّ ... وأداة عقابكِ التي اختارها في يده بينما هو يفكر أثناء الصمت المتبادل فيما سيفعله بكِ ؛ وأنتِ منتظرةٌ وَعْدَ سيّدِكِ بالحبّ الغامر والاهتمام الوحشيّ ، وتعلمين أنه سيفعل بكِ ما يحلو له وأنكِ لن توقفيه ... حتى تفعلي ذلك فإنكِ لن تكون لديك أدنى فكرة عما يعنيه أن تضعي حياتكِ بين يديه وأن تمنحي عقلكِ وجسدكِ لإرادتِه !

والعكس : إلى أن تقف أمامَها ، نازلاً ببصرك إليها بينما تتأمل فيما ستصنعه ، عالماً أنّ حياتَها بين يديك ، وعيناها مرفوعتان إليك وفيهما ثقة تمسّ الروحَ ؛ ثقةٌ تبلّغكَ أن تفعل ما يحلو لكَ بها ... أنْ تأمرَ بما تشاء وستطيعك ... أنْ تحمل على عاتقك عبء هذه المسؤولية عن إنسان آخر .. إلى أن تفعل ذلك فليس لديك أدنى فكرة عما يعنيه أن تكون مسيطراً .

إنْ كنْتَ لا تعتقد أنك _عندما تَخْضَعُ هي لك_ تحوز حياةً بين يديك ، فإنك لا تزيد على أنك تلهو وتعبث ! "
تايلور روز ( 1969 -   )



2- " إذا لمْ يوافقِ الواقعُ النظريَّةَ ... غيِّرِ الواقعَ ! "

ألبرت أينشتاين ( 1879 - 1955 )

3- " إن الطبيعة تقلد الفنان ! "

أوسكار وايلد ( 1854 - 1900 )

*********

- القصة :

1- أمُّنُا الأرْضُ !
________________________

الزمانُ : فجر التاريخ
المكانُ : على ضفاف نهر الفرات

لهبُ النار المشتعلة في كتل الحطب المتراصّة يتراقص بجنونٍ وقد عصفَتْ به الرياح فما زادتْه غير تأجّجٍ واشتعالٍ ...

البرد القارص قد احتجب وراء دائرةٍ مركزُها النارُ ، وقد بدأ قطرُها في الانكماش مع توغل الليل وتناقص الحطب غير المتفحم ، فتمتدّ يد العجوز بأغصانٍ جافّة تلقيها في النار لتزداد توقّداً وتزداد دائرة الدفء اتساعاً ...

ثم تكْملُ القصّةَ للشابات والشباب المحيطين بها وأعينهم شاخصةٌ إليها وقد غفلَتْ أجسادُهم عن الحركة كأنهم تماثيلٌ ....

منظرُهم يزيد من أشجان العجوز ويذكّرها بتلقيها تلك القصص عن جدّتِها عندما كانتْ الجدة في مثل سنِّها وكانتْ هي في مثل سنّ هؤلاء الشباب ... ومع الذكرى يزداد صوتُها حنينًا وإثارةً ...

- " .... ثمّ نزلَتْ ( نضراءُ ) ذاتُ النضارة ملكة الربيع من منزلِها السماويّ البهيّ بعد أن سمعَتْ شكوى الفانين وأنينَهم الذي حجبَ صوتَه البردُ القارصُ الذي يجبر الألسنة على البقاء في الأفواه المغلقة ...

وما إن لمسَتْ قدمُ ( نضراء ) الأرض حتى نمَتِ الحشائشُ في موطئِ قدمِها ، ومدَّتْ يدَها إلى الأشجار فأورقَتْ ونمَتْ أزهارُها وتفتَّحَتْ ، وانتشر الضياءُ في المكانِ فانتبه إليه ( غاسق ) شديد البأس ، فسار بسرعةٍ نحوَها ، وخطاه القويّة تهز الأرضَ وتبثّ الرعبَ في قلوب الفانين الذي حلّ بهم عذابُه لأسابيع طويلة ، ولما تقابل ( غاسق ) مع ( نضراء ) عاجلَتْه بضربةٍ نافذةٍ ألقَتْه أرضاً ، فهلّلَ الفانون لانتصارِ ملكتِهم على الشيطان الشرير ، ولكنّ ( غاسقَ ) الماكرَ سرعان ما نكص على عقبِه ، وفرد جناحيه الضخمين وطار مبتعداً وهو يتضعضع من أثر الضربة ...

وعادَتْ ( نضراء ) ذات البهاء السماويّ لتنشر الربيع في أنحاء الأرض البائسة حتى عادَتْ جنّة غنّاء ، وأٌقبل الناس يأكلون ويشربون ويستمتعون بجمال الأرض ... واستمرّ بهم الحالُ أسابيع طويلةً حتّى نسَوا أهوالَ العذابِ الذي حاق بهم على يد ( غاسق ) ...

وفي أحد الأيام شعرَتْ ( نضراءُ ) بالضعفِ والتعبِ ، فأقبل الفانون عليها ليعرضوا الأعشابَ التي اعتادوا أن يتداووا بها من مثل هذه الأمراض ، ولكنّ ( نضراء ) السماويّة كانتْ تعلم أنّ هذه الأعشابَ ليسَتْ من القوّة بما يكفي لتعالجها من وجعِها ، وأخبرَتْهم أنّ عليها أن تعود لمسكنِها السماويّ لتشرب من نبع الخلودِ وتأكلَ من ثمار شجرة الحياة لتعودَ إليها قوتُها ... ولمّا رأتِ الخوفَ في أعين الفانين طمأنَتْهم أنّها ستعود لهم ما إن تستعيد قوَّتَها ، وشكا إليها الفانون خوفَهم من ( غاسق ) ذي البأسِ , ومن أن يعودَ لعذابِهم ، فأخبرَتْهم بالتعاويذ المقدسة التي يدعونها بها إذا حلّ بهم بأسُه ، لتسمع شكواهم وتنزلَ إليهم لتقضي عليه ..

 ثم صعدَتْ إلى السماءِ ...

وما إن اطمأنّ ( غاسق ) اللئيم إلى مغادرتِها حتى عاد لينكّل بالفانين وينشر فيهم الظلام والبرد ويقضي على شجرِهم وأعشابِهم ويمرض بهائمهم ويهزلها ، وينشر الخوف والمرض في صغيرِهم وضعيفِهم ، ولجأ الفانون للتعاويذ ، ولكن ( نضراء ) لم تأتِ ، فهرعوا إلى الحكماء فأخبرَهم الحكماءُ أنّها _لا بدّ_ مَنَعَهَا ضعفُها من الاستجابةِ لهم ، ولكنّها ما إنْ تشربْ من ماء الخلود وتأكلْ من شجرة الحياة حتى تستعيد قواها وتجيب دعواهم ، ونظر هؤلاء الحكماء في النجوم ، فتوصّلوا إلى أنها تستعيد قواها في اليوم الذي يظهر في ليلتِه النجمُ المسمى بالنيروز ، فمتى ظهر النجمُ فليلحّ الفانون بالتعاويذ المقدسة ، وليقدموا الطقوس المعلومة حتى تسمع ( نضراء ) شكواهم فتنزل للقضاء على عدوّهم الجبار ( غاسق ) ... "

كانَتْ أعينُ الشبابِ مربوطةً بتجاعيد وجه العجوز وهي تروي لهم القصة المقدسة كما توارثَتْها القبيلة لقرون عديدة .. وعندما رفعَتْ العجوزُ عينيها إلى السماء وبسطَتْ يدها ممدودة الإصبع التفت الشبابُ جميعاً إلى ما تشيرُ إليه ... وجاءَ صوتُ العجوز من غياهبِ التاريخِ بالكلمة المرتقبة :

- " نيروز ! "

نظر الشباب في توجس ورهبة للنجم المقدس ، وهو يلمع في السماءِ ، كانوا يعلمون منذ طفولتِهم أنّ دورَهم سيأتي ذات يومٍ ليقوموا بالطقوس المقدسة ليرضوا ( نضراء ) ملكة الربيع حتى تنزل إلى الأرض وتنشر البهجة والضياء .. ولم يكنِ الشباب ولا الشاباتُ بحاجةٍ إلى تحضيضٍ من العجوز ليقوموا بما عليهم القيامُ به ...

ونهضَتْ فتاةٌ ثم تبعَتْها أخرى ثم قامَتْ الباقياتُ ووقفْنَ صفًّا أمامَ النارِ ثم بدأنَ في نزع ملابسهنّ حتى وقفْنَ عارياتٍ ولم يكنِ البردُ وحدَه ما تسبّب في ارتجافهنّ ، ولما تعرَّيْنَ بدأتِ العجوزُ في تلاوة التعاويذ التي لم تفهم الفتياتُ منها شيئاً ، ثم قالَتِ العجوزُ :

- " ( نضراء ) يا مليكتنا الغالية ، هؤلاء فتيات القبيلة قد وقفْنَ أمامكِ كما ولدتْهنّ أمهاتُهنّ يسألنكِ أنْ توفي بوعدكِ القديمِ الذي وعدْتِ به جداتِهنّ أنْ تعودي لنشر الربيع في أرضهنّ متى استعدْتِ قوَّتكِ وشربْتِ من ماء الخلودِ وأكلْتِ من شجرة الحياةِ ، وقد طلع النيروزُ دليلاً على بلوغكِ _يا عظيمة القدر_ قوَّتَكِ الكاملة فأوفي بوعدكِ ، واقضي على عدوِّنا الظالم الغاشم ( غاسق ) ، وانشري فينا الربيع! "

صدر عن النار قعقةٌ ضخمةٌ فارتجفَتِ الشاباتُ ، أما الشبابُ فعلموا أنّ تلك القعقة إشارةُ البدء لتنفيذ دورهم في الطقوس ، فقام كلّ واحدٍ منهم فوقف بإزاء فتاةٍ من الفتياتِ ، ثم بدأوا في التعري أيضاً ، حتى لم يبقَ شيءٌ من الملابس على أحدٍ إلا ما ترتديه العجوزُ التي أكملَتْ قراءةَ تعاويذِها :

- " يا ( نضراءُ ) , يا مليكتنا الغالية ، وها هم شباب القبيلة قد وقفوا أمامك كما ولدتْهم أمّهاتُهم يسألونكِ مثل ما سألكِ إياه فتياتُ القبيلة ، فإن كنْتِ قد بلغْتِ كاملَ قوتكِ وليس بكِ سخطٌ علينا وحانَ زمانُ نزولكِ لأرضنا فلتقعقع النارُ إيذاناً بذلك ! "

حلَّ صمتٌ رهيبٌ في المكان بعد أن فرغَتِ العجوزُ من كلامها ، فنظرَتِ الشابّاتُ في خوفٍ للشبابِ ، وجاء صوتُ العجوزِ الضعيف وقد اكتسب قوةً غير بشريّةٍ ، وهي تصيح في حزم :

- " فالآن يا مليكتَنا الغالية نعلم أنّكِ ساخطة علينا ، ونقتصّ من هذه العذراوات من بنات القبيلة على يدِ أبنائها حتى ترضَي علينا "

كانَ سيرُ الطقوسِ الطبيعيّ ينتهي بقعقة النار ثم ارتداء الجميع لملابسهم وعودتهم إلى بيوتهم في انتظار الربيع ، ولكنْ في بعض السنين قد تتأخر تلك القعقة الثانية فتستمر الطقوس حتى تقعقع النارُ ...

نظرَتِ العجوزُ إلى الشبابِ وهزَّتْ لهم رأسَها ، فتراجع كلٌّ منهم خطواتٍ ليلتقط عصا مغروسة في الرمل نضرة قد حوفظ على نضارتِها ما أمكن بكل الوسائل المتاحة للقبيلة وقد أعدّتْ خصيصاً لهذه المناسبة ، حتى تكون بقيّةً من موسم الربيع الماضي يستجلبُ بها رضا ملكة الربيع ليحل موسم الربيع الجديد ... ثم تقدم الشباب إلى الشابات اللواتي ولين أدبارَهنّ لشباب القبيلة وانحنين حتى مسَّتْ أصابعهُنّ أخماص أقدامِهنّ في انتظار القصاص أن يقع عليهنّ _ أنْ كنَّ عذراواتٍ_ نيابةً عن سائر القبيلة حتى ترضى ملكة الربيع وتحل بديارهم ... ووقف كل شابٍ بجوار فتاةٍ ثم رفعوا عصيَّهم معاً ، وانتظروا حتى أشارَتْ إليهم العجوزُ فهووا بعصيّهم على مؤخرات الفتياتِ ، لترتجّ هذه في ألمٍ تجاهلَتْه العجوز لتصيح بصوتها العتيق :

- " يا ملكة الربيع ، فهل رضِيْتِ ؟ "

ويبدو أن سخط ملكة الربيع على القبيلة كان أكبر من أن تذهب به ضربة واحدةٌ ، فبقيَتِ النار تلتهب ولكنها لا تقعقع ، وعادَتْ نظراتُ الخوف لعيونِ الشابات المطرقة إلى الأرض ، ولم يكنّ يريْنَ ارتفاع العصيّ ولا إيماءَ العجوزِ إذناً للعصيّ بأن تهوي ، فكانَ وقعُ المفاجأة مما يزيدُ من ألمِ العصيّ النضرة على أستاههن البضة ، وعادَتِ العجوزُ للسؤالِ وعادَتْ ملكة الربيع للسكوتِ ، وعادَتْ العصيّ للارتفاع وعادَتْ المؤخرات للالتهاب تحت وقع العصيّ عليها .. ولكنّ النار بقيت على صُمَاتِها ، لتزيد النارُ اشتعالاً في أرداف العذراواتِ ، وبقيَتِ الأمورُ على هذه الحالِ حتى تمَّتْ الضرباتُ عشراً تركْنَ علاماتٍ ؛ ناراً في الأرداف ، وماءً في العيون ، وماءً وناراً معاً في القائم من القائمين وفي المنحني من المنحنيات!

- " يا ملكة الربيع ، فهل رضِيْتِ ؟ "

صمْتٌ ...

صوتُ العصيّ تشقّ الهواءَ ...

تأوّهٌ وراءَه ما وراءَه ...

- " يا ملكة الربيع ، فهل رضيتِ ؟ "

صمْتٌ ...

صوتُ العصيّ تشقّ الهواءَ ...

تأوّهٌ ليس وراءَه شيءٌ غير التأوه ...

- " يا ملكة الربيع ، فهل رضيْتِ ؟ " 

قعقة النارِ!!

- " يا مليكتَنا ، ولكِ الغبطة ، لقد تمَّتْ لكِ السعادةُ باكتمال قوّتكِ ، وقد بلغ بنا فعلُ عدوّكِ وعدوّنا ( غاسق ) اللعينَ ما لا يخفى عليكِ ، فعجّلي بنزولكِ والقضاءِ عليه ؛ ليعود الربيع إلى ديارِنا ، وتعود الحياةُ إلى أرضِنا وأجسادِنا وبهائمِنا ! "

كانَتْ هذه الخاتمة المعتادة وقد تعوّد الشباب والعذراوات على ارتداء ملابسهم بعدَها ، ولكنْ بما أنّ هذا الطقسَ القصاصيّ الاستثنائي لم يسبقْ لأيٍّ منهم تجربتُه ، فقد نظر الشبابُ إلى العجوز مستفسرين عما عليهم أن يفعلوه ، بينما بقيَتِ الفتياتُ منحنياتٍ كما هنّ ، وإنْ تنفسْنَ الصعداءِ لنهاية " العقاب " وتفرَّغْنَ للتفكيرِ في أمورٍ أخرى!

أمرَتِ العجوزُ الشبابَ أن يرتدوا ثيابَهم ، والشابّاتِ أن ينهضْنَ ويرتديْنَ ثيابَهنّ كذلك ، ثم أطفأوا النارَ وعادوا لبيوتِ القبيلة ، واستقبلَهم الكهولُ بالتهليل والمعانقة ، والأطفالُ بالغيرةِ وتمني أن يحلَّ عليهم الدورُ ليقوموا هم بالطقوس المقدسة ...

كان الربيعُ على وشك الحلولِ ، وستكثر فيه الأغصان النضرة الرطبة من مثلِ التي استعمِلَتْ آنفاً في تلك الطقوس، ولن يحتاج الأمرُ أكثرَ من اختلاق مناسبة ما يبرَّرُ فيها هويُّ  تلك الأغصان على تلك الكثبان ليعود قيامُ تلك العيدانُ وبللُ تلك الوديانُ ... ولمّا أخلد المشاركون في تلك الطقوس إلى النوم في تلك الليلة كان في عقل كلٍّ منهم؛ فتيانِهم وفتياتِهم ..مناسباتٌ عديدة وأعذارٌ عديدة ؛ تعددتُ وتنوَّعَتْ ، ولكنّها كلُّها تنتهي نهايةً واحدةً ؛ نهايةَ حمراء آسفة !

***********



2- ليس هناك نقطة ارتكاز !
____________________

الزمان : سنة 2008 ميلادياً
المكان : على ضفاف نهر النيل



كان المحاضرُ ملولاً ، وهذا يعني أنه يشرح الفكرةَ مرّةً واحدةً ومن لم يفهمْها فهذا شأنُه ....

كان هذا مناسباً لي ؛ أنا لا أحتاج إلا إلى المرة الأولى ، وأحياناُ أفهم الفكرة في منتصف شرحها حتى ، وأتثاءبُ في مللٍ منتظرةً أن يكملَ الشارح الصورة التي كمُلَتْ عندي بالفعلِ ...  ولهذا فقد كنْتُ معجبةً بهذا المحاضر ..

- " لا أرغب في الخوض في مفهوم الإرادة وفكرة الجبر والاختيار في بعدَيْها العلمي والديني أو المادي والميتافيزيقي ، ولكنّي سأشير في عجالةٍ إلى الفكرة التي سنحتاج إليها في شرحِنا اليومَ ، وهي فكرةُ قدرةِ الفرد أو المجموعة القليلة من الأفراد على تشكيل الوعي الجمعي للجماعة ، أو بعبارة أخرى : النخبوية أم الديمقراطية. "

كانَتْ هذه السرعة لا تناسب البعض على الذي يظهر ، ولذا فقد رفعَتْ إحدى المشاركاتِ يديها ، ولمّا بدا أنه يتجاهل اليدَ المرفوعةَ تجاهلاً تامًّا ، فقد قامَتْ بدون إذنٍ ، وقالَتْ بصوتِها الجهير :

- "  لم أفهمْ حرفاً واحداً من بداية المحاضرة "

- " هذه ليسَتْ محاضرةً ؛ لا يوجد امتحان أو درجات أو درجة علمية أو شهادة حضورٍ ، وأنا لم أتقاضَ منكِ ولا من غيركِ شيئًا ، فبإمكانكِ الانصراف إن شئتِ"

كان كلامُه صحيحاً ، ولكنّ المشكلةَ أكبرُ من ذلك :

- " ولكنّك تضيّع وقتَكَ ووقتَنا ؛ والوقتُ أثمنُ من المالِ "

نظرْتُ في استمتاعٍ إلى ملامحِ وجهه وهو يوشك على الانفجار ثم يتمالك نفسَه في اللحظة الأخيرة ، ثم قال :

- " هلّا تقدمْتِ إلى المنصة رجاءً ! "

كان ردُّ الفعلِ الطبيعيّ أن تتراجع ، ولكنّ هذه الفتاةَ جريئةٌ بالفعلِ ، فتقدَّمَتْ بخطواتٍ ثابتةٍ إليه ، وسلّمها المايكرفون طالباً منها أن تذكر اسمَها وسنَّها واعتراضَها على أسلوبِ شرحه ، فاستمرَّتْ في جرأتها التي تصل إلى التبجح :

- " (ساندي) ، أربع وعشرون سنة ، لم أفهم شيئاً "

علا صوتُ الضحكاتِ ، فقال المحاضر وهو يكظم غيظَه :

- " ( ساندي ) ؟!  هل تحملين جنسيةً أخرى غير المصرية ؟ "

- " إن ( ساندي ) اسمٌ شائعٌ الآن في مصر "

- " ولكنكِ لسْتِ الآن ، أنتِ أربع وعشرون سنة مضتْ ؛ لم يكنْ هناك أطباق صناعية وقنوات فضائية عندما ولِدْتِ "

- " بإمكانكَ أن تناقش ذلك مع والدي إن أحبَبْتَ ، ولكنّ هذا هو اسمي! "

بدا أنّ المزيد من الضغط يمكن أن يؤدي إلى الانفجار ، وكنْتُ أنا حريصةً على أن أرى نوعيّةَ السبابِ الذي يستعمله أكاديميٌّ نافد الصبر كهذا المحاضر ... ولكنّه بدا _ لسببٍ لا أعلمه _ مستعدًّا لمجاراة سليطة اللسان هذه ، وسأل :

- " حسناً يا ( ساندي ) ، لماذا لمْ تفهمي شيئًا ؟ "

- " لأنك سريعٌ ، وتفرغ قبل أنْ أدرك أنك بدأتَ حتّى ! "

بعض الضحكاتِ التي فطنَتْ إلى التورية الجنسية ... لا أعتقد أن ( ساندي ) _ التي لم تفهم شيئاً _ قد تعمَّدَتْ هذه التورية ، إنها تبدو أحمقَ من ذلك ، ويبدو أن هذا هو ما يفكّر فيه المحاضر أيضاً ؛ أنها لم تتعمّدْ المعنى البعيد ، بل وقعَتْ عليه صدفةً ، ولهذا فقد جاهد ابتسامتَه ، وقال :

- " حسناً ، هل يمكنكِ أن تذكري شيئًا بعينِه حتى أشرحه لكِ ببطءٍ فلا أفرغ حتى تملّي أنتِ أولاً ! "

حسناً إنّ توريتَها هي _ حتى لو كانَتْ غير متعمدة _ أفضل بكثير ، وردَّتْ ( ساندي ) :

- " مثلاً عندما قلْتَ إنه ليس هناك نقطة ارتكاز ؛ هل هذه محاضرة في الهندسة ؟!  ما معنى هذه الجملة ؟ "

لا أدري لماذا رفعْتُ يدي ، ربّما شيءٌ ما فيّ كان مستاءً من سرقة هذه المتبجحة الجاهلة للأضواء بينما أنا _ ولعلي الوحيدة التي تفهم كل ما قيل _ لا يلتفت لي أحدٌ ، وفي هذه المرة فقد انتبه المحاضر إلى يدي الممدودة ، وابتسم ، وتناول المايكرفون من ( ساندي ) ، وقال :

- " حسناً ، متطوعة أخرى ، هلّا تقدمْتِ إلى المنصة رجاءً ! "

خفق قلبي بعنفٍ ، كان يكفي أنْ يشير لي لأجيبَ _ وهذا في حدّ ذاته مخيف _ أمّا أن أتقدم لأكون في دائرة الضوء أمام كل هؤلاء الأفراد فهذا مرعبٌ _ ولكنْ أليس هذا ما حسدْتُ ( ساندي ) عليه ؟! _ ، قرَّرْتُ أن أثقَ بنفسي وأتقدم ، ولكنّ نفسي لم تثق بنفسِها ، وظلَّتْ ترتعد بين جانبيّ ، وعندما دنوْتُ من المحاضر ، ومن ( ساندي ) المبتسمة في سخرية ، قال المحاضرُ :

- " الاسم ، السنّ ، الجواب! "

- " ( دينا ) ، اثنتان وعشرون سنة ، إمممم "

قاطعَتْني ( ساندي ) :

- " هذا هو الجوابُ ؟ "إممم" ؟ "

- " هلّا خرسْتِ ! "

واو ، إنّ هذه الفتاةَ تثير الحنق فعلاً ، ونظرْتُ إلى المحاضرِ لأعتذرَ له ، ولكنّه بدا مستمعاً بردّي ، فتجاهلْتُ الاعتذارَ ، وقلْتُ :

- " الجوابُ هو ... "

- " هل ستسمح لها بأن تقول لي اخرسي ، دون أن تعنّفَها ؟ "

- " إنها لم تقل : اخرسي ، بل قالَتْ : هلا خرستِ ، هلّا : تفيد الحث ، وتُلَطِّفُ من وقع الإهانة ! "

كان هذا دورُه ليتذاكى عليها ويستغلّ إهانتي في الانتقام من بجاحتِها ، فقلْتُ وقد تجاهلْتُها تماماً :

- " نقطة ارتكاز ، تعني أن الإنسان لا يستطيع الحكم بصورة موضوعية مطلقة على أي شيءٍ لأنه حتى يفعل عليه أن يخرج نفسَه من الصورة ويقف على نقطة ارتكاز تسمح له برؤية الأشياء المتغيرة دون أن يتأثر بها ، وهو ما لا يمكن أن يحدث لأنه هو نفسه أحد المتغيرات ، ومن ثم فأي نتيجة سيصل إليها ستكون قابلة للشك ، لأنه لا توجد نقطة ارتكاز ! "

- " ما هذه السفسطة ؟! "

كدْتُ أنْ أردّ عليها ، ولكنّ المحاضر أثلج صدري عندما ردّ هو :

- " إجابة جيدة , ( ساندي ) ارجعي إلى مقعدكِ رجاءً! "

- " ولكنّي لا زلْتُ لا أفهم! "

- " لا أعتقد أنّ الأمر بيدي! "

واو ؛ هذا ردٌّ جيّدٌ .... نظرَتْ ( ساندي ) إليّ في غضبٍ ، وكأني اختطفْتُ منها حبيبَها .. مهلاً ، أهذا ما جعلني أرفع يدي ؟!!

- " هذا جوابٌ جيِّدٌ يا آنسة ( دينا ) ، بإمكانكِ أن تعودي إلى مقعدكِ أيضاً "

ولكنّي لم أعدْ لمقعدي ؛ كان هناك مقعدٌ شاغرٌ بجوار تلك الـ ( ساندي ) فجلسْتُ فيه ، ونظرْتُ للمحاضرِ فوجدْتُه ينظر جهتَنا في استغرابٍ ، ولكنّه قرر أن هذا ليس مسلسلاً أسبانيًّا ، فاستمرّ في محاضرتِه ، وتابعْتُه بالكادِ بسبب انشغالي بانشغال ( ساندي) التي ظلَّتْ تلهو بمحمولها طيلة المحاضرة ، فلمّا انتهَتْ جاء صوتُ المحاضر ليعيد أجواء المسلسل الأسباني :

- " ( ساندي ) ، ( دينا ) ! هلّا جئتما إلى هنا رجاءً! "

كان الجمْع يواصل الانصراف عندما تقدمْتُ إلى مقدمة القاعة ، وووصلَني صفيرُ بعضِ الماجناتِ ، وكأنّها تقترح أن شيئًا ما سيحدث فنظرْتُ إليها في اشمئزازٍ ؛ كان ذلك المحاضرُ وسيماً وصغير السنّ نسبيًّا ، ولكنّ هذا لا يعني أيَّ شيءٍ بالنسبة لي ، الأمر لا يعدو مقترحاً أحمق من الشركة لتطوير كفاءة الموارد البشرية بإعداد دورات في علم النفس والفلسفة يشارك فيها كبارُ أساتذة الفلاسفة الجامعيين ، كان هذا ما تقوله الدعاية ، وربما بسبب ولعي بالفلسفة فقد قبلْتُ المشاركة في هذه الدورة المجانية ، ولا زلْتُ لا أرى في الموضوع أكثر من الفلسفة ، لا شيء أكثرَ من ذلك !

كنا قد وصلْنا إلى بداية القاعة ، فوقفْنا أمام مكتبِه ، بينما هو يُدْخِلُ بعضَ الأوراقِ في حقيبتِه تأهباً للانصرافِ ، وعندما فرغ من ذلك كانَتِ القاعة خاويةً إلا من ثلاثتِنا ، ونظر تجاهَنا وقد عاد إليه مللُه ولا مبالاتُه ثم قال :

- " لقد بقيَتْ لي محاضرتان أو ثلاثة في هذه الشركة  ولا أريد مشاكل ، في الواقع أنا لا أدري كيف تعاقد هؤلاء مع جامعتي لأعطي هذا المحاضرات ؛ مَن سمح بهذا الموضوع ؟! ولكنْ ربّما لأنها شركة عامة لا تملك إمكانيات كافية لطلب محاضرات من هؤلاء الذين يؤلفون كتباً عن كيفية تحقيق النجاح وأنت نائم ، وهذه الأشياء! "

- " مدربو التنمية البشرية ! "

- " نعم ، هذا هو اسمهم ، شكراً ( دينا ) ! "

- " أنا أيضاً كنْتُ أعرفُ الإجابةَ ، ولكنّي لم أشأ أن أقاطعَكَ! "

- " حسناً ، شكراً لكِ أنتِ أيضاً يا ( ساندي )! المهمّ : أنا أتمنى أن تمر المحاضرتان الباقيتان على خيرٍ ، معظم الحضور كما تريان لا يهتمون كثيراً بما أقوله ، ولكنّ شجار فتاتين سيستدعي اهتماماً سلبيًّا ، وسيحول بيني وبين أداء عملي ، كما أنّ... "

لم أستطعْ أن أمنعَ نفسي من مقاطعتِه :

- " المعذرة ، ولكنّي أعتقد أن الأمر أكبر من شجار فتاتين ، قبل أن أوجد أنا في الصورة ، كانتْ ( ساندي ) قد قاطعَتْكَ ، وقالَتْ أنك لا تحسن الشرح ، وقلَّلَتْ من شأنك ! ثم ظلَّتْ بقية المحاضرة تلهو بمحمولِها "

- " أنتِ فعلاً حقيرةٌ ، هل تدرين ذلك؟ "

جاء صوتُه وكأنه أبٌ متعبٌ من شجار أبنائه :

- " ( ساندي ) رجاءً لا داعيَ للألفاظ السوقيّة ! "

- " هذا هو كلّ ما تراه ؛ الألفاظ السوقية ؟! لقد تطاولَتْ عليّ قبل قليلٍ! "

- " أنا لم أتطاولْ عليكِ ! "

- " كفّا ! كلاكما! هل هذه روضة أطفالٍ ؟! أنا أستاذ جامعيّ لا يفهم معظم طلبتي ما أقوله ، والآن أضطر إلى إسكاتِ هذه وإرضاء هذه ... حسناً سأنصرفُ الآن ، فقط كفّا عما تفعلانِه في محاضرتي ، واصنعا ما شئتما خارجَها ، هل هذا واضحٌ ؟ "

- " لا ! "

كانتْ هذه هي ( ساندي ) بتبجحها المعتاد ... نظر إليها في ذهول ، ثم قال :

- " هذا غير واضح ؟! "

- " بل هذا واضحٌ ، ولكني أعترض عليه ، لا يمكنك أن تتهرب من مسئولياتك ، ما سبَّبَ كلَّ هذا هو أنك لا تقوم بواجبك على الوجه الأمثل , ولا تشرح شرحاً جيداً ؛ إنك حتى تتفاخر بأن معظم طلبتك لا تفهم ما تقوله ؛ لا يوجد عاقلٌ يفتخر بهذا !! "

- " ( دينا ) ، بإمكانكِ أن تنصرفي الآن ، لقد اتضح لي سببُ المشكلة ، وأنتِ قابليني في مكتبي! "

- " ليس لك مكتبٌ هنا أيها التائه ، هذه شركة وليسَتْ جامعةً "

شهقْتُ في ذهولٍ ، هذه الفتاة جريئة بالفعل ... ونظرْتُ إلى وجهه وهو يتحول إلى الأحمر القاني ، ثم قال  _ويكاد اللهب يخرج من منخريه_ :

- " سأريكِ كيف أنا تائه !! "

- " ماذا ستفعل ؟ ستطلب مني بطاقتي ؟ أمْ ستحرمني من دخول الامتحان ؟ هذه شركة وليس لك سلطانٌ فيها! "

كانتْ محقّةً ؛ ليس بيده شيءٌ هنا ، فقطْ عليه أن يكظم غيظَه وينصرف، ثم تذكرْتُ أنّ عليّ أنا الأخرى أن أنصرفَ ، فقلْتُ :

- " حسنًا سأترككما لإكمال هذه المناقشة وحدكما. وأذهب لشأني "

وهنا جاءني صوتُ ( ساندي ) وقد تخلى عن صلفه ، وبدا في الواقع عذباً ومفعماً بالأنثوية _ لقد كانتْ ( ساندي ) فاتنةً ، ولكنّ فتنتَها تستتر وراء كل هذه الصور العدائية التي تقوم بها _ :

- " رجاءً ، لا تتركيني وحدي مع هذا الوحش ! "

كان منظر المحاضر الغاضب مخيفاً بالفعل ، ولكنّه رجل أكاديمي وليس رجل غابة ، كما أن قاعة المحاضرات هذه ليسَتْ مكاناً مهجوراً ... فلا داعي لهذا الخوف !

ثم فطنْتُ فجأةً إلى القصة كلِّها ؛ إنها تغضبه عمداً ، وتتمادى في الاستهزاء بما يستطيع أن يفعله بها " هذه ليست جامعتك ؛ هذه شركتي ، لن تستطيع أن تمارس سلطانك المعتاد على من يغضبك من الطلبة ، عليك أن تلجأ إلى وسيلة أخرى " هذا ما تفعله ، والآن تستغل مغادرتي لتظهر له أنها خائفة منه وتريد مني أن أمنعها منه حتى يقوى عزمُه على البطشِ بها ... ولا أدري أيَّ شيطانٍ تلبسني ، ولكنّي قرَّرْتُ أن أفضح سرَّها بكليَّتِه للمحاضر ، فأخبرْتُه بكلِّ ما خطر لي للتو من دوافع صاحبتي ومخططها ...

وإن أنسَ لا أنسَ منظرَها وهي ترمقني في غضبٍ وغلٍّ ، والمحاضر يسألني :

- " ولكنْ لماذا تعتقدين أنها فعلَتْ ذلك ؟ "

- " خلافاً لرأيك الذي ذكرْتَه قبل قليلٍ ، فإن الكثيرين يرون أن الاهتمام السلبي أفضل من عدم الاهتمام ؛ خصوصاً في أمور الحبّ ! "

- " أيتها الحقيرة المنحطة ! "

كان ما كشفْتُه من خبيئة نفسِها أكبر من أن تكتفي بسبي عليه ، فصعَّدَتِ اعتراضاتِها ، وحاولَتْ أن تمسك بشعري ، وحاولْتُ أنا أن أهربَ منها ، فانتهى بي الحالُ على الأرضِ ، وقد أحاطتْ وسطي برجليها ، وشدَّتْ شعري وكأنها تحاول نزعَه من فروتِه ، وكان الألمُ حارقاً ، ولكنه لم يستمر ، إذ سرعانَ ما خطفها المحاضر من الأرض ، وجذبها من ياقتِها ، وهي تحاول العودة إلى جسدي الممدد على الأرض لتكمل جنايتَها عليه ... ولكنّ قبضة الرجل كانتْ قويَّةً فعلاً ، فلم تتحرَّكْ قيد أنملةٍ من مكانِها ، وقمْتُ أنا بسرعةٍ ، وأعدْتُ هندمة ملابسي ، ونظرْتُ إليها وهي لا تزال تحاول الإفلاتَ والوصولِ إليّ ، واعترَتْني رغبةٌ عارمةٌ في إهانتِها وإيذائها جسديًّا ومعنويًّا ، ولما كانتْ على الذي يظهر أقوى مني ، فقد عدلْتُ إلى الإهاناتِ المعنوية ، فقلْتُ وأنا أصطنع اللامبالاة :

- " وهو حبٌّ بائسٌ على أيّة حالٍ ، فما الذي سيغري شخصاً عاقلاً بالوقوع في غرام همجية جاهلة ترد على اللسان باليد ، وإذا سمعَتْ جملةً تزيد عن ثلاث كلماتٍ أعلن عقلُها استسلامه ورفع الراية البيضاء وتفرغ لأحلام اليقظة! "

كان السباب الذي خرج منها بعد ذلك من السوقية بحيث احمرّ له خدا المحاضر نفسِه ، ولا أعتقد أنّني ألومه ، ولكنّ السباب لم يكنْ موجَّهًا له هو بل لي أنا ؛ كل شيءٍ مقدسٍ بالنسبة لي وصله جزءٌ من لعناتِها ؛ أمي وأبي وأسرتي وأبنائي الذين لم أنجبهم ولم أحمل فيهم بعد ؛ كانتْ بطلةَ عالمٍ في السبّ والشتم ، ولهذا فعندما حملَها المحاضرُ حملاً وكبّها لوجهها على المكتب ، لم أستطع منعَ نفسي من الشعور بالظفرِ وبلذة الانتقام ، كنتُ أعلم ما سيحدث بعدَها ؛ هذه هي  أسرع عقوبة جسدية من الممكن تطبيقها بدون ترتيبات وبدون وسائل ولا أدواتٍ مساعدة ، ومع ضمان استقرار المعاقب في مكانه ....

كانَتِ القاعةُ خاليةً وشبه عازلة للصوتِ لطبيعة تخصيصها للمحاضرات والندواتِ ، ولكنْ من الممكن أن يفتح أحدٌ البابَ في أي لحظة ، ولهذا فقد سرْتُ إلى البابِ وأغلقْتُه بالمفتاح ، ولم أكتفِ بذلك حتى قمْتُ بتشغيل أجهزة التكييف على الرغم من أننا في نوفمبر ، حتى تزول أي شكوك في مقدرة أحدٍ في الخارج على سماع صوتِها وهي تتأوه من الألم ؛ ولكنّها لم تتأوه من الألم ؛ لمْ يكنْ ما يصدرُ عنها من أصواتٍ ناشئاً عن الألم ولا عما يشبه الألم ، ولو لم أكنْ أرى بأم عينيّ وأسمع بأم أذنيّ صفعاتِ المحاضر وهي تهوي على ردفيها بأشد قوة ممكنة ، لظنَنْتُ هذه الأصوات الصادرة عنها ناتجة عن شيءٍ آخر ! وفطن المحاضرُ أيضاً إلى ما يحدث فقال في غضبٍ :

- " ما الذي تفعلينه ؟! "

- " أ.. أ.. أتلقى عقابي!  "

لك أن تتخيل مقدار دهشة المحاضر وقد تجاوز كل الأعراف والتقاليد الأكاديمية والذكورية والشرقية والغربية والشمالية والجنوبية ودفعه الغضبُ من هوْلِ ما سمعه من سبابٍ إلى أنْ يُقْدِمَ على هذا العمل الذي يفترض أنْ يَقْرَعَ عليه السِّنَّ من ندم بمجرد انتهائه ... لك أن تتصور دهشتَه عندما يجد هذا العمل بعينه قد أنتج هذه النتيجة الغريبة المفاجئة ...

ورفع يده اليسرى التي ظنّ أنها هي التي أبقَتْها ملتصقةً بالمكتبِ ، فظلَّتْ ملتصقةً بالمكتبِ ، وكفَّتْ يده اليمنى عن ستْهِ ردفيها ، فالتفتتْ برأسِها تجاهه ، وسألَتْ سؤالَ جائعٍ للطعام :

- " ألن تستمرّ في عقابي ؟ "

- " هل تريدين ذلك ؟! "

- " لا ! ولكنّي أستحقّه ! "
***

رفع ( هشام ) عينيه إلى زوجتِه ، وقال :

- " هذه هي نهاية القصة ؟ "

- " بالطبع لا ! ولكني لم أعرفْ كيف أنهيها ، على أية حالٍ ، هل يمكننا أن نلعب هذا السيناريو الليلة ؟ "

- " إن فيه ثلاثة أشخاص ! "

- " بإمكاننا أن نزيل هذه الـ ( دينا ) من الصورة ، في الواقع أنا لا أشعر بالارتياح لوجود امرأة أخرى تشهد عقابي ، إنَّ وجود امرأة أخرى  في المشهد يعكِّرُ صفوَه بالنسبة لي "

- " أنا على العكس من ذلك تماماً "

- " بالطبع إنك على العكس من ذلك تماماً ؛ إن الرجال مقززون! "

- " هل تحاولين تقليد بطلتك ( ساندي ) هذه ، لأنني على أهبة الاستعداد للعب هذه الشخصية الثانية .... ما الذي كانه اسمُه ؟ "

- " أنا لم أسمِّه ، اكتفيْتُ بمهنته ، على أية حالٍ : ما أريد أن نقوم به حتى لو كان في سيناريو آخر هو أن تلعب دورَ شخصٍ لا يربطه بي أي رابطٍ جنسيّ بل إنه مدفوع دفعاً بسبب شقاوتي إلى أن يعاقبَني بهذه الطريقة على الرغم من أنه لو راجع نفسه ولو لثانية لما جرؤ على هذا الفعل ؛ أيْ صدورُ عمليّة العقاب عن دوافع غير جنسية وغير مخطط لها على الإطلاق بل نتجَتْ بشكل عفويّ ، ثم تفاجؤ الشخص بأنّ ما يقوم به ليس عفويًّا لا يعرف كيف فكَّر في إحداثِها ، بل هو في الواقع شيءٌ خطَطْتُ له من البداية ؛ هذا التابو هو ما أرغب في التظاهر به! "

- " وهو ما يقودُنا إلى القصة غير المكتملة ؛ ما الذي يفترض أن يحدث عندما يكتشف المعاقب أن فتاتَه تكاد تُنْزِلُ من الشهوة ... "

- " تُنْزِل ؟! تُنْزِل ؟! ييييعع ! "

- " كيف تقولين إذاً ؟! "

- " لا أدري .. شيءٌ شاعريٌّ ! "

- " أنّ فتاتَه قد صارَتْ سحابةً ، وانتقلَتْ إلى جزءٍ باردٍ من الغلاف الجويّ فهي على وشْكِ أن تمطر بغزارة ؟ "

- " أعتقد أنك تخلط بين النساء والرجال ؛ إن النساء في المعتاد تندى ولا تُمْطِرُ! "

- " هذا ليس ما حدث البارحة! "

- " أوووه ، هذا لطيفٌ في حقك أن تعتقد أني فعلْتُ ،  كأنك قادرٌ على أن تصل بي إلى تلك المرتبة ! بل لقد كان كله تمثيلاً! "

- " تعالَي هنا ! "

- " ( هشام )! حبيبي ! أنا أمزح ؛ لقد كانَتْ أمطاراً استوائية البارحة ؛ لقد خجلْتُ من نفسي حتى!  "

- " تعالَي. هنا. الآن!! "

- " نحنُ لم نتفقْ على تفاصيلِ السيناريو بعد! "

- " هذا ليس سيناريو ؛ هذا هو ما تكتب حوله السيناريوهات! "

- " أنت بحاجة إلى نقطة ارتكاز حتى تعلم أيهما سبق الآخر! "

- " أنا لا أفهم ما تقولينه ، ولكنّ هذا لن ينجيَكِ من العقابِ ، انزعي كلَّ شيءٍ يا حلوة ، ودعينا نرسم الخطوط الحمراء على مؤخرتك حتى تذكرك بالخطوط الحمراء للمزاح!"

- " (الخطوط الحمراء والخطوط الحمراء) ؛ هذا تعدّد للمعنى ناتج عن الاستعمال المجازي ؛ لا بأس به ، ولكنه أٌقل قوة من المشترك اللفظي ! "

- " لا تخافي ؛ سيأتيك ما هو أكثرُ قوةً عما قليلٍ ! "

- " (قوة وقوة) ؛ لا زلْنا في تعدد المعنى ! "

- " هل تريدينني أن أقوم لأعرِّيَك بنفسي ، وحينَها سأنسيكِ معنى تعدّد المعنى "

- "(معنى تعدد المعنى) ! هذا ليس تعدد معنى حتى ! "

- " ( لـــيـــلـــى ) !! "

- <مواءُ هرّة >

- " تعرَّي! "

- <مواءُ هرّة متعجّلة >

- " فيمَ العجلةُ يا حلوة ؟ إنكِ لا تنزعين غلافَ هديّة ؛ رويداً رويداً ؛ إني أريد أن أستمتع بالمشهد! "

- <مواءُ هرّة كفّتْ عن التعجّل >

- " هكذا فلْيكُن يا متعةَ العينِ وجنّةَ النفسِ ؛ الآن يرى ردفاك مني ما يسوؤهما "

- " متى صار جزاء الإحسان الإساءة ؟! "

- " أما جسدُكِ فمحسنٌ لا شك في إحسانِه ، وأما لسانُكِ فمجرمٌ عريقٌ في الإجرامِ ، وإنه يُؤخَذ المحسِنُ بذنب المسيء! "

- " باب : ما جاء في لا تزر وازرةٌ وزرَ أخرى"

- " باب : ما جاء في العاقلة  "

- " هذا ردٌّ لا بأسَ به ! "

- " لو لم تكفي عن تقييم ردودي ، فسأردُّ ما يوشك أن يصير هزلاً جدّاً! "

- " بين ردودي وردّ _التي بمعنى صيّر_ جناسٌ , كما أنّ ما الموصولية : مفعول أول لـ(ردَّ) ، وجِدًّا : المفعول الثاني ، وصلة الموصول فيها خبر صار المنصوب ، وقع بينه وبين المفعول الثاني تضاد ، وتجاورا في المحل ؛ تضادٌّ وجناسٌ في جملة واحدة : لا بأسَ بذلك على الإطلاق ! "  

- " حسناً : هذا ما عملَتْه يداكِ ؛ تعالَي هنا ! "

- " كم تقول : تعالي هنا ، ولا آتي؟! ، فلو كنْتَ رجلاً لأغنَتِ الأولى عن الأخرياتِ ، ولكنْ جرّأني على تجاهل أوامركِ صِغَرُك في عيني ! "

ولأول مرة في زواجِهما الذي استمرّ سنتين ، يلمع الغضبُ في عيني ( هشام ) بهذا الجلاء ، فركضَتْ زوجتُه إلى مكتبِها عاريةً ، وكاد يطاردُها من فرط غضبِه عليها ، ولكنّها لم تمْهلْه حتى عادَتْ بأوراقٍ ، وسلَّمَتْها له كالمعتذرة ، وكان على وشك أن يغلق عقلَه الغضبُ ، ولكنّه تدارك نفسَه ، ونظر في الأوراق سريعاً ، فوجد فيها :

( قال هشام في سخطٍ :

 - " تعالَي هنا ! "

- " أرجوكَ ! على الأقلّ دعْنا نتفقْ على تفاصيلِ السيناريو أوّلاً ! "

- " هذا ليس سيناريو ؛ هذا هو الأصل الذي حاكاه السيناريو! "

- " أنت بحاجة إلى نقطة ارتكاز حتى تعلم أيهما سبق الآخر! " )

لم يكُنْ تبادلُهما لهذه الجمل قد مرّ عليه أكثر من دقائق ، وعلى الرغم منه شعر ( هشام ) بالتوجس من غرائبية الموقف ، ثم نظر مرة أخرى في الأوراق فوجد فيها العبارة الممضّة :

(
- " كم تقول : تعالي هنا ، ولا آتي؟! ، فلو كنْتَ رجلاً لأغنَتِ الأولى عن الأخرياتِ ، ولكنْ جرّأني على تجاهل أوامركِ صِغَرُك في عيني ! "

ثم أمسكها إمساك النمر بالخشف ، وكان غاضباً عليها لمقالتها تلك فما أراد أنْ يمسّه من جسمها شيءٌ ، فطرحها على السرير ، وحلّ حزامه ، وهي تتمسك بملاءة السرير تمسك الغريق بمنجده ، ولمّا يمسَّها الحزامُ بعد ، فلما جعلَ الحزام يصبغ جلدَ ردفيها البَضَّ بحُمْرَةٍ قانيةٍ امتزجَتْ بالسرير امتزاج الخمر بالماء ، وعلا نحيبُها ... ولا يزال وقعُ كلمتِها تلك يرجح أثرُه بأثر نحيبِها ، فلا تحول رقةُ قلبِه عليها _لِما يرى من بكائها_ دون فعلِه لما يزيد البكاء ، حتى بلغ النحيب حدًّا رجح فيه على كلماتِها الحديدة تلك ، فكفّ زوجُها عمّا يفعلُ ، ونظر إلى ما قدَّمَتْ يداه ، وقد عادَتْ إليه نفسُه ، وسكتَ عنه الغضبُ , فكاد يبكي أسفاً على ما يرى مِن تكوّم الحسناء الرقيقة الباكية على فراشِه الذي طالما شَهِد ضحكاتِها من قبل، وقد بثَّتْ ما بقي فيها من قوةٍ في عضلاتِ صدرها وبطنها لتوسِعَ وتضيِّقَ رئتيها فتعلو شهقاتُها وزفراتُها باكيةً آنّةً .. فأرادَ أن يواسيَها ؛ ولكنْ : علامَ يواسيها ؟! على ما فعله بها ؟! ولم يستطعْ أن يمنعَ نفسَه... فدنا منها وجلس على السرير ، فنهضتْ وعانقَتْه وأقبلَتْ تتأسّف إليه كأنها هي المسيءُ وكأنه هو المحسن ... )

لم يكملْ ( هشام ) قراءةَ الأوراقِ ، ونظرَ إلى زوجتِه التي لا تزال ثيابها ملقاةً على الأرضِ ، وقال  :

- " لا مزيدَ من هذه الألعابِ ، لو سلَّمْنا بأنني أوصلَني الغضبُ إلى مثل ما وصفْتِه في قصتكِ ، لكان أحبَّ إليّ أن أموتَ من أن ألقاكِ بعدها بعد ما صنعْتُه بكِ ، هذا مفهومٌ ؟ "

هزّتْ ( ليلى ) رأسَها ، فأشار إليها لتدنو منه ، فدنَتْ .. وأجلسها في حجره وقبّلَها ، ثم قال :

- " لن أقدر على أن تمسّ يدي مؤخرتَكِ بشيءٍ _هزلاً ولا جدًّا_ هذه الليلة بعد هذا الذي قرأتُه ، ولكنْ ما كلُّ العقابِ يؤذي الجسدَ ؛ أنتِ محرومةٌ من كتابة أي قصة من هذا النوع لشهرٍ كاملٍ ! "

كانَتْ المعابثةُ تطلّ برأسِها من عيني ( ليلى ) ، ولكنّها جاهدَتْ نفسَها حتى لا تقول شيئاً عابثاً ، واصطنعَتْ ما أمكنَها من الوقارِ ، وهي تقول :

- " بالطبع إنّني أقدر رغبتَك في عدم نكْءِ الجرحِ _ الخياليّ الذي لم يقع _ ، وأشكرلك عفوَك عما فعلْتُه وعدم معاقبتي بشيءٍ! ولكني لا زلْتُ أرغبُ في التأكيد على النقطة التي أثرْناها في حوارِنا قبل قليلٍ عما إذا كانَتِ الفكرة تسبق الواقع أم أن الواقع يسبق الفكرة ؛ وأعتقد أنني قدْ أثبتّ _ إلى حدٍّ بعيدٍ _ أنّ خيال المبدع قد يشكّل الواقعَ في أحيان كثيرة! "

قبض ( هشام ) على ردفَي زوجتِه ، وهو يذكّر نفسَه بوعده الذي قطعه ألا يمس هذان منه سوءٌ في هذه الليلة ، فينهي نفسَه عن حطئهما ، ثم قال :

- " في المرة القادمة عندما تقومين بتجربة عمليّة ، لا تجعلي هذين في مرمى النيران "

- " هذه استعارة مرشحة ! ردٌّ جيدٌ ! "

- " ( لـــيـــلـــى ) !! "

_____________________


ليست هناك تعليقات: